19-أبريل-2022
خرجت عشرات التظاهرات الرافضة للتطبيع منذ لقاء البرهان بنتنياهو في 2020 (Getty)

خرجت عشرات التظاهرات الرافضة للتطبيع منذ لقاء البرهان بنتنياهو في 2020 (Getty)

طالعت بشيء من الدهشة والاستغراب مقال رأي لوزير العدل بالحكومة الانتقالية المحلولة نصرالدين عبدالباري، بصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، يدعو فيه سلطات الاحتلال لإدانة الانقلاب في السودان، معللًا ذلك بأن الدولة العبرية ستفقد شعبيتها في البلاد حال لم تقدم على الخطوة، خصوصًا في ظل الزيارات المتبادلة عقب الانقلاب والتي قد تفهم على أنها دعم إسرائيلي للسلطة الجديدة القديمة في الخرطوم.

الوزير الصامت عن كل شيء منذ الإجراءات التي أطاحت به مع زملائه بمجلس الوزراء الانتقالي في الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2021، لم يدبج مقالاته المطولة لا بخصوص الشهداء الذين سقطوا رفضًا للانقلاب، ولا بحق زملائه المعتقلين الآن وحينها في سجون الشركاء السابقين، لكنه خرج من صمته في مرات قليلة، أبرزها عندما امتنع السودان عن التصويت في الأمم المتحدة في مشروع القرار الأمريكي لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، والمرة الثانية في حث الاحتلال على إدانة الانقلاب حتى لا يخسر شعبيته في السودان! وفي المرتين لم يوجه خطابه للشعب السوداني ولا للجهر بمطالبه ومصالحه، بل كل ما يعنيه هو مصالح هذه القوى الاستعمارية، وهو الوزير الذي أتت به ثورة شبابية قدَّمت العشرات من الشهداء والجرحى في سبيل إعلاء شأن هذه البلاد. 

وصف وزير العدل السابق في مقالته بـ"هآرتس" الإسرائيلية، مقابلة البرهان لنتنياهو بـ"التاريخية"، وادعى عبر الصحيفة العبرية أن أغلبية الشعب السوداني يدعم التطبيع!

قلت طالعتها "بشيء" من الدهشة والاستغراب، لأن هذا التوجه ليس بالغريب عليه، فهو مثل الكثير من وزراء الحكومة الانتقالية الأولى والثانية، كان هانئًا في بلاد تموت من البرد حيتانها، بينما يزحف الملايين من شباب السودان في هجير الشمس تحت الرصاص من أجل الحرية والسلام والعدالة، الشعار الكوني الذي يتعارض مع كل ما يمثله الكيان الصهيوني وكل ما يأتي منه في فلسطين المحتلة والمنطقة العربية والمجتمع الدولي الذي لا يملك تجاه أفعاله البربرية في القدس ورام الله، سوى الإدانات المتكررة في محافله الرسمية وفي مجلس الأمن والأمم المتحدة.

الوزير في مقاله المطوَّل للصحيفة الإسرائيلية، وصف لقاء البرهان السري بنتنياهو في عنتيبي اليوغندية الذي ابتدر مسار التطبيع في العام 2020، وصفه بـ"الخطوة التاريخية والمهمة والجريئة". وهو اللقاء الذي تم دون إخطار مجلس الوزراء الانتقالي ولا قوى الحرية والتغيير، في بادرة أثارت حينها أزمة كبيرة بين الجهاز التنفيذي والحاضنة السياسية التي عدّته خرقًا للوثيقة الدستورية من جهة، والمجلس السيادي -التشريفي والذي ليس من صلاحياته تحديد العلاقات الخارجية للسودان- من جهة، والذي ابتدر باللقاء خطوة مصيرية بالنسبة للعلاقات الخارجية السودانية دون طرحها حتى على الشركاء المدنيين في الحكومة الانتقالية والحاضنة السياسية المدعاة، دعك عن المجلس التشريعي الغائب المغيب بفعل فاعل، والشعب السوداني الذي قابل الأمر مباشرة بتظاهرات رافضة لأي علاقات مع دولة الاحتلال، وببلاغ جنائي في حق البرهان ضمن صلاحيات قانون مقاطعة إسرائيل الساري حينها ومنذ خمسينات القرن الماضي في السودان.

قال الوزير في مقاله المليء بالمغالطات والتهويمات وما يرقى لدرجة الكذب الصريح في وقائع يمكن التثبت منها بضغطة زر، إن الجهات الرافضة للتطبيع في السودان هم "قادة آيديولوجيون وزعماء مجموعات صغيرة ولكن عالية الصوت ومنظمات أقليات"، مدعيًا أن الغالبية العظمى في السودان لم تُعبِّر عن رفضها للتطبيع. وهو يقصد بالأقليات والمجموعات الصغيرة والآيدليوجيين حزب الأمة القومي الحزب الذي يعد الأكبر في السودان، إلى جانب الحزب الشيوعي السوداني وهو أحد الأحزاب الكبيرة والراسخة في البلاد، وسائر قوى الحرية والتغيير التي أقامت الدنيا ولم تقعدها عقب لقاء البرهان، إلى جانب مجموعات الإسلاميين المؤثرة وذات القاعدة الكبيرة، وعامة الشعب السوداني الذي أظهر المؤشر العربي للعام (2019-2020)، أن الغالبية العظمى منه يقفون ضد التطبيع مع إسرائيل، حيث كشف المسح الأكبر والأكثر دقة للرأي العام في العالم العربي، أن (79) % من السودانيين يرفضون مجرد الاعتراف بدولة الكيان الصهيوني، مقابل (13) % فقط يؤيدون ذلك، فهل كل هؤلاء مجموعات صغيرة وأقليات آيديولوجية؟!

ادعى الوزير أن التفاعلات على مواقع التواصل "تظهر بوضوح" أن الشعب السوداني يفضل التطبيع وهو ما يكذبه الواقع وبحث بسيط على مواقع التواصل

وادعى كذلك أن التفاعلات على مواقع التواصل "تظهر بوضوح" أن الشعب السوداني يفضل تطبيع العلاقات، وإذا كان الحال كذلك، فلماذا أحاطت حكومته هو قضية التطبيع بكل هذه السرية وكل هذا الغموض الذي وصل درجة الإنكار المتكرر؟ ولكن قطاعات واسعة من الشعب السوداني على مواقع التواصل كانت واضحة في رفضها للتطبيع، وما إن كشف المتحدث بوزارة الخارجية حيدر بدوي صادق في آب/أغسطس 2020 عن الاتجاه للتطبيع مع الكيان الصهيوني، حتى ظهرت ردة الفعل الرافضة بقوة لهذا الاتجاه، فكان التفاعل الكبير على وسم "السودان ضد التطبيع" الذي لقي رواجًا كاسحًا، ما اضطر وزارة الخارجية للمسارعة بنفي تصريحات المتحدث الرسمي، وإعفائه من منصبه مباشرة.

وتستمر المغالطات والتناقضات في المقالة الغريبة المتزلفة للوزير السابق، فهو يدعي أن الانقلاب قطع مسار التطبيع، وأورد معلومة جديدة كانت غائبة عن الشعب السوداني؛ أن التوقيع الرسمي كان من المخطط أن يقام في واشنطن في تشرين الثاني/نوفمبر 2021، لكن الانقلاب "أخّر هذه الخطوة المهمة" على حد قوله، في وقت يقول فيه إن وفدًا إسرائيليًا زار السودان قبل الانقلاب، فيما كشف إعلام إسرائيلي عن زيارة لمسؤولين من الموساد للسودان عقب الانقلاب مباشرة ولقائهم بقادة عسكريين كبار، في إشارة لرضاهم عن الانقلاب بحسب محلِّلين عبريين، وهي الزيارات التي توالت وأثمرت عن تصريحات للبرهان تكشف عن طبيعتها، في استمرار لمسار التطبيع الذي ابتدره، ما يؤكد أن التطبيع كان وسيظل من مصلحة المكون العسكري، حيث أدى دوره المرجو للعسكر، وعطّل الضغط الأمريكي والدولي على الانقلاب، وهو ما دفع الولايات المتحدة للطلب من إسرائيل للضغط على العسكريين السودانيين لإنهاء الانقلاب، حيث قالت إدارة بايدن إنها تقدمت بالطلب "بسبب علاقات إسرائيل الوثيقة مع الجنرال عبد الفتاح البرهان، الذي لعب دورًا رائدًا في التطبيع الإسرائيلي السوداني"، بحسب موقع "The Times of Israel" في تقرير بعد أيام قلائل من الانقلاب.

https://t.me/ultrasudan

يتخوّف نصرالدين عبدالباري في مقاله على "سمعة إسرائيل في السودان"! ومصالحها الاستراتيجية في محاربة الإرهاب، نفس الطريقة القديمة التي اضطرت السودان لدفع أكثر من (300) مليون دولار مقابل إيقاف "التنمر" الأمريكي في قضية لم يشارك فيها أي إرهابي من السودان أو حتى حكومة النظام البائد لرفع اسم البلاد من قائمة الإرهاب عقب إسقاط النظام الذي وصمته أمريكا بالإرهاب، فبدلًا عن رفع اسم السودان مباشرة بعد الثورة، طالبت أمريكا بعشرة مليارات دولار منّت علينا بتخفيضها لثلاثمائة ويزيد من الخزينة الفارغة؛ فقط مجرد تنمر دولي على أمة مغلوبة على أمرها لنفس السبب الذي أتى بأشخاص مثل نصرالدين لمواقعها القيادية، ونفس السبب الذي أطاح بهم من مواقعهم: الارتهان للخارج.

لم تكن مصلحة إسرائيل في يوم من الأيام الصداقة مع الشعوب العربية أو الإسلامية أو أي شعب من شعوب العالم، بالذات في المنطقة المحيطة بها، فهي عبارة عن إدارة استعمارية ليس لها أي شرعية تجعل الشعوب الحرة تطمح للتصالح معها، وهي تعلم ذلك، ولذلك تحرص على إحاطة نفسها بدول عربية دكتاتورية (ويفضل عسكرية) لأسباب متعددة، أهمها بحسب المفكر العربي عزمي بشارة، الوصول لتفاهمات مع هذه الأنظمة دون إزعاج الرأي العام الرافض للكيان، بالإضافة لاعتقاد هذه الأنظمة أنه بإمكانها "الاستعاضة عن احترام حقوق الإنسان (وغيرها من القيم التي تدوسها) برضا الغرب عن علاقة النظام بإسرائيل"، وهو ما أكده نموذج السودان ويمضي عليه الانقلاب وقع الحافر بالحافر؛ فأي كيان يستجدي نصرالدين؟

يكرر خريج هارفارد الحجج الممجوجة والساذجة للتطبيع ويرجو فائدة اقتصادية من التعاون مع دولة الاحتلال

ويعود عبدالباري في آخر مقالته للتناقض مرة ثانية، مطالبًا إسرائيل بإدانة الانقلاب لتغيير تصور "العديد من السودانيين" عن دولة الاحتلال، نفس من وصفهم بالأقليات في ادعائه مطلع مقالته أن السودانيين يدعمون التطبيع، فهو يكتب كيفما اتفق له في منطق التزلف لمن ساهموا في رميه من كرسيه في سدة الوزارة.

ويكرر الوزير السابق خريج جامعة هارفارد، الحجج الممجوجة والساذجة للتطبيع وتوقيعه على اتفاقات أبراهام، عن الفائدة الاقتصادية المرجوة من التطبيع؛ هذه "المساومة الرخيصة" التي يكذبها واقع الدول المطبعة بالكامل في المنطقة، مثل جنوب السودان وإريتريا وأوغندا وتشاد وغيرها، فهل ساهم التطبيع في أمرٍ غير ترسيخ القبضة الدكتاتورية للحكام العسكريين المدعومين من الاحتلال؟ هذه الطيور على أشكالها تقع سيدي الوزير!