24-أغسطس-2020

(فيسبوك)

أثار تصريح المتحدث الرسمي المُقال من وزارة الخارجية السودانية عاصفة من ردود الأفعال والنقاشات الشعبوية في المجال الافتراضي السوداني، وانقسمت الآراء بين تيارين: التيار الأول من المؤيدين البراغماتيين الذين  يختبئون وراء لافتات وطنية تتظاهر بالعقلانية والواقعية وتستبطن نزعة شوفينية محلية وكلبية لا أخلاقية تجزئ العدالة والمبادئ، وتيار آخر من الرافضين للتطبيع من منطلقات أيديولوجية ومواقع سياسية مختلفة يجمع بينها أنها لا تمتلك التأثير الكافي على عملية صنع القرار سواء أكانت في الحكومة السودانية أو المعارضة، رغم أنها تتحدث من موقع قوة خطابية لا سيما وأن خطابها لا يزال هو الأقرب للوجدان العام والأوسع نفوذًا اجتماعيًا وثقافيًا.

يتكئ التيار الداعي للتطبيع مع إسرائيل على تفسيرات زائفة لطبيعة الصراع تستند على قراءات مغلوطة للتاريخ وللواقع

سأحاول في هذا المقال -ومقالات أخرى ستأتي تباعًا- أن أنشبك نقديًا مع تيار البراغماتيين المطبعين باعتباره تيارًا شديد السيولة، تحديدًا مع المقدمات المتهافتة التي يتكئ عليها وهي عبارة عن تفسيرات زائفة لطبيعة الصراع تستند على قراءات مغلوطة للتاريخ وللواقع. دون أن أعفى التيار الرافض للتطبيع من النقد، وهو نقد يهدف إلى ترشيد وتطوير خطابه أو إعادة إنتاجه في إطار تحرري ديمقراطي بعيدًا عن لوثة سياسات الهوية وفخ تديين الصراع. وعليه سيكون هذا المقال بمثابة توطئة لما سأقوم به لاحقًا من نقاش سياسي وثقافي عن قضية التطبيع مع إسرائيل، سودانيًا.

اقرأ/ي أيضًا: تصريحات التطبيع.. حينما تخالف الحكومة القانون!!

رفع الالتباس

هنالك لبس كبير مصاحب لعملية نقاش القضية الفلسطينية سودانيًا، وهو يرجع إلى طغيان اللغة الأيدولوجية والاستثمار الأداتي للقضية الفلسطينية من قبل النظام البائد، قد أنتج النظام حالة من الارتباك والتخبط تعيق فهم القضية في إطارها الصحيح والواقعي، وهو الإطار الذي وصفه بموضوعية ودقة متناهية المفكر العربي عزمي بشارة، حين قال إنها: "قضية تحرر وطني، إذ وقع الشعب الفلسطيني ضحية استعمار كلاسيكي مهد الطريق لاستعمار آخر استيطاني إحلالي"، وهذا هو العنصر الأهم في شرعيتها وعدالتها.

وهي من جانب آخر نتاج غير مباشر للمسألة اليهودية التي تمثلت في العداء للسامية وما تمخض عنه من اضطهاد ممنهج لليهود في الغرب، بلغ ذروته مع الهولوكوست النازي الذي راح ضحيته ستة ملايين من اليهودي المدنيين، ونشوء الحركة الصهيونية نفسه ليس بمعزل عن الأمر، فقد كانت بهدف تحرير اليهودي الأوروبي من ثنائية المنفى والاضطهاد عن طريقة قومنة اليهودية وبناء وطن قومي ينهى الشتات اليهودي.

ووقد تم تحميل الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة العربية عمومًا تبعات المسألة اليهودية بعد تصديرها كولنياليًا. المفارقة المأساوية تكمن في تحول المضطهدين القدامى بمعاونة جلاديهم الساعيين للتطهر من خطيئة العداء للسامية والمحرقة، إلى مضطهدين جدد ينفون منفاهم عبر نفي الآخرين.

تديين أم تزيف الصراع؟

نسمع كثيرًا هنا وهناك في خضم المعارك الشعبوية في المجال الافتراضي العربي محاولات دائبة لفهم القضية الفلسطينية باعتبارها قضية صراع ديني بين الإسلام واليهودية، أو كعداء وجودي بين المسلمين واليهود. ويستند هذا الفهم إلى ميتافيزيقا تأويلية تعيد سرد التاريخ وتفسير النصوص لتجعل من هذا الصراع  أمرًا فوق تاريخي، لديه استمرارية تاريخية وأبدية، وهذه العملية بمثابة خطيئة في حق الموضوعية يتحمل وزرها طرفي النقيض. وإذا أمعنا النظر لمسألة تديين الصراع سنجد أنه لا يعدو أن يكون فخًا صهيونيًا يدفع بأعدائه لمواقع معاداة السامية ومؤديه إلى تبني السردية الصهيونية. فنجد أن  كثيرًا من الإسلاميين التقليديين يسقطون في هذا الفخ بوعي أو لاوعي منهم، حيث يساوون بين اليهودي والصهيوني، فليس كل يهودي صهيوني وكما ليس كل صهيوني يهودي بالضرورة.

اقرأ/ي أيضًا: خفة التطبيع في السودان

فهناك  مجموعات من اليهود ترى في قيام دولة إسرائيل عملًا ضد الإله، أي أن رفضها يستند إلى مسوقات دينية مثل حركة ناطوري كارتا التي ترفض الصهيونية وتعادي قيام دولة إسرائيل. وبالمقابل يوجد متحمسون لإسرائيل وداعمون لسياساتها من غير اليهود، بل يمكن أن نذهب أبعد من ذلك مع الأديب والمناضل في حركة الحقوق المدنية إبان الفصل العنصري في أمريكا جميس بالدوين في قوله: "ليس من الضروري أن تحب اليهود لكي تكون صهيونيًا، أنا شخصيًا أعرف العديد من الصهاينة المعادين للسامية"، هذا الوصف ينطبق على المسحيين الإنجيليين ورؤساء الدول الغربية وأثرياء الخليج. كما أن تديين الصراع  يجعل  المؤيدين للقضية الفلسطينية يتبنون السردية الصهيونية التي تتخيل ذاتها من خلال أساطير دينية توراتية على أنها شعب الله المختار، وأن إسرائيل أرض الميعاد، واعتبار السكان الفعليين الذين شردوا وهجروا قسريًا مجرد لحظة طارئه في تاريخ المكان.

الموضع الصحيح للقضية

هنالك مثقفون عرب يعرفون أنفسهم كتنويريين وعلمانيين وليبراليين ونقاد ثقافيين ينحون حسهم النقدي جانبًا ويتحولون إلى قاصين لسرديات كبرى تحتاج لقدر متوسط من الذكاء وحد أدنى من الحس الأخلاقي لتدرك أنها مجرد مقدمات توتاليتارية تستخدم لتبرير التشريد والإبادة والقمع الممارس بواسطة الاحتلال الإسرائيلي، ومهمة المثقف بحسب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو هي تفكيك الأبنية السردية والمعرفية والأيدولوجية التي تتوسلها السلطة لتبرير القمع.

الصهيونية ليست فرقة دينية بل حركة شوفينية استثمرت في الرمز الديني وذاكرة المظلومية واللغة العبرية كأدوات للإيحاء بأنها جماعة قومية

ينبغي أن نضع القضية الفلسطينية في إطارها التحرري باعتبارها أخر قضية كولنيالية، وأن نكف عن تديين الصراع لأنه فخ صهيوني منصوب بدهاء وخبث، والسقوط فيه يعني تزييف الصرع، فالحركة الصهيونية ليست فرقة دينية بل حركة شوفينية استثمرت في الرمز الديني وذاكرة المظلومية واللغة العبرية كأدوات للإيحاء بأنها جماعة قومية، بينما هي حركة عنصرية بمشروع سياسي استيطاني إحلالي طويل المدى، تمخضت عن دولة فاشية شوفينية متوحشة على غرار النازية الألمانية ونظام الأبارتهايد على ذات النسق الجنوب إفريقي.

اقرأ/ي أيضًا

التطبيع الإماراتي.. بعيدًا عن فرية إلغاء خطة الضم

فوضى التطبيع تفتح النقاش عن مستقبل الانتقال الديمقراطي في السودان