09-ديسمبر-2020

لجأ آلاف الإثيوبيين إلى السودان حتى الآن مع توقعات بأن يصل عدد اللاجئين إلى (200) ألف في غضون أسابيع (Getty)

موجة تلو موجة يتدف سيل اللاجئين الفارين من الحرب الأثيوبية، عشرات الآلاف أصبحوا بين ليلة وضحاها مشردين بعد أن هجروا ديارهم فرارًا من دوي المدافع والقصف والقتل، وتوجهوا صوب الحدود بعدما كتب عليهم مفارقة موطنهم طلبًا للنجاة بأرواحهم، فامتلأت المعسكرات بإمكانياتها الفقيرة شبه المنعدمة، وبضعف استعدادها لاستقبال اللاجئين. وها هم الآن يعانون من الجوع والمسغبة، مع بطء في التحرك لإغاثتهم داخل إثيوبيا وفي الأراضي السودانية.

هكذا هي لغة الحرب

وإلي أن تضع الحرب أوزارها، يستمر تدفق موجات النزوح الجماعي للاجئي التيغراي الفارين إلي شرق السودان. أغلب الظن وكما هو الحال دائمًا، أنهم يفرون من حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، بل إن نصيبهم منها لا يحمل إلا القتل والإصابات والدمار والنزوح عبر طرق وعرة، تاركين خلفهم حاضر تمزقه الحرب، ولكنه يحمل في طياته تاريخهم وحضارتهم وذكريات البلد والبيت وتفاصيل اليوم، تاركين كل ذلك إلى مستقبل مرير ولكنه طوق النجاة الوحيد المتاح أمامهم.

على الحكومة وضع إستراتيجية للتعامل مع موجة اللاجئين قبل أن تتحول إلى كارثة

يعيش ستة في المئة من سكان إثيوبيا الذين يزيد عددهم عن (100) مليون نسمة في إقليم التيغراي المعزول حاليًا عن العالم بسبب قطع خدمات الاتصالات لظروف الحرب التي تستعر نيرانها بين الحكومة المركزية في أثيوبيا وجبهة تحرير شعب التيغراي "TPLF". من هؤلاء الستة مليون من سكان الإقليم، هناك مليوني شخص كانوا بالفعل بحاجة إلى المساعدة الإنسانية.

حتى الآن وصل أكثر من (43) ألف لاجئ إثيوبي -حوالي أربعة آلاف لاجئ يوميًا نصفهم من الأطفال- إلى السودان منذ بدء أعمال العنف في الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، بينما تقدر الأمم المتحدة أن العدد قد يرتفع إلى (200) ألف لاجئ خلال الأشهر الستة المقبلة.

اقرأ/ي أيضًا: إثيوبيا.. حرب أهلية أم إقليمية؟

تتصارع الأفيال ليعاني العشب مفرزًا الموجة الثالثة من النزوح الجماعي للشعوب الإثيوبية الإريترية لداخل السودان، بعد الفترة الأولى الممتدة من العام 1991 وحتى العام 1994 أثناء حكم "نظام الدرق" بزعامة منغستو هيلا مريام، والفترة الثانية الممتدة من العام 1998 وحتى العام 2000 أثناء الحرب بين إثيوبيا وإريتريا.

السودان هو البلد ذو التاريخ الأطول من حيث حركات النزوح واللجوء في القارة الإفريقية، ويعد وجهة كلاسيكية وبلد عبور للمهاجرين واللاجئين، خاصة الإريتريين والإثيوبيين الذين يشكلون أكثر من (70)% من إجمالي عدد اللاجئين في السودان، حيث يعيشون في المخيمات وأيضًا في المناطق الحضرية، وتمتد فترات إقامتهم كنازحين أجانب في شكل لجوء مطول. حتى إن حوالي (60)% من هؤلاء اللاجئون قد ولدوا وعاشوا جل حياتهم في السودان.

وبالرغم من الصعوبات الجمة التي يواجهها اللاجئون بشكل عام واللاجئات بشكل خاص في السودان، من صعوبة في الحياة واضطهاد الدولة والشارع وأحيانًا التهريب والإتجار بالبشر والتعرض لكافة أنواع الاستغلال؛ إلا أنه وبالمقارنة مع دول العبور الأخرى في المنطقة، فإن السودان يوفر بعض مساحات العيش. نتيجة لذلك، يختار بعض المهاجرين البقاء في السودان، فنجد أن هناك مجتمعات شتات كبيرة في الخرطوم من الإثيوبيين والإريتريين، وتنخرط العمالة المهاجرة من البلدين في مهن مختلفة في القطاع غير الرسمي، وأحيانًا أيضًا كمهاجرين غير نظاميين.

اقرأ/ي أيضًا: إثيوبيا.. مرجلٌ يغلي

ربما كان لتاريخ اللجوء وخصوصية العلاقة، والضيافة الشعبية والرسمية والبنية التحتية المؤسسية والقانونية التي قام بوضع لبناتها السودان في زمان مبكر، دور مهم في وضع السودان آنذاك على قائمة الدول التي قدمت نموذجًا رائعًا في استضافة اللاجئين.

تدير الآن الحكومات المحلية ومنظمات الإغاثة افتتاح معسكرات أخرى لسد الحاجة

يعبر بعض اللاجئون "المحظوظون" إلي أن يصلوا الحدود الشرقية للسودان بعد رحلة شاقة جدًا إلي مركز التسجيل في حمداييت. أحيانًا بعد فترة انتظار طويلة بسبب نقص الوقود، ثم يتم توزيعهم إلي (قرية 8) أو إلي معسكر (أم راكوبة)، حيث وصل الموقعان بسرعة شديدة إلى أقصى طاقتهما الاستيعابية، وتدير الآن الحكومات المحلية ومنظمات الإغاثة افتتاح معسكرات أخرى لسد الحاجة.

أما الحال في معسكرات اللجوء فهو يغني عن السؤال، كما ورد في تحقيقي الصديقين الأستاذة شمائل النور والأستاذ محمد أمين. فعلى سبيل المثال، فإنه عند زيارة مناطق اللاجئين تأتيك أصوات اللاجئين صائحة "طعام"، أما المتحدثون باللغة العربية ينادون أنهم "جوعى"، حيث أن الطعام المقدم لهم لا يكفي لسد الرمق ولا يتعدى القليل من العدس والعصيدة، أما النساء كالعادة؛ منسيات، ويمثل حصولهن على الفوط الصحية هاجسًا كبيرًا لا يعبأ به غيرهن، رغم أهميته الكبيرة وحساسية الحديث عنه.

ويوجد مركز صحي واحد فقط حتى الآن تديره منظمة "ميرسي كوربس"، التي رصدت حالات متكررة وسط اللاجئين من سوء التغذية والحمى والتهاب الكبد الوبائي والأيدز والكورونا، حيث تم رصد (6600) حالة إصابة بوباء الكورونا و (45) حالة وفاة قبل استعار الحرب.

نظام حماية اللاجئين في السودان

تنقسم أنواع أنظمة الدولة فيما يتعلق بحماية اللاجئين إلى ثلاثة أنظمة، بحسب خبراء الهجرة:

  1. النظام الليبرالي: وهو النظام الذي تستخدم فيه "الدولة المضيفة آليات مثل التعليم أو التوظيف أو الهياكل القانونية في محاولة لدمج" غير المواطنين في النظام الوطني، "نورمان 2018، 43".

  2. النظام الإقصائي: وهو النظام الذي يلجأ -على عكس الأنظمة الليبرالية- للسياسات القمعية لتنفير و"احتمال إبعاد غير المواطنين عن الدولة"، مما يعيق اندماجهم في المجتمع.

  3. نظام غير مبال: حيث تقوم الدولة المضيفة "بتفويض المنظمات الدولية والجهات الفاعلة في المجتمع المدني لتقديم الخدمات الأساسية للمهاجرين واللاجئين" لأنها تختار بوعي "عدم إنفاق الموارد" عليهم، "نورمان 2018، 43".

اقرأ/ي أيضًا: سلام جنوب السودان.. انشغال الضامن وغياب الوسيط

وبالرغم من عمومية هذا التصنيف وعدم دقته، فإن المتأمل لسياسات الدولة ذات الصلة باللاجئين في السودان على مدى التطور التاريخي بشكل عام، يدرك أن السودان قد اعتاد أن يتبع لأقصى جهوده "نظامًا ليبراليًا".

أظهرت سياسات الدولة على مدى السنوات الأخيرة؛ تحولًا من نظام ليبرالي إلى نظام غير مبالٍ

فقد قدم السودان في وقت ما، مثالًا ممتازًا لدولة نامية تقدم بشكل استباقي الضيافة للاجئين باستخدام مواردها الخاصة وحتى قبل وصول المجتمع الدولي، حتى قيل آنذاك أن السودان يمثل نموذجًا جيدًا حيث أنه لا يركن بالهمة للجهات الدولية.

من أمثلة ذلك، أن السودان يجسد أحد البلدان القليلة في المنطقة التي أصدرت "قانون لتنظيم اللاجئين" منذ عام 1974 "تم تعديله في عام 2014"، كما أنشئت معتمدية اللاجئين لتنسيق مساعدة اللاجئين وتسجيلهم وإجراء تحديد وضع اللاجئ "Refugee Status Determination". والسودان أيضًا هو أحد الدول القليلة التي تقدم تصاريح عمل محدودة لبعض اللاجئين والمهاجرين.

مع ذلك، أظهرت سياسات الدولة على مدى السنوات الأخيرة، تحولًا من نظام ليبرالي إلى نظام غير مبالٍ -وفي بعض الحالات نظام إقصائي، حيث يبدو أن السياسات الإنسانية المتعلقة بحقوق اللاجئين وحمايتهم، تواكب الموقف العالمي المتزايد العداء تجاه حقوق المهاجرين واللاجئين.

تجلى ذلك على سبيل المثال خلال العام الماضي في ظل الحكومة الانتقالية، عندما تم تطويق وجمع اللاجئين من منازلهم وأماكن عملهم ومن الشوارع، واقتيادهم إلى الحبس بدعوي أنهم لا يحملون تصاريح عمل، حيث أصدر السودان لوائح تنفيذية جديدة مؤخرًا لتنظيم ومراقبة الأجانب في البلاد، وحظرهم من ممارسة الأنشطة التجارية، ومما زاد الطين بلة، طلب "القائمون على إنفاذ القانون" من اللاجئين المحتجزين دفع ما بين (50) ألف و(100) ألف جنيه كغرامات من أجل إطلاق سراحهم.

استجابة الحكومة السودانية

من المهم أن تفي حكومة السودان بالتزاماتها الأخلاقية والقانونية تجاه استقبال وحماية اللاجئين، لأن السودان ضمن الدول الموقعة على الصكوك الدولية والإقليمية الرئيسية مثل: اتفاقية جنيف للعام 1959، واتفاقية منظمة الوحدة الإفريقية للعام 1969 والتي تنظم الجوانب الخاصة بقضايا اللاجئين في إفريقيا.

ما يتعارض علي سبيل المثال مع هذه المبادئ؛ هو تحفظ الحكومة السودانية على المادة (26) من اتفاقية 1959 المتعلقة بحرية تنقل اللاجئين، وبالتالي فإن الدولة تخلق لنفسها أساسًا قانونيًا لإلزام اللاجئين بالبقاء في معسكرات اللاجئين المعيقة للاندماج، فوجود اللاجئين في معسكرات لعقود ممتدة دون التوصل لحل دائم؛ يخلق أزمة هويات وأشكال غير قانونية من المواطنة، وبالتالي يحرم اللاجئين من العديد من المزايا والحقوق.

حتى الآن لم تتضح معالم خطة الاستجابة الإنسانية التي سوف تنتهجها الحكومة السودانية للتعاطي مع الأزمة، والتي يتسنى لها من خلالها أيضًا أن تشرف وتنسق علي عمل المنظمات الإنسانية الوطنية والدولية الفاعلة. حيث يعتمد السودان إلى حد كبير على دعم المنظمات الدولية فيما يتعلق بتطوير وتنفيذ سياسات وبرامج الهجرة، باعتباره بلدًا يفتقر للقدرات والموارد الكافية في هذا النطاق.

اقرأ/ي أيضًا: رحيل المهدي.. نهاية حقبة في تاريخ السودان

فتح السودان حدوده وتم الترحيب باللاجئين حتى من قبل المجتمعات المحلية والجالية الإثيوبية المقيمة بالسودان -وهذا عادة ما يحدث في بداية الأزمة قبل أن تنضب الموارد الشحيحة أصلًا ويصيب البشر الرهق والتذمر. فمثلًا تم تنظيم مبادرة أهلية هي عبارة عن قوافل تضامن سارت صوب معسكرات اللاجئين في حمداييت والهشابة.

اللاجئون لا يشكلون تهديدًا أمنيًا؛ بل إنهم هم من بحاجة إلى الأمن والحماية

من الضروري التذكير بأن هذه الموجة من النزوح ليست مؤقتة، وأن اللاجئين لا يشكلون تهديدًا أمنيًا؛ بل إنهم هم من بحاجة إلى الأمن والحماية، هذا ما يجب أن نتعلمه من التاريخ.

نحن الآن أمام أزمة إنسانية في طور التخلق، فهل ننتظر حتى تتفاقم لنأتي ونتنصل منها كما هو دأبنا؟ هل نخفق مرة ومرات أخرى في الإستجابة لنداء الواجب الإنساني؟ أدركوا أخواتنا وإخواننا الإثيوبيون، فإن ما يجمعنا بهم حسن الجوار وطيب المعشر، وقبل ذلك قيم التعاطف والتعاضد والإنسانية الرحبة.

اقرأ/ي أيضًا

التغيير في أمريكا.. بايدن ومآلات التطبيع

السلام وديمقراطية لوردات الحرب!