19-فبراير-2024
معبر أشكيت في الحدود السودانية المصرية

(Getty)

لا يمكن القول إن السودانيين يختبرون اللجوء إلى بلدان مجاورة أو إقليمية لأول مرة، لأن اللجوء هو ديدن عشرات الآلاف من السكان في هذا البلد منذ سنوات طويلة تلت حقبة ما بعد استقلال السودان، وذلك بسبب صعوبة إطفاء نيران الحروب.

"سياسة الملجأ البديل" التي كانت توفرها العاصمة الخرطوم لمن عانوا من ويلات الحرب في مناطقهم في أنحاء السودان لم تعد متوفرة حاليًا

الفرق هذه المرة أن اللجوء يحدث والسودانيون يشعرون أنهم بلا "حائط إتكاء"، وحتى وإن لجأ آلاف السودانيين خلال العقود الماضية إلى خارج وطنهم بسبب النزاع المسلح في إقليم دارفور وكردفان والنيل الأزرق، فإن بقاء العاصمة الخرطوم والمدن المجاورة خارج دائرة الصراع في ذلك الوقت كان يوفر "الحديقة" التي يمكن العودة إليها كلما اشتد الحنين إلى الوطن.

بل يمكن أن نمضي إلى أبعد من ذلك ونقول إن الخرطوم والمدن المجاورة لها تشكلت سكانيًا في السنوات الأخيرة، نتيجة عقود طويلة من الحرب في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.

"سياسة الملجأ البديل" التي كانت توفرها العاصمة الخرطوم لمن عانوا من ويلات الحرب في مناطقهم في أنحاء السودان، خاصة إقليم دارفور، لم تعد متوفرة حاليًا فالكل في الخارج يشعر أن البقاء سنوات قد يكون "خيارًا مريرًا" حال استمرار الحرب طويلًا.

لم تقتصر "سياسة الملجأ البديل" لضحايا الحروب في السودان على الخرطوم، بل شملت مدن مثل نيالا وزالنجي والفاشر والجنينة في إقليم دارفور، وشملت الدمازين وسنار وودمدني في جنوب ووسط البلاد، لذلك كانت الأطراف العسكرية المتحاربة لا تعول على كروت الوقت لإدارة القتال، لأن البدائل توفرت لضحايا بالنزوح نحو المدن الكبيرة داخليًا.

في حرب منتصف نيسان/أبريل 2023 بين الجيش والدعم السريع لم تعد هذه الخيارات موجودة، وعلى قلة الخيارات التي تتراءى لمئات الآلاف من ضحايا القتال المستعر منذ (10) أشهر، فإنها تبدو ضئيلة، وفكرة الانتقال إلى خارج الوطن هي التي تسود، لكن هل تكون الأرصفة الباردة في بلدان اللجوء أكثر حرارة في استقبال عشرات الآلاف من السودانيين لسنوات طويلة، وتوفير سياقات معقولة من العيش الكريم؟ الإجابة: لا، طبعًا!

قد تفرز حرب منتصف نيسان/أبريل في السودان واقعًا جديدًا في البلدان المجاورة، والتي تواجه هي الأخرى اقتصادات مترنحة وتآكل للعملة وتواضع قدراتها في توظيف الموارد المتاحة، إلى جانب التقاطعات الدولية التي لم تعد تتعامل بسخاء مع هذه البلدان.

ولم يحسن المجتمع الدولي والإقليمي التعامل بواقعية مع حرب السودان، في بلد يقطنه (45) مليون شخص قد يؤدي النزاع المسلح إلى لجوء ما لا يقل عن خمسة ملايين شخص في المنظور القريب والمتوسط إلى دول الجوار.

بعض الدول تعاملت بسخاء وسمحت بسياسة الأبواب المفتوحة، خاصة شرقًا نحو دول جنوب السودان وأوغندا كأكبر بلدين وضعا إجراءات مرنة أمام آلاف السودانيين الذين وصلوا إليهما خلال (10) أشهر، وما زالوا يتوافدون. فيما تراجعت بعض البلدان مثل مصر عن سياسة الأبواب المفتوحة منذ حزيران/يونيو الماضي، ووضعت بعض القيود التي تسببت تدفقات غير نظامية للاجئين.

ومع ذلك فإن سياسة الأبواب المفتوحة لدى دول تواجه اقتصادات مضطربة لن تستمر طويلًا، وقد تناقش البرلمانات هذه الإجراءات وتمارس ضغوطًا لمراجعتها ووضع القيود عليها، وقد يضطر المجتمع الدولي خاصة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي للتعامل بسخاء، وتمويل هذه الدول في المجال الإنساني لاستقبال عشرات الآلاف من السودانيين.

أما السودانيون في رحلات البحث عن اللجوء، يمكن قياس أوضاعهم المالية على أن المغادرين إلى خارج البلاد يشكلون بعض من كانوا يشكلون الطبقة الوسطى داخل البلاد، والتي لا تفضل البقاء في المخيمات وقامت بالسكن في المدن على النفقات الخاصة من خلال المدخرات التي بحوزتهم، أو تأمين المال عن طريق الأقرباء وأفراد العائلة في دول أخرى مثل الخليج وأوروبا والولايات المتحدة وكندا.

من الظلم وضع جميع اللاجئين السودانيين في خانة المقتدرين ماليًا لأن نسبة كبيرة قد تجد نفسها أمام مفترق الطرق كلما زاد وقت اللجوء لنفاد المال الذي بحوزتهم أو لارتفاع تكلفة البقاء في المدن ومقابلة متطلبات المدارس والعلاج والطعام.

لا ينظر المجتمع الدولي إلى حرب السودان إلا من خلال "ثقب صغير"، بينما تنقصه التقارير العميقة عن أوضاع المدنيين أثناء القتال العنيف، فإذا انعدمت الممرات الآمنة في شوارع الخرطوم و زالنجي ونيالا وود مدني، كيف يمكن الحصول على ضمانات أن حياة الملايين ستكون بعيدة عن المخاطر.

إذا كان العالم الأول يريد أن يجعل البلدان "الفقيرة من حيث الطبقة السياسية المدركة للمخاطر والمسؤولة" أسيرة  لحداثته جراء التكنولوجيا التي يصدرها إلى الإنسان في بلدان لم تعد مصنفة ضمن البلدان النامية، وبلدان أخرى موغلة في الصراع المسلح، فإن الصراع نفسه نتيجة نهب موارد هذه الشعوب.

 فإذا نظرنا إلى التقارير التي تتحدث عن بلدان نمت اقتصاداتها من ذهب السودان خلال خمسة أعوام فقط، دون أن ينعكس على المواطنين في التعليم والصحة والغذاء، سنجد أن الحرب نفسها ليست بعيدة عن الصراع على الموارد.

كيف شيدت دولة مثل روسيا إمبراطورية ذهب من السودان خلال فترة ما بعد الانقلاب العسكري على الحكومة المدنية في 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021، من خلال التعاون الوثيق مع قوات الدعم السريع عبر مجموعة فاغنر، لدرجة أن قائدها طلب من ضباط في هذه القوات المزيد من المعدن الأصفر إن كانوا يودون التزود بالأسلحة المدمرة.

سيدفع السودانيون الثمن منفردين في حربهم التي تقضي على الأخضر واليابس، لأن التقاطعات الدولية لم تحسم هذه المعركة بعد

سيدفع السودانيون الثمن منفردين في حربهم التي تقضي على الأخضر واليابس، لأن التقاطعات الدولية لم تحسم هذه المعركة بعد، وقد تتدخل إذا شعرت أن الأمن القومي لإسرائيل قيد التهديد عندما يقترب القتال من البحر الأحمر ومصر، والمحور القريب بين البحر الأحمر ومصر.

وحتى ذلك الوقت يدفع المدنيون في السودان  الثمن من خلال البحث عن موارد مالية للنزوح واللجوء، أو الحصول على الطعام في المناطق الساخنة. حتى الطبقة السياسية في السودان، والتي تقود حملات ضد الحرب لم تكن على قدر التحدي ولم تتعلم من التجربة القاسية.