07-فبراير-2024
لبرهان - حمدوك - وحميدتي

منذ تشكل النواة الأولى لتنسيقية القوى المدنية الديمقراطية (تقدم) في تشرين الأول/أكتوبر 2023، جرت مياه كثيرة تحت الجسر فيما يتعلق بحرب السودان، فالوضع الإنساني استفحل بشدة، ووصل عدد المتأثرين بالجوع حوالي (18) مليون شخص، مع تزايد الوفيات جراء نقص الطعام حتى في مناطق تقع خارج النزاع المسلح.

الحديث عن ورش الحكم المحلي والدستور الانتقالي نوع من الترف مقارنة مع طوابير الطعام في شوارع الخرطوم 

حينما بدأت القوى المدنية والسياسية والنقابية وبعض القوى الشبابية المنخرطة في المقاومة تأسيس تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية المعروفة اختصارًا بـ(تقدم) في اجتماعات جرت بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، كانت هناك آمال أن يتمكن هذا التحالف بوتيرة سريعة من التأثير على المجتمع الدولي لممارسة الضغط على الطرفين العسكريين في السودان لوقف الحرب، واليوم، بعد تسعة أشهر من القتال، أصبحت الآمال منخفضة حول كيفية إدخال الإغاثة إلى ملايين الجوعى في المناطق الساخنة، ومنع انزلاق السودان إلى الهاوية، وتفادي انهيار "شبه الدولة" القائمة حاليًا.

يتشكل مكتب الهيئة القيادية لتنسيقية القوى المدنية الديمقراطية (تقدم) من (60) عضوًا، إلى جانب المكتب التنفيذي للهيئة القيادية. إدارة نقاشات عن الشأن العام بالنسبة لهذا العدد يحتاج إلى قدرة عالية على تفهم القضايا الملحة بشكل موضوعي، وإلى تنازلات وإلى الصبر وإلى وضع مصير (45) مليون سوداني يعيشون حربًا طاحنة ومؤشرات انهيار الدولة أمامهم يوميًا على طاولة الأولويات لهذا التحالف السياسي النقابي المهني.

لأسباب متعددة لم تتمكن (تقدم) من إجراء حوارات مع القوى المدنية والسياسية خارج هذا التحالف الذي تشكل أثناء الحرب لإقامة جبهة مدنية موسعة تتمكن من إيقاف الحرب، وهو غرض رئيسي لقيام هذا التحالف. في نظري لم تتمكن (تقدم) من الاتجاه نحو تلك "القوى الرافضة" ربما للتوجس أو الأحكام المسبقة أن الرفض سيكون المحصلة النهائية، أو ربما العجز الذي لازم القوى السياسية والمدنية طيلة السنوات الماضية.

إلى جانب ذلك فإن (تقدم) تأخرت كثيرًا في إنجاز الملفات الرئيسية طيلة الفترة الماضية، أي الفترة بين بداية تأسيسها في أديس أبابا أواخر تشرين الأول/أكتوبر 2023 وحتى شباط/فبراير 2024، بينما كان المأمول أن تُنهي أعمال المؤتمر التأسيسي المزمع إقامته بالتزامن مع وقت التأسيس كي تتفرغ لمحاصرة الحرب التي تتسع يوميًا وتفاقم معاناة السودانيين.

علاوة على تأخر أعمال المؤتمر التأسيسي، وحسب المعلومات المتواترة، فإن (تقدم) تعتزم تنظيم عدد من الورش خلال هذا الشهر، من بينها ورشة الحكم المحلي والانتقال الدستوري في العاصمة الكينية نيروبي، وورشة عن التفاوض في أديس أبابا، إلى جانب ورشة أخرى ربما تكون على المحك في كمبالا وهي عن الأوضاع الإنسانية.

في اعتقادي أن ورشة الأوضاع الإنسانية هي الأكثر أهمية في الوقت الراهن، وربما تأخرت كثيرًا. ولا يمكن استهلاك الوقت في ورش عن الانتقال الدستوري والحكم المحلي ونحن نشاهد يوميًا آثار الحرب المدمرة التي قد تعجل بانهيار الدولة.

و الأولوية  التي غابت عن (تقدم) لأسباب بيروقراطية أو عوامل أخرى، هي كيفية إنتاج خطاب موحد ومؤثر على الشعب السوداني والمجتمع الدولي لمحاصرة الحرب، وفي ذات الوقت يمكن ممارسة الضغوط على الطرفين المتحاربين لإدخال الإغاثة وإنشاء الممرات الآمنة، فالطوابير الطويلة التي نشاهدها للأطفال وهم ينتظرون أقداح الطعام في شوارع العاصمة الخرطوم بمثابة كارثة تحدث على الأرض. إن هشاشة الأمن الغذائي وصلت إلى مستويات كارثية، وقد يكون الحديث عن ورش للإصلاح الأمني والحكم المحلي والانتقال الدستوري ترفًا في هذه الحالة.

ربما الآمال معقودة على (تقدم) لاعتبارات متعددة، فالخطاب المُشبع بالسلام والتسامح يجب أن يوجه إلى الشعب السوداني وهو يعاني إزاء حرب لا طاقة له بها. وفي هذا الصدد، من الأهمية بمكان الانفتاح نحو عقد الندوات في العواصم الأفريقية التي لجأ إليها عشرات الآلاف من السودانيين، وشرح كيفية عمل هذا التحالف. ويمكن انتخاب  الأجسام التي ستشكل في المؤتمر التأسيسي من خلال أخذ مقترحات السودانيين في هذه العواصم، باعتبارهم كتلة واسعة من الطبقة المتعلمة، وكانت منخرطة في الثورة الشعبية قبل الحرب.

هناك بطء يلازم عمل (تقدم)، وهي طبيعة عمل الأحزاب والعمل العام في السودان نتيجة تراكم الأنظمة العسكرية لسنوات طويلة، لكن هذه المرة الأمور تختلف عن الحقب السابقة، فالحرب تدور وسط العاصمة، ولأول مرة في تاريخ السودان تخلو العاصمة من السكان، والذين نزحوا إلى الولايات الآمنة ودول الجوار.

إن المساحة الجغرافية التي تدور فيها الحرب أكثر كثافة سكانية من المناطق خارج دائرة النزاع المسلح، ما يعني أن الخطر يحدق بالدولة نفسها التي تتجه إلى أتون فوضى وإقطاعيات مسلحة، لذلك من المهم استشعار الخطر والعمل على تسريع وتيرة الإجراءات الخاصة بالأولويات مثل محاصرة الحرب وإدخال الإغاثة بالتزامن، دون تقديم ملف على الآخر.

أمام (تقدم) فرصة لمعالجة الأخطاء التي وقعت أثناء الفترة الانتقالية وبعد الانقلاب العسكري، وذلك بالتخلص من البيروقراطية والشعور بانعدام الأمل. إن (تقدم) مطالبة بالتحلي بالشجاعة اللازمة لطرح القضايا الحيوية دون أن تضع في الاعتبار ردود أفعال الآلة الإعلامية الحربية، لأنها قد تكون الفرصة الأخيرة لغالبية الأجسام التي تشكل هذا التحالف، وعليها أن تكون على قدر عال من المسؤولية، أو عليها أن تتحمل تبعات هذا الفشل مدى الحياة.

حتى تتفادى مجموعة (تقدم) الأخطاء وتلتقط الفرصة التاريخية، عليها أن تفتح النقاشات في القضايا  الحيوية أمام السودانيين حول كيفية إيقاف الحرب وإدخال الإغاثة

وحتى تتفادى مجموعة (تقدم) الأخطاء وتلتقط الفرصة التاريخية، عليها أن تفتح النقاشات في القضايا  الحيوية أمام السودانيين حول كيفية إيقاف الحرب وإدخال الإغاثة إلى ملايين المتأثرين بنقص الغذاء والدواء.

أخيرًا، لا توجد جهة في العالم أكثر دراية من السودانيين في القضايا التي تخص بلدهم، وهم الأجدر على حلها. وإزاء تبعثر أوراق السودان لدى المجتمع الدولي والإقليمي، وتقاطع المصالح، علينا أن ندرك تمامًا أن تجميع هذه الأوراق هو الذي سيقودنا إلى إيقاف الحرب، وهو المدخل الصحيح لمعالجة الخلل في موقف المجتمع الدولي.