20-أكتوبر-2020

البرهان وحميدتي (مصر العربية)

قَمَعَ مؤيدو اتفاق جوبا بين الجبهة الثورية والحكومة الانتقالية، أي تحليل أو إبداء رأي في بنود الاتفاق، ملقين اتهامًا عامًا وقاسيًا لكل من اعترض عليه بأنه مركزي يدافع عن امتيازاته التاريخية، أو أنه رافض لمشاركة أبناء الهامش من دارفور والمنطقتين بوعي عنصري، إلى آخر قائمة الاتهامات التي خوَّفت كل صاحب رأي.

إن وجود معترضين على اتفاق السلام من منطلق وعي مركزي أناني، لا ينفي أن هناك من نظروا للاتفاق نظرةً شاملة

بالتأكيد كثير من المعترضين على الاتفاق ينطلقون من وعي مركزي أناني، لكن هذا لا ينفي أن هناك من نظروا للاتفاق نظرةً شاملة على علاقة بمستقبل السودان والتحول الديمقراطي المنشود، إلا أن التخويف المسلَّط على رؤوس الجميع ألزمهم الحذر والصمت.

اقرأ/ي أيضًا: وقاحة مبدأ المساعدات مقابل التطبيع

كان هذا درسًا ديمقراطيًا أوليًا، لكن ضاق به صدر لوردات الحرب مثلما رأينا في تغريدات أحدهم، وصدر مؤيديهم المنطلقين من ظلم تاريخي غير منكور وقع على دارفور وغيرها من أقاليم السودان البعيدة عن مصنع السلطة في وسط السودان.

الدرس الأول الواجب استيعابه من الجميع، هو الحق في التشكك وطرح رأي مخالف، ولا يجوز جعل عبارة بديهية لا يمكن أن يختلف عليها إنسان سوي مثل "السلام سمح"، سلاحًا لإسكات الآخرين.

إن تحويل العبارات البديهية إلى أسلحة قمع غوغائية بعد إفراغها من الدلالة، يؤدي إلى مصائر سياسية لا تسر أحدًا. رأينا هذا في مصر من قبل باستخدام عبارة "تحيا مصر" التي أسكتت الجميع حين أحلَّت الرئيس المصري محل الدولة، محل الوطن، فصار الاعتراض عليه اعتراضًا على مصر نفسها.

سار مؤيدو لوردات الحرب وغيرهم ممن لا صبر لهم على الإمعان، في الطريق نفسها، فكاد يصبح لوردات الحرب واتفاقهم هو السلام، وأي اعتراض أو نقد لهم أو للاتفاق هو رفض للسلام، هكذا دفعة واحدة!

نعم إن "السلام سمح"، لكن يظل حق أيٍّ كان بالتشكيك في مدى التزام الطرفين بالسلام خارج وعي الغنيمة، حقاً ديمقراطيًا خالصًا لا يخضع للابتزاز، مثله مثل الحق في التفريق بين السلام بألف ولام التعريف، وبين إيقاف القتال، وهو باب واسع يحتمل الأخذ والرد.

 إن كان هناك من يظن أن "المركز" أيًا كان هذا المركز؛ لا يعجبه السلام؛ فهو على حق جزئيًا، فهناك بالفعل مركزيون وحلفاء لهم من الأطراف لا يريدون سلامًا، لأن مهنتهم هي الحرب، وهؤلاء للمفارقة هم من وقعوا الاتفاق مع الجبهة الثورية، ويروجون أنهم رجال سلام وضامنون له!

لكن من الخطأ افتراض أن جميع من في "المركز" أو ينتمون إلى وسط السودان هم أعداء للسلام وأعداء لدارفور وبقية أطراف السودان المبتلاة بالحرب والخراب، هذا التصنيف "الكتلي" السهل المريح ليس صحيحًا، هناك من يريدون سلامًا حقيقيًا، وهو بحسب مالكوم إكس لن يتحقق بدون حرية، لذا فإن أي اتفاق يعرقل التحول الديمقراطي في حين كان من الممكن أن يعززه، ليس أكثر من اتفاق بين طرفين يملكان السلاح ويريدان تقاسم الدولة، ويكون الأمر مخيفًا حين يكون هذان الطرفان ممن لا يحترم الديمقراطية ولا الحرية ولا الشعب ولا يمثلان إلا مؤسسة السلطة المتعالية عن الجميع.

الطرف الأول في اتفاق جوبا هو المؤسسة العسكرية السودانية سيئة الصيت، ومليشيا الدعم السريع المقننة من قبل الديكتاتور السابق، وهما الجهتان المسيطرتان فعليًا على السلطة الانتقالية، من جهة، ومن الجهة الأخرى الحركات المسلحة للجبهة الثورية، على رأسها الحركة الشعبية لتحرير السودان–عقار، وحركة العدل والمساواة، وحركة حيش تحرير السودان–مناوي، إضافة إلى بعض متسلقي السياسة السودانية.

موقف قادة الجيش من الديمقراطية اختبرته تجربة اعتصام القيادة العامة، ومجزرة فض الاعتصام كانت خير شاهد على الموقف

نعرف يقينًا مدى ديمقراطية قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان وقائد مليشيا الدعم السريع محمد حمدان دقلو، ورأيناها في فض الاعتصامات وفي شرق السودان وغيرها من مسائل الاقتصاد والإدارة، فهل لدى قادة الحركات المسلحة "عقار، وجبريل، ومناوي" ما يدل على احترامهم للديمقراطية، وإيمانهم بالتحول الديمقراطي؟

لم يمارس هؤلاء القادة الديمقراطية من قبل، لظروف تتعلق بالعمل المسلح وطبيعته أولًا، ولظروف الفترة التاريخية التي وجدوا فيها خلال الثلاثين عامًا المنصرمة ثانيًا، وأخيرًا لخلفياتهم الفكرية التي تنأى بهم عن قبول الديمقراطية أو التعامل معها بجدية.

بالنسبة إلى عقار، فإن الخلاف الذي حدث في الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال، وأدى إلى انقسامها، وطريقة التعاطي مع حيثيات ذلك الخلاف من قبله والرجل الثاني بعده ياسر عرمان؛ تعطي من أراد التوسع في تلك الأحداث صورة عن التزامهما بالديمقراطية. أما جبريل إبراهيم فتكفي خلفيته الإسلاموية لتعطينا مؤشرًا عن إيمانه بها، فيما تكفي فترة مناوي كمساعد للبشير لمعرفة تعاطيه مع هذه القيمة.

هل يحتاج هؤلاء القادة كما جنودهم إلى إعادة تأهيل مدني لتقبل التحول الديمقراطي ولمعرفة أن اختلاف الرأي لا يحل بالسلاح مثلما كانت الحال من قبل؟ ستكون الإجابة نعم إن كانوا إضافةً–كما آمل–داعمة للتيار الديمقراطي المدني، أما إذا كانوا قادمين لتعزيز الوجود العسكري المضاد للتحول الديمقراطي، فبالتأكيد هم مؤهلون جيدًا الآن لهذا الدور.

حتى الآن، فشل لوردات الحرب في دروس الديمقراطية البسيطة، بدء بما أشرنا إليه من محاولة اختزال السلام في أنفسهم واتفاقهم، ثم بعدها في استثناء أنفسهم من البند الذي يحرم عناصر السلطة الانتقالية الحالية من المشاركة في الانتخابات المقبلة، وهو أمر لم أستطع فهم تبريره بعد.

ثمة أمر آخر مقلق عن تعاطي لوردات الحرب هؤلاء مع الديمقراطية، وهو أمر تشترك معهم فيه أغلب أحزاب وسط السودان "الديمقراطية!"، أعني تسنم القائد والزعيم لرئاسة الحزب/الحركة إلى الأبد. نعرف أن عقار رئيس الحركة الشعبية، وحتى حين تم إعفاؤه من المنصب فصل نفسه بحركة أخرى ليظل رئيسها حتى الآن، كذلك الأمر لمناوي منذ انقسامه من عبد الواحد الذي يتسنم حركته منذ التأسيس وحتى اليوم أيضًا، أما جبريل الذي صعد إلى رئاسة حركته بعد اغتيال أخيه خليل إبراهيم، فيجعل حركة العدل والمساواة أكثر شبهًا بمليشيا الدعم السريع، حركة أسرية ومليشيا أسرية.

الكثير من الأسئلة الملحة تتزاحم الآن، لكن أهمها هو هل سيدعم قادة الحركات المسلحة تطلعات الشعب نحو الديمقراطية أم سيكررون مقولة "النجمة أو الهجمة"؟

هل يحتاج اللوردات إلى المزيد من التمارين الديمقراطية، أم أنهم لا يحتاجونها إلا كغلاف، مثلهم مثل التنظيمات السياسية المختلفة في السودان؟ هل هم أهل للثقة–من ثم– لاختزال دارفور والمنطقتين فيهم؟ هل هم حلفاء للتحول الديمقراطي أم للمؤسسة التي تهيمن على السودان منذ الاستقلال؟ هل سيدعمون خيارات الشعب أم سيرتدون إلى "النجمة أو الهجمة؟".

اقرأ/ي أيضًا

حين تكون الدولة هي العدو!

العقبات التي تواجه اتفاق السلام في السودان