15-فبراير-2024
تصاعد أعمدة الدخان جراء الاشتباكات بين الجيش والدعم السريع في الخرطوم

(Getty)

في مقطع فيديو مبذول على الشبكات الاجتماعية، يخاطب الضابط في الجيش السوداني محمد صديق مجموعة من الشبان الذين انخرطوا في صفوف القتال إلى جانب القوات المسلحة ضد قوات الدعم السريع في حرب لم تهدأ منذ منتصف نيسان/أبريل 2023. والملازم أول محمد صديق ذاع صيته بالتزامن مع اعتصام المدنيين جوار القيادة العامة للقوات المسلحة في نيسان/أبريل 2019، وخلص إلى الإطاحة بالرئيس عمر البشير في 11نيسان/أبريل 2019. خاطب صديق في الاعتصام مجموعة من المدنيين أسفل "النفق"، ودعاهم إلى الاستماتة في الاعتصام وعدم المغادرة حتى إنهاء هذه الحقبة، مخاطبًا زملائه في الجيش "ما تدفنوا دقن" أي لا تصمتوا حيال ما يحدث.

في مقطع الفيديو الحديث والذي يعتقد أنه بإحدى مناطق ولاية نهر النيل يظهر صديق وهو يخاطب مجموعة من الشبان الذين تطوعوا للقتال ضمن الجيش بولاية نهر النيل، قائلًا إن القوات الغازية تعمل على انتهاكات ضد المدنيين، بما في ذلك انتهاك أجساد النساء.

القوى المدنية السياسية لم تحسن التعامل مع الخطاب الذي يتبنى خيار القتال، وذلك لأنها اكتفت بالعموميات في تعريف الحرب دون تقديم أجوبة عن ما هو مصير المجتمعات التي تجد نفسها في مواجهة قوات مدججة بالسلاح

ربما جاء خطاب محمد صديق خاليًا من أي انتماء لأي تيار سياسي سوى الارتداد إلى آخر حائط صد للدفاع عن المجتمعات في حرب شهدت انتهاكات واسعة من الجانبين، وإن كانت أكثر من جانب قوات الدعم السريع المتهمة بارتكاب إبادة جماعية في ولاية غرب دارفور، والعنف الجنسي بحق عشرات النساء والفتيات، والإخفاء القسري لحوالي (104) من النساء والفتيات بحسب تقرير مبادرة نساء القرن الأفريقي "صيحة".

آلاف الروايات التي تحدثت عن اقتحام قوات الدعم السريع للمنازل في الخرطوم والجزيرة والجنينة ونيالا وزالنجي، وتهديد السكان بالسلاح ونهب المقتنيات والسيارات والذهب والأموال.

هذه الانتهاكات جعلت المجتمعات الواقعة في مناطق الجيش تستقبل الخطاب الذي يدعو إلى الانخراط في القتال ضد قوات الدعم السريع، "دون رفض بائن"، فالمجتمعات حينما تشعر بالخطر تتحسس أدوات الحماية كآخر الخطوط المتوفرة بحوزتها للبقاء على قيد الحياة. وهناك العشرات من مقاطع الفيديو المنشورة لشبان أعلنوا استعدادهم للدفاع عن مناطقهم لدرجة إعلان التحدي.

في اعتقادي أن القوى المدنية السياسية لم تحسن التعامل مع هذا الخطاب الذي يتبنى خيار القتال، وذلك لأنها اكتفت بالعموميات في تعريف الحرب دون تقديم أجوبة عن ما هو مصير المجتمعات التي تجد نفسها في مواجهة قوات مدججة بالسلاح، لأن الاكتفاء بالدعوات الصادرة على شاكلة "لا تذهب إلى القتال" لن تجد أذنًا مصغية عند شخص أجبر على ترك منزله وسيارته وممتلكاته.

بالمقابل لا يوجد شك أن بعض قادة الجيش، وقبل ذلك الرئيس المعزول عمر البشير يتحملون وزرًا كبيرا في السماح لقوات موازية للقوات المسلحة بالتسليح والعتاد والتدريب لخمس سنوات، لدرجة وصولها إلى مؤسسة مستقلة عن المؤسسة العسكرية. وهو أمر يجب أن يجد حظه من النقاش ومحاكمة من تورطوا في هذه الوضعية التي تسببت في الحرب، ولو سياسيًا.

في ذات الوقت يبدو الخطاب الصادر من القوى المدنية وتلك المهتمة بإيقاف الحرب خاليًا من التحليل العميق لهذا الصراع، فالحديث عن منع القتال أو مناهضة التطوع لصد الهجمات العسكرية لقوات قد تصل انتهاكاتها لدرجة قتل الأب بالرصاص أمام أبنائه وبناته - هذا الخطاب بحاجة إلى مراجعة عميقة، خاصة مع الشعور المتزايد بتراجع أداء الترسانة العسكرية المناط بها صد هذه الانتهاكات والهجمات العسكرية كما ظهر خلال تسعة أشهر من الحرب، وخضوعها للنزاع السياسي من أنصار النظام البائد.

عندما تحدث محمد صديق وهو ضابط في الجيش يظهر عليه التجرد من الانتماء السياسي، كان يحث الشبان على الاستعداد للقتال لأن الحرب الراهنة لا تعني أن تجلس في المنزل ويتطوع أحدهم نيابة عنك، وفقًا لحديثه يجب أن يحمل كل شخص يستطيع الدفاع عن نفسه ومجتمعه السلاح.

إن المدخل الصحيح لإيقاف الحرب بالنسبة للقوى المدنية الساعية إلى هذا الأمر منذ تسعة أشهر دون انتزاع زمام المبادرة من الطرفين المتحاربين -الجيش والدعم السريع- يستدعي تغيير إستراتيجية التعامل مع الطرفين بالارتقاء إلى مستوى المسؤولية وإظهار الشجاعة في الضغوط على الطرفين.

يتحدث سياسيون راديكاليون لم يجدوا سانحة للانخراط ضمن التحالفات المدنية ومنظمات المجتمع المدني نتيجة "مكايدات"، أن المدخل الصحيح لتفادي إنتاج الحرب في السودان أن يكون الجنرالات الذين أشعلوا الحرب خارج معادلة الحكم في السودان سواء من الجيش أو الدعم السريع.

ورغم صعوبة هذا المطلب فإن القوى المدنية لم تختبر نفسها لتمريره وتسويقه بين القوى الإقليمية والدولية وحتى الرأي العام المحلي، بل ظلت حبيسة دعوات فاترة توجه لـ"جنرالين" يمسكان مقود الحرب ويحميان مصالحهما ولا يكترثان لملايين الجوعى وبلد يتجه إلى الفناء.

لا غنى عن القوى المدنية السياسية في مستقبل الحكم المدني في السودان، لكن عليها أن ترتقي إلى حجم المسؤولية والتعامل بشجاعة مع الطرفين وإلزامهم بإيقاف الحرب، وتلك أمور تستدعي التضحية بالذات في بعض الأحيان كما فعل المناضلون في أفريقيا.

للخروج من الحروب الأهلية تحتاج الشعوب إلى قادة عظام يستطيعون تحويل المأساة إلى أمل ومستقبل مزدهر وتأسيس الحكم الرشيد، وأخشى أن السودانيين لم يعثروا على "قادة عظام".

المشكلة التي تقع فيها القوى المدنية أنها لا تحاول إعادة تعريف حرب منتصف نيسان/أبريل 2023 في السودان، فهي إن بدت وكأنها أول الحروب العنيفة في مركز الدولة وثقلها السكاني قلب العاصمة الخرطوم، لكنها ستكون آخر الحروب

كان أستاذ التاريخ في الجامعات الأميركية عبد الله علي إبراهيم وصف الدعم السريع في أيار/مايو 2019 بالتزامن مع اعتصام القيادة العامة بأنها نتيجة طبيعية لـ"صدأ الريف"، أي انعدام التنمية التي كان السكان يعولون على الدولة لتحقيقها منذ حقبة ما بعد استقلال السودان عن الاستعمار البريطاني.

المشكلة التي تقع فيها القوى المدنية أنها لا تحاول إعادة تعريف حرب منتصف نيسان/أبريل 2023 في السودان، فهي إن بدت وكأنها أول الحروب العنيفة في مركز الدولة وثقلها السكاني قلب العاصمة الخرطوم، لكنها ستكون آخر الحروب، وفي ذلك هناك عدة خيارات ليست جميعها جيدة. وقد يتجه السودان نحو تقسيم ينتج دول فاشلة، وقد يتجه نحو فوضى لا تجمع بين الدولة ولا بين الانقسام، وقد يتجه السودانيون إلى تأسيس دولة موحدة بجيش واحد ومؤسسات تحت خدمة المواطنين من مسافة واحدة. وحتى يتحقق الخيار الأخير لا بد للقوى المدنية أن تخلق مشروعًا وطنيًا يكون عنوانه التسامح، لأن المرارات لن تنتج "سودانًا موحدًا"، وهذا لن يتم إلا عبر طريق واحد عنوانه "التنازلات الكبرى" والقدرة على "المساومة"، مع عدم إغفال بنود المصالحة ورد المظالم والعدالة.