30-أغسطس-2023
مالك عقار مع عبدالفتاح البرهان

مالك عقار نائب رئيس مجلس السيادة في السودان مع رئيس المجلس عبدالفتاح البرهان (Getty)

أثار بيانٌ مكتوب بلغة رصينة توجّه به نائب رئيس مجلس السيادة السوداني مالك عقار إلى "الأمة السودانية" – أثار ردود أفعال واسعة؛ إذ اشتمل على منظور عام للأجندة "الوطنية" في مرحلة الحرب وما بعدها، وما عُدّ "خارطة طريق" لفض الاشتباك الدامي في السودان ضمن سياق أشمل. ورغم ورود كثير من الأفكار المهمة بشأن تشكيل حكومة تُعنى بتصريف الأحوال ومعالجة الثقوب الهائلة في الخدمات واستعادة الحياة الطبيعية ووقف زحف الحرب على المناطق "الآمنة"، فضلًا عن دعم جهود العمل الإنساني وغوث النازحين وإعانتهم في معابر اللجوء – إلا أن رسائله المباشرة إلى الإسلاميين أثارت جدلًا حادًا في أوساطهم، لا سيما ما يتعلق بمسألة القبض على قادة "النظام السابق" وإيداعهم السجون مرةً أخرى، لأنها تمثل –بحسب وصفه– "قضية أمنية" ذات طبيعة خاصة وحساسة، إلى جانب دعوَته المؤتمر الوطني إلى مراجعة تجربته في الحكم، باذلًا نصحه بلغة ودودة لا تنكر هوية منتسبيه إلى السودان ولا تتنكر لهم.

يبدو أن خطاب عقار والرد عليه يخفي صراعًا محتدمًا بين قادة الجيش ومكونات الإسلاميين، ظهر في محاولة القبض على العميد المتقاعد محمد إبراهيم عبدالجليل الشهير بـ"ود إبراهيم"

صدر بيان شديد اللهجة عن أمانة الحركة الإسلامية يؤكد عدم رغبتهم في العودة إلى الحكم إلا عبر الانتخابات، وأن الوقت للتركيز على الملحمة الكبرى في استعادة البلاد ممن أسمتهم الحركة "الغزاة والعملاء الذين تسوروا بليل يرهبون المواطنين ويسرقون الأحلام والذكريات.. إلخ"، مبيّنةً أن الرسالة "السادسة" التي وجهها عقار تنم عن "فهم قاصر"، ومؤكدةً وقوفها مع "المؤسسة العسكرية في واجبها المقدس لحماية البلاد"، ومذّكرةً إياه بتولي "زمان يتسور فيه فرد على إرادة أهل السودان وقرارهم".

غير أن الإشارة الأعمق في الرد على عقار وما وراءه، أرسلها القيادي الإسلامي أمين حسن عمر في تغريدة مختصرة، ولكنها شديدة الدلالة على عمق الصراع، حين قال: "إن كان للفاعل قولٌ يريد قوله، فليحدث به مباشرةً، فإن نائب الفاعل قوله مبني للمجهول"، في تعريض واضح بقائد الجيش نفسه الذي سبق أن صرح بأنه كان منتميًا إلى المؤتمر الوطني ورئيسًا للحزب في محلية "نيرتتي" بوسط دارفور. وليس ثمة مراء في أن أمين حسن عمر قصد بتصريحه ذاك إحراج البرهان الذي أكثَر حينها من انتقاد النظام السابق واستثناء عناصره من أيّ مشاركة أو توافق يلوح في الآفاق أو يبرز ضوءًا خافتًا في آخر الأنفاق! إذ صارت الجملة الشهيرة "عدا المؤتمر الوطني" لافتةً رمزيةً لحالة اجتثاث غير معلن لما كثر التعبير عنه في الخطاب السائد في حقبة ما بعد "ديسمبر". وربما نفى تصريح أمين، من حيث أراد أن يؤكد، صلة البرهان ومجموعته بالمؤتمر الوطني. وقد ألمحنا في مقال سابق إلى أن البرهان والضباط الخمسة هم ثمرة مباشرة لاستمرار التيار المهني وكفكفة نفوذ التدابير التنظيمية داخل الجيش برعاية من الرئيس المخلوع عمر البشير ووزير دفاعه وقتها عبدالرحيم محمد حسين.

يبدو أن خطاب عقار والرد عليه يخفي صراعًا محتدمًا بين قادة الجيش ومكونات الإسلاميين، ظهر في محاولة القبض على العميد المتقاعد محمد إبراهيم عبدالجليل الشهير بـ"ود إبراهيم"، وقد عاد مؤخرًا لينخرط في المعارك الدائرة بين الجيش ومليشيا الدعم السريع، من خلال إسناد عمليات الاستنفار في ولاية نهر النيل، حيث ظهر مخاطبًا جمعًا من المجندين بمنطقة "العبيدية" التي ينحدر منها. ومن المفارقات الدالة أن "ود إبراهيم" الذي اشتهر اشتهارًا واسعًا في أوساط "المجاهدين" بوصفه قائدًا ماهرًا في التخطيط العملياتي وإدارة القتال في الجبهات المشتعلة، سبق أن أُتهم بتنفيذ انقلاب على البشير بالتنسيق مع الفريق صلاح قوش، بينما كان في نظر كثير من المراقبين محض تجلٍ للصراع الخفي بين المكوّن الإسلامي والتيار المهني داخل المؤسسة العسكرية والذي انتهى بوثوب البرهان على أريكة الحكم.

https://t.me/ultrasudan

برزت مليشيا الدعم السريع في إطار تحويل أفق السلطة الحاكمة حينها إلى ما بعد الأيديولوجيا الإسلامية والاستغناء عنها بالكلية، رغم خطورة عواقبها وارتدادات زلازلها؛ إذ أُريد لهذا الانفصال أن يتم بطريقة سلسة، ضمن أضخم عملية إحلال وإبدال بين قوة كتائب الإسلاميين المدربة جيّدًا والتي تُقدر بحسب تقارير متطابقة بأكثر من (100) ألف مقاتل مدججين بأحدث أنواع الأسلحة، وما سبق أن أسماه الدكتور قيصر موسى الزين: تحويل الجهاز العسكري لمكونات "عرب دارفور" وتوظيفه في لعبة الصراع على النفوذ كحامٍ للسلطة القائمة وترياق للمهددات القادمة. ثم أتى الفعل الجدلي إلى إبراز التناقض داخل الحلف المتشكل بين تيار الاحتراف والمهنية في القوات المسلحة والمليشيا التي انخرطت في تطورات متسارعة لتصبح قوة موازية للجيش الرسمي، لتخرج أكبر "معارضة عسكرية للدعم السريع" من سلاح "المدرعات" التي تدور معارك عنيفة على سوحه هذه الأيام وتطلق صيحتها التحذيرية بـ"انقلاب بكراوي" الشهير.

وبالعودة إلى ما أحدثته رسائل مالك عقار من ردود فعل عنيفة وسط مجموعات الإسلاميين التي تنخرط نخبة من أميز عناصرها في القتال إلى جانب الجيش وتقدم دماءً عزيزة في سبيل الحفاظ على معسكراته، ولا سيما في سلاح "المدرعات"، مع أدوار كبيرة غير منظورة في الإسناد المدني ودعم المجهود الحربي والخطاب الإعلامي والتحشيد والتعبئة، ضمن سياق شامل يسميه الكاتب محمد خير "التكوين الوطني الناهض" الذي تلتقي فيه جميع العناصر والفصائل والتكوينات تحت راية الوطن وبالضد من المليشيا، لتأتي رسائل عقار صادمة ومفاجئة لقطاعات الإسلاميين وقواعدهم الاجتماعية، بينما يعدها القيادي التاريخي بالحركة الإسلامية الشفيع أحمد محمد والذي شغل منصب نائب حاكم دارفور في الديمقراطية الثالثة – يعدها طبيعية ومتزنة إن لم نقل إنها "إيجابية"، إذ تعكس –بحسبه– الآمال والمخاوف لدى كثير من المنافسين من القوى السياسية والجوار الإقليمي، داعيًا إلى التجاوب معها والبناء عليها، ومستدركًا على بيان الحركة الإسلامية بضرورة التشديد على أن الحركة مع جيشها وأجندته في تخليص البلاد من "تشوهاتها"، وأنها لا ترغب في الانصراف عن هذه المهام قيد أنملة. وبخصوص ما ورد على لسان عقار بأن بضاعة الإسلاميين فقدت صلاحيتها، نوّه الشفيع بأن هذا النقد صدر بالحرف عن القيادي الإنقاذي قطبي المهدي في زمان حكم الإسلاميين وهو الذي شغل منصب المستشار السياسي للرئيس البشير، بل إن أصوات وازنة داخل حوزة التفكير الإسلامي ذهبت إلى استنفاد غرض الإسلام السياسي كمشروع أيديولوجي، مثلما صرح المحبوب عبدالسلام المثقف الإسلامي المرموق، وهو قول مغتفر في سياق السجال السياسي الذي ينبغي أن يسمو بحسب منظوره على عقلية "أركان النقاش" والحالة الهتافية الجوفاء التي وسمت النشاط السياسي وأقعدت به عن آفاق الحوار والإثمار.

إن اصطفاف الإسلاميين إلى جانب الجيش لا ينفي التناقض البنيوي بين تيار المهنية فيه والمكون الإسلامي "الفاعل الخفي" المسند بتنظيم حكم لثلاثة عقود ولديه قدر وافر من التأثير والاختراق داخل المنظومة الأمنية وإن بدرجات متفاوتة. ويعزى تأخر حسم المعركة بحسب مراقبين إلى الحسابات الداخلية الدقيقة للقيادة العسكرية الممتثلة لإكراهات بنية ما بعد ديسمبر الممتنعة على القوى الإسلامية وحلفائها حسب ما ورد مؤخرًا والتي تطارد كل من له صلة حقيقية أو مظنونة بهم داخل المؤسسات المدنية والعسكرية على السواء.

وصرّح ياسر سعيد عرمان أحد أركان "الاتفاق الإطاري" بأن الحرب أفقدت الإسلاميين قوتهم الصلبة، في قول متطابق مع الرواية التي ترددها الآلة الدعائية لمليشيا الدعم السريع، مما يشي بعمق التحالف ووحدة الأهداف والمصائر. بيد أن رهان عرمان واسترساله الرغائبي يتجاوز ما سبق أن أقره إبراهيم الشيخ رئيس حزب المؤتمر السوداني الأسبق بأن اجتثاث الإسلاميين غير ممكن لأنهم متجذرون في عمق التشكيل الاجتماعي، وأن المضي بثورة قامت على المساومة والشراكة وعقد التفاهمات ومراعاة الموازنات إلى مستويات صفرية من الاجتثاث والإقصاء التام لن تنجح في ظل تعقيدات الظروف وظروف التعقيدات.. وتظل رسائل عقار محاولة مهمة لاستعادة الأفق السياسي وإرجاع الصراع إلى الأدوات المدنية إذا علمنا أن السياسة هي الحرب بطريقة أخرى.