07-أغسطس-2023
عمليات للقوات المسلحة في شوارع العاصمة

صورة أرشيفية (Getty)

لم يختبر كثير من أهل السودان، محاصات الحروب التي تحبس أنفاس الواقع، في استثناء طويل منصوب بأدوات العنف الحداثي المروّع، وتَشُدُّهُ إلى غد مجهول، بيد أن أطرافه الممتدة؛ كانت تغلي في جنوبه وغربه وأقاليمه الثلاثة، خصمًا من رصيد استقرار المراكز الحضرية في أواسطه وشماله وشرقه –على نحو نسبي– وما اتسمت به من هدوء يحاذر عاصفة ما، حتى حدث ما حدث! وما حدث فاق حدود الوصف، حين استفاق سكان العاصمة على سبت آخر غير ذاك الذي أتى فيه خليل إبراهيم قائد حركة العدل والمساواة محمولًا على ذات "التاتشرات" في العاشر من أيار/مايو من العام 2008 في معركة اختار لها اسم "الذراع الطويل"، حين استطاعت قواته أن تشق دروبًا وعرة إلى عمق المركز "الظالم أهله" والمستأثر في عرفهم بكل شيء، والمانع غيرهم من كل شيء.

أتت معركة 15 نيسان/أبريل 2023 نسجًا على غير منوال، من حيث طبيعتها وسياق اندلاعها، كونها برزت بوصفها انفجارًا داخل مركز السلطة وسلطة المركز في تجليها العسكري

كانت نخبة الخرطوم الحاكمة تنسج أقاصيص غامضة لتبرر بها ما عدّه عامة الناس اختراقًا أمنيًا مهولًا يستدعي محاسبة صارمة لقادة المنظومة العسكرية، وهو ما تم على عجل وخجل في إطار صراع الأقطاب المتنافرة في النظام وتصفية الحساب مع رجل "الإنقاذ" القوي صلاح قوش مدير جهاز الأمن والمخابرات الذي أعلن أنه كان يُعاقب على نجاحه أكثر من فشله. وكان الوجه المقابل للحدث صنع ذاكرة مشتركة وإنتاج سرديات البطولة والفداء واستئناف رمزية الشهداء بفدائية الجنود الوطنيين الذين أوقفوا زحفًا منطلقًا من تشاد ومدعومًا من ليبيا في سياق ما بعد أيديولوجي يأرز إلى الوطنية كما تأرز الحية إلى جحرها، ويقطع مع أدبيات "الإنقاذ" في عشريّتها الأولى التي انتهت إلى مفاصلة حادة، مضت بعدها السلطة إلى إعادة إنتاج نفسها على أسس أقرب إلى حوزة الهوية من الأيديولوجيا.

احتشد جمهور كثيف في سرادق الانتصار الزائف الذي استحيل إلى مزار ضخم في حوش الخليفة بأم درمان لآثار المعركة، وقد وضع كل شيء بعناية فائقة لتحدث أكبر قدر من التأثير وصولًا إلى غور اللاوعي الجمعي.

اجترت مجالس الأنس في ليالي الخرطوم المقمرة أحداثًا مشابهة جرت في الثاني من تموز/يوليو من العام 1976م، عندما قامت الجبهة الوطنية المعارضة لنظام "مايو" وتضم حلفًا من أحزاب الوسط واليمين (أحزاب الأمة والاتحادي والاتجاه الإسلامي) بغزو الخرطوم انسرابًا في أزياء مدنية لعناصر دُرّبت على عجل في ليبيا، واستطاعت أن تنفذ إلى عمق العاصمة الخرطوم وتهرّب أسلحتها بكفاءة عالية –في غفلة من أجهزة الأمن والاستخبارات على علو سمعتها وبطشها بالخصوم وقوة استشعارها للمخاطر والتقاطها للأبعاد– وتمكنت القوات المتسللة –على قلتها– عبر أودية غرب السودان وأصقاعها الشاسعة من بسط سيطرتها على رقعة واسعة من الخرطوم، اختفى معها قادة الجيش عن الأنظار، بيد أنها فشلت من حيث نجحت، فشلت في تشغيل الإذاعة، بعد أن نجحت في السيطرة عليها ضمن مناطق حيوية من العاصمة الخرطوم، منها: دار الهاتف وبعض الأعيان المدنية، وانتهى الأمر إلى مقتلة عظيمة، ألقيت معها الجثث في الطرقات وحملتها أمواج النيل إلى ضفاف بعيدة.

https://t.me/ultrasudan

أريق مداد كثيف في تحليل أسباب إخفاق التحرك –الذي كاد يبلغ غايته– بسبب فشله في استمالة القوات المسلحة التي استنفرت حتى من أحيلوا إلى التقاعد ومن هم على عنابر المشافي والتطبيب للتصدي لمن عدتهم "قوات غازية"، فضربتهم بلا هوادة في ردة فعل عنيفة، بعد امتصاصها صدمة الاجتياح الذي قضى فيه ما يقارب (800) مقاتل معظمهم من طلاب الجامعات والثانويات وبعض قدامى العسكريين من ذوي الميول الحزبية. كان القاسم المشترك بين أحداث خليل إبراهيم (أيار/مايو 2008) وحركة محمد نور سعد (تموز/يوليو 1976) هو إمكانية اختراق المركز والإخفاق في إخضاعه في آنٍ معًا، وكأن للخرطوم أسوار رمزية لا يمكن اجتيازها إلا بحقها ومستحقها، ومثّلت هاتان التجربتان درسًا لمن أراد إعادة المحاولة بطرائق أخرى، وقد كان.

أتت معركة الخامس عشر من نيسان/أبريل 2023 نسجًا على غير منوال، من حيث طبيعتها وسياق اندلاعها، كونها برزت بوصفها انفجارًا داخل مركز السلطة وسلطة المركز في تجليها العسكري الذي انقلب على شريكه المدني في 25 شرين الأول/أكتوبر 2022، قوة مساندة لديها مشروع مضاد ورؤية مغايرة وامتدادات وتحالفات في الداخل والخارج، وقبل هذا وذاك جرأة على تخطي كل الخطوط الحمراء وتوظيف الخطابات وفق المستويات المناسبة ومراعاة مقتضى الحال. أدارت صراعًا صفريًا على مواقع السيادة بكثافة نيران وجنود استطاعت معها تحقيق الاختراق على نحو أعمق مما جرى في حركتي محمد نور سعد وخليل إبراهيم، بيد أنها لم تزل تحاول في سيرورة متواصلة تبدو معها عسر المهمة والاكتفاء من غنيمة السلطة بالإياب إلى وضع مماثل.

تمارس الذاكرة الجمعية مقاربتها لما حدث، على وقع الفجائع والفظائع والانتهاكات وما جرى من انتهاب للحقوق وإهلاك للحرث والنسل وتدمير للبنية العمرانية والروح الإنسانية. وفي مجالس أنس شبيهة في مناطق متفرقة من مدن السودان والعالم، يلتقي البعض لبث كثير من الشكاوى والأحزان واجترار الآلام، وجوه واجمة وألسن أخرستها الأهوال. فأدنى مراحل الفقد أرائك وفُرُش وأَسِرة وأواني منزلية، وأعلاها عربات ومكتنزات من الذهب والفضة والعملات الصعبة ضمن نطاق أضخم كتلة نقدية وثروات خارج المصارف سمحت بها عهود الرخاء الأخيرة وجهود الأعمال المضنية في المهاجر ومسالك الوظيفة ودروب التجارة والزراعة والصناعة ونشوء روافع للثراء السريع في الاستثمار في صناعة الترفيه والسياحة وقطاع الخدمات والتعدين.

تتناسل الحكايات المرسلة والروايات المتواترة بعنعنة العدول الثقات أو أخبار الكذبة والمدلسين بفضول كلامها وفوائض معناها وإيغالها ومبالغاتها إمعانًا في صنع الدلالة والأثر أو الاستثمار في ظلال الحدث، لكن تبقى الحقائق الناصعة في تكويناتها الأولية المجردة بلا تهوين ولا تهويل ولا تأويل، لتبدأ المقارنات بين حقب مختلفة وأجيال مختلفة وأنماط من الصراع مختلفة أيضًا، كيف انتهت أحداث "المرتزقة" إلى انتصار كاسح للقوات المسلحة رغم أنه بعث إلى النميري برسالة مهمة تؤكد ضرورة الإصلاح والمصالحة التي تمت في العام 1977، فحكمة الدم أبلغ عبرة وأوقع اعتبارًا. وكيف رأى الناس عناصر "العدل والمساواة" في أحياء أم درمان حيرى بلا هدى وهي تبحث عن مواقع الإذاعة وتسعى إلى بلوغ القصر، وفي خضم ذلك تمر بالأسواق فلا تحرقها وبعامة الناس فلا تعتدي عليهم. ثم رأى الناس وسمعوا وتناقلوا ما جرى في الخامس عشر بتوقيت الفجيعة، وما زالوا يفعلون فتراءى لهم نمط غريب من الحروب كل شيء مباح فيها من القتل على الهوية والاعتقال على المظنة إلى استحلال الأموال والممتلكات والبيوت.

اقرأ/ي أيضًا:
يوميات النازحين

تقدر حجم المسلوبات في معركة الخرطوم وحدها أكثر من (50) مليار دولار، وهو مبلغ ضخم إذا أدركنا أن السوق أقوى تأثيرًا من أي سلطة أخرى وأن المجتمع أغنى من الدولة في السودان، وأن القطاعات تعمل بمنأى عن القنوات المؤسسية التي تنظمها الدولة؛ فأكبر تداول للعملات الأجنبية يتم بعيدًا عن المصارف والبنوك، وأوسع مستوى من الأعمال يتم بعيدًا عن أي ناظم يفيد من العوائد في مجرى الاقتصاد الكلي، لذا فإن ممارسات التهريب وهامش التجارة عبر الحدود في السلع الإستراتيجية يمثل مصدرًا سريعًا للثراء المتواصل والإيذاء المتواصل للاقتصاد القومي في آنٍ معًا.

لا يتشح الهدر الذي تم بلبوس المادية السوداء فحسب، وإنما للكرامة والإكراه المعنوي حظ من الاستنزاف لا يقع على حصر؛ فمن لُطم على ارتكاز أو أجلس على ساقيه لساعات أو سيق إلى عذاب مرير بمظنة الانتماء إلى الجيش أو "الكيزان" أو أهين بسباب مقذع من صبية لم يستبينوا طرائق الرشد وظنوا أن المواطن الأعزل ساحة مناسبة للاستباحة وممارسة كل صنوف الإذلال الممكن في حقه.

تحفر الأحداث الجارية بأزاميل حادة معانٍ غائرة في ذاكرة الإنسان السوداني الذي لم يرَ من نخبه المدنية والعسكرية على الإجمال سوى الإيذاء من أجل الاعتبار والتمكين، وعلى مدار سبعين عامًا من استقلال بلاده لم تهده "خيلًا ولا مالا"، ولم تسعده "نطقًا ولا حالا"، بل قادته من حروب الهامش الطويلة إلى هامش الحروب المستطيلة في عمق مراكزه، ولم يلق منها إلا التشريد والنزوح والإفقار الشامل، وهو يرسل البصر في استبصار ضوء في آخر النفق لا يظهر وانتظار أفق جديد لا يكتمل.