انتشرت مؤخرًا سردية زائفة، مفادها أن معركة الخامس عشر من نيسان/أبريل دارت بالأساس بين جيش "كرتي" و"حماة" الديمقراطية! وعلي كرتي لعموم الفائدة هو قيادي إسلامي تسنم مواقع مهمة في سياق التنظيم والدولة، وعرف بين الناس بنزوعٍ إلى الإصلاح التنظيمي، الأمر الذي لم يبدأ مع توقيعه على "مذكرة العشرة" وما تأسس عليها من فعل مفاصلة الإسلاميين في العام 1999م، ولم ينته بطبيعة الحال مع انخراطه في مرحلة ما بعد "ديسمبر"، حيث يرى كثير من المراقبين إسهامه في تمريرها على نحو ما انتهت إليه.
كرتي الذي خلف دكتور الزبير أحمد الحسن في أمانة تنظيم الحركة الإسلامية بالتكليف، والذي تنسب إليه الدعاية المخدومة لميليشيا الدعم السريع أنه يدير جيشًا عمره أكثر من مائة عام، هو إسلامي من طراز مختلف لم يشتهر عنه اعتناء بالقضية الفكرية إلا في نطاق ما يخدم مجرى العمل، ويلحظ مقربون منه قدرته على تغليب "الحس البراغماتي" في إدارة الملفات، والخلوص إلى معالجات مرنة وعدم الميل إلى الخيارات الصفرية، والإبقاء على فكرة التدافع مع الاتفاق على قواعد عامة للصراع. وبعيدًا عن تصويره باعتباره كائنًا خرافيًا خارقًا يدير الأمور من وراء حجاب، يبدو كرتي المتخرج في كلية القانون بجامعة الخرطوم في مختتم عقد السبعينيات من الألفية المنصرمة، سياسي واقعي ذو استعداد خاص على المستوى الذهني والمهني، ورغم أنه لم يكن ممن ابتعثوا لنيل شهادات عليا بالخارج، شأنه في ذلك شأن علي عثمان محمد طه، إلا أنه تملك عن طريق العمل خبرة تنظيمية وافرة تعززت عبر مسار الوظيفة العمومية في مؤسسات الدولة المختلفة، ما أهله إلى بلوغ مقام التكليف في حركة تجتاز إكراهات الراهن بصعوبة، منظور إليها من خلال واقع معقد برز في أعقاب ثورة ديسمبر، وما انتهت إليه من اعتراك في أحياء الخرطوم وعلى أزقتها وأبنيتها وشوارعها، بين الجيش الذي يراد إفراغه من مضامينه الوازنة كآخر مؤسسة متماسكة في محيط من الاهتراء والهشاشة، وقوته الساندة المسماة الدعم السريع، المتشكلة في سياق تراجع الإنقاذ في عهودها المتأخرة، ما أدى في المختتم إلى تفجير كل التناقضات الكامنة في دولة ما بعد الاستعمار.
من الواضح أن هذه السردية نشأت بالأساس في محاضن الإسلاميين وفي الفضاءات الافتراضية المغلقة التي تجمعهم، سواء على تطبيقات واتساب أو تيليغرام أو صفحات فيسبوك، كجزء من التماس العزاء في فقدان السلطة، وإيهام الذات بحضورها وتأثيرها على اتجاهات الأحداث، واتخذت فيما بعد ضربًا من التحليلات الماورائية التي تعزو كل ظاهرة لفاعل خفي مستندة إلى موقفه من آخر سنوات الإنقاذ
فمن أين أتت السردية القائلة بتحكم علي كرتي في الأمر برمته وفي المنظومة العسكرية على نحو أخص؟ وهل هي نسج على غير هدى من حقائق الواقع؟ أم أنها ابتنت صرحها الكذوب على تضاعيف وظلال الوقائع الضامرة في عمق المشهد؟
من الواضح أن هذه السردية نشأت بالأساس في محاضن الإسلاميين وفي الفضاءات الافتراضية المغلقة التي تجمعهم، سواء على تطبيقات واتساب أو تيليغرام أو صفحات فيسبوك، كجزء من التماس العزاء في فقدان السلطة، وإيهام الذات بحضورها وتأثيرها على اتجاهات الأحداث، واتخذت فيما بعد ضربًا من التحليلات الماورائية التي تعزو كل ظاهرة لفاعل خفي، مستندة إلى موقفه من آخر سنوات الإنقاذ. ويرى البعض أن كرتي انتقل من دائرة انتقاده المعلن إلى انتقامه من دهاقنة السلطة وكهنة معبدها، فانتشر في وسائط الإسلاميين أنه تمكن من إقناع عسكر اللجنة الأمنية بانحيازهم في الحادي عشر من نيسان/أبريل 2019، ثم استدرك على خطوة برهان المنقلبة على انقلاب ابن عوف، باختراق ناعم ومحكم عن طريق تأثير المكون الإسلامي داخل الجيش، ليستعيد زمام المبادرة من جديد. وساعده في ذلك إحكامه على مدار ثلاثين عامًا على مفاصل المكتب التنظيمي العسكري، أو ما سمي مجازًا بـ"السواقين".
وبإزاء النقص الحاد في المعلومات، نجد أن الإلمام العام بمسألة تأثير كرتي على الجيش يمكن أن يتوفر من خلال تحليل محتوى مقابلته المنشورة على قناة "طيبة"، ضمن برنامج "بالسوداني" مع الطاهر حسن التوم، ولعلها المقابلة الوحيدة له منذ ثورة ديسمبر؛ إذ بدا فيها بخلاف الصورة المرسومة على ظلال الأدوار التي خاض غمارها، والموسومة بالأهمية والخصوصية والاعتبار التنظيمي، كمنسق عام لقوات الدفاع الشعبي "قوة آيديولوجية مساندة للجيش" ثم كوزير للدولة بالدفاع -مع أنه عنصر مدني- وكوزير للدولة بالعدل وهي دائرة تخصصه، وكوزير للدولة بالخارجية حيث اشتهر خلالها بمواقف قوية منها طرد المبعوث يان برونك. فضلًا عن أن إدارته لأجندة الإسلاميين داخل الوزارة التي أسندت للحركة الشعبية في شراكتها الشهيرة بعد توقيع اتفاقية نيفاشا عام 2005م، ثم باعتباره وزيرًا للخارجية في حقبة ما بعد انفصال الجنوب، وهي مرحلة ضاجة بالأحداث المفصلية والتصريحات المثيرة.
انشغل المحللون حينها عن محتوى المقابلة بحيثيات الظهور بعد اختفاء مشهود، برغم أهمية المضمون الذي حوته وأراد كرتي أن يرسله للفاعلين الرئيسيين في المشهد عبر تسويق نفسه كسياسي وفاقي متفهم لطبيعة المرحلة، ويصدر في رؤيته عن حس تاريخي ونقدي. وبدا في كثير من أجزاء المقابلة اعتذاريًا أو حتى تبريريًا لما تم من قبل اللجنة الأمنية والمكون العسكري، مع التنديد بالمكون المدني الذي ناصبهم العداء، برغم أنه أبدى تفاجئه من موقف اللجنة الأمنية في الانقلاب على البشير، ملقيًا باللائمة عليهم في استثنائهم للإسلاميين من الحوار الذي دار في نهاية ديسمبر من العام 2018م، بوصفهم مكونًا سياسيًا مهمًا، أسوة بالمكونات الأخرى، التي بُذل لها الحوار داخل السجون وفي الاجتماعات السرية. وفي ذلك تعريض واضح بمسلك مدير جهاز الأمن الفريق صلاح "قوش"، الذي ينسب له البعض أدوارًا خفية في صناعة المشهد الثوري. وهو اعتراض غريب يقفز عن حقيقة أن الثورة قامت بالأساس ضد حكمهم المتطاول.
ومن أهم الإفادات التي لم يقف عندها أصحاب النظر والتحليل، إقراره بأن الدولة كانت في نهاياتها، وأن قادتها عجزوا عن استدراك الحلول واستنقاذ الموقف. مؤكدًا أنه خرج من مؤسسات الدولة والحزب منذ العام 2015م، وظل يقدم النصح لإخوانه لمعالجة الأمور. ولولا إلحاح الأمين العام السابق "شيخ الزبير" المحمول إلى أمانة الحركة من رافعة التنظيم العسكري أيضًا، لما قبل تكليفه بإدارة الحركة الإسلامية ضمن سياق معقد.
وفي معرض رده على سبب عدم مقاومته للتغيير الذي تم، ذكر بأن ما جرى هو التزام بالقرار التنظيمي المتخذ من قبل القيادة -المُتهم بسجنها تواطؤاً مع اللجنة الأمنية- درءًا للفتنة وترجيحًا للفطنة بحسبان أن المواجهة المحتملة حينها كانت "ستدخل البلاد في أتون معركة طاحنة لا تبقي ولا تذر" - أو كما قال.
وانطلاقًا من هذا الموقف، نعود إلى مناقشة الفرضية الشائعة الزاعمة بأن "جيش كرتي" افتعل المعركة الراهنة قطعًا للطريق أمام إنفاذ الاتفاق الإطاري وخوفًا من عودة خصمه السياسي اللدود الذي تخلص منه بشق الأنفس، قد يقول قائل: لماذا الآن؟ لماذا لم تكن المعركة في حينها وعلى مكتسبات الحركة التاريخية وحراسة سلطتها التي انفقت في سبيلها مالًا ودمًا وجهدًا وعملًا؟ فما الذي يجعلها على معركة فاصلة ضد الدعم السريع الآن بعد أن أعاد انتاج نفسه كحامٍ للديموقراطية والمدنية، وبعد أن قويت شوكته وأضحى قوة ضاربة؟ حيث تقدر أعداد العناصر المنضوية في الدعم السريع في 2019م بحدود عشرين ألف جندي وبتسليح محدود يمكن التعامل معه بأقل كلفة، فكيف وقد أضحى قوة حقيقية تقدر بـ(120) ألف مقاتل على تدريب جيد وتسليح نوعي ودعم بموارد مالية تسيل ذهبًا، بالإضافة إلى إعادة تموضعها في إطار العلاقات الإقليمية كأهم فصيل في المحور المضاد لمصر، والمتماهي أفريقيًا مع دول وازنة كإثيوبيا وكينيا، فضلًا عن علاقته الخاصة بدوائر نافذة في المشهد الدولي، مع احتفاظه بعلاقة غامضة مع مجموعة فاغنر الروسية؟ ومع ذلك يبرز ها هنا سؤال ملح حول الدوافع والتوقيت، ليؤكد المنطق المعكوس للفرضية الزائفة: ألا تعد الأسباب التي آثرت بها الحركة في نيسان/أبريل 2019م تغليب خيار الوسائل السياسية السلمية حين بلغت أعلى ذروتها في طرح غندور برغبتهم في ممارسة معارضة ساندة لحكومة الانتقال - ألا تعد أدعى للاستمرار في ذات النهج السلمي في ظل المخاطر الماثلة في أعقاب نيسان/أبريل 2023م؟.
سؤال التوقيت، من شأنه أن يفضح ضعف النسق المنطقي في تعريف المعركة الدائرة بحسبانها حربًا بين جيش كرتي وحماة الديمقراطية، وهي سردية مناقضة تمامًا للواقع ولمسار الأحداث وسياق تشكل المواقف، كونها تصور المؤسسة العسكرية بغير مصالح اعتبارية تحركها، وتستبعد مسارات المهنية التي كانت تتخلق داخلها في حقبة الإنقاذ بالضد من هيمنة التنظيم الإسلامي. وما وجود البرهان وزمرته خارج حدود السيطرة التنظيمية إلا دليلًا عيانيًا يغني عن لغو الخطاب المنسوج على عجل، ولا مراء أن البرهان ورهطه هم تجلٍ دامغ للسياق الاحترافي والمهني الذي أفلت عن عمد من تدابير المكتب التنظيمي المتراخية قبضته بالتوازي مع تحولات الجيش في مرحلة ما بعد السلام، وذلك تحت أعين البشير المتوجس من وجود تنظيم يخصم من مضاء سلطته نفاذًا وأمدًا، وقد استطاع أن يدير معركته تحت لافتات الإصلاح بدءًا من مذكرة العشرة التي كان كرتي ضمن مفاعيلها، وحتى برامج ومشروعات الإصلاح التي انتهت بمقولته الشهيرة بوقوفه من الجميع على مسافة واحدة. ذات المسافة التي بلغها مع نهاية حكمه، بلغها داخل مؤسسة الجيش في وقت أقصر وعلى نحو أحكم.
ولأن الأشياء تفرز نقائضها وفق قواعد الديالكتيك، أتت المهنية والاحترافية بضباط لا يعملون وفق هوادي التنظيم وضوابطه، وإن دفعتهم "التُقية" للتغني بشعاراته في اللقاءات العامة. فكان البرهان وزمرته ملمحًا وثمرة للإفلات من هيمنة التنظيم، وبالمقابل فإن ظروف تطبيق المهنية المشروطة بتعزيز سلطة البشير خارج النسق الإسلامي ومن خلاله، والتباعد عن السيطرة التنظيمية، أدى إلى تكوين ميليشيا الدعم السريع كقوة مهام وتدخل سريع، ثم كحماية للرئيس على هدي ما هو قائم في كثير من الدول، وإن كان على تأسيس قبلي عشائري. وأتى بروزها في المشهد بوصفها بديلًا عن قوات الدفاع الشعبي في بؤر النزاع الجديدة والمتفجرة على مقربة من اتفاقية السلام عام 2005م في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وضمن خطاب جديد يتلاءم مع المرحلة ويواجه بنية الوعي المضاد للمركز عبر نظريات منددة بسلطته الغاشمة ومظلوميتها المتطاولة. وإذا كانت مسوغات القتال قد نحت إلى تسخير قيم الجهاد في الجنوب عبر مشروعات الأدلجة التي اتسمت بها عشرية الإنقاذ الأولى، فقد تكون الخطاب الجديد على أسس من تسييس الهوية في مقابل تسليح السياسة الذي اعتمدته حركات الهامش. ونجحت السلطة بعد تمكنها من استخراج النفط وتطبيع العلاقات الإقليمية وتدشين التعاون الأمني في مكافحة الإرهاب، بإقناع القواعد الاجتماعية التي تقف وراء ما تشكل وتطور لاحقًا عبر منظومة الدعم، وإنتاجها كحاجز صد لإيقاف مد مشروعات التفكيك للمركز.
من المفارقات الممضوضة أن الخطاب الذي حارب الدعم السريع تحت لوائه حركات مسلحة شكّلت في تصوره عدوًا قريبًا على تضاريس الجغرافية السياسية والموارد وتناقض نمط الإنتاج في فضاء الهامش الغربي للسودان، هو ذات الخطاب الذي يعيد إنتاجه الآن ويعيد معه تموضعه في معركة صفرية مع عدو بعيد ضد من كان عبر وقت طويل -أي البرهان- رفيق درب موحش ووعر في أصقاع دارفور النائية
ومن المفارقات الممضوضة أن الخطاب الذي حارب الدعم السريع تحت لوائه حركات مسلحة شكّلت في تصوره عدوًا قريبًا على تضاريس الجغرافية السياسية والموارد وتناقض نمط الإنتاج في فضاء الهامش الغربي للسودان، هو ذات الخطاب الذي يعيد إنتاجه الآن ويعيد معه تموضعه في معركة صفرية مع عدو بعيد ضد من كان عبر وقت طويل -أي البرهان- رفيق درب موحش ووعر في أصقاع دارفور النائية، ثم على جبهات عاصفة الحزم التي صاغت معادلة شراكته في السلطة فيما بعد في أعقاب ثورة ديسمبر 2019م، وتحولاتها المتسارعة، وقد شهدت في وقت وجيز فض اعتصام دموي وانقلابًا من الداخل وانتهت إلى حرب لا هوادة فيها.
الآن ندرك ونحن نلامس واقعًا بالغ التعقيد بمقاربة عجولة، أن المعركة التي فاق وصفها وتعريفها واكتناه دواعيها - ندرك صعوبة البحث في تداعياتها والتنبؤ بمساراتها وتعرجاتها، فتارة أريد لها أن تكون على جلب الديمقراطية وإقامة سلطة مدنية، وتارة من أجل القضاء على سلطة "الجلابة" ودولة 1956م، وتارة لضرب معاقل "الكيزان" واجتثاثهم من الفضاء العمومي وجودًا بعد أن قضت الثورة عليهم شهودًا. بينما نظرت إليها الرواية الرسمية برغم غيابها في محافل البوح الجهير، وهي تشتعل على وقع التناقض المؤسسي بين جيش عمره قرن من الزمان، وقوة مساندة له عمرها لم يتجاوز العقد، ومع ذلك أرادت ان تتخطى حدودها، أو أريد لها ذلك ضمن سياق إقليمي ودولي معقد، أو هي بلغة المؤسسة العسكرية نفسها: "استئناف لمسار المهنية وإزالة التشوهات الطارئة على بنيتها في مرحلة ما بعد ديسمبر". وهي في كل الأحوال ووفق قرائنها، أبعد من أن تكون معركة بين جيش "كرتي" و"حماة" الديمقراطية.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"