16-أغسطس-2023
محتجون يحملون لوحات سيارات قوات الدعم السريع المحطمة عقب فض الاعتصام بالخرطوم في العام 2019 (Getty)

محتجون يحملون لوحات سيارات قوات الدعم السريع المحطمة في ذكرى فض الاعتصام بالخرطوم في العام 2020 (Getty)

حملت الوسائط الافتراضية، نعيًا مؤثرًا لثائر شهير يُدعى ياسر هاشم ويُكنى "استانباي"، كان يغبّر أرجله في المواكب القاصدة للقصر من تلقاء "شروني"، ويستبسل في مواجهة شرطة "الاحتياطي المركزي" المدربة على مكافحة أعمال الشغب والعنف المدني. إذ بلغت الاشتباكات بينهما ذروة احتدامها مع مقتل ضابط في رتبة "العميد"، واتهام عناصر تتبع لذات التشكيلات الثورية تحت مسمى "غاضبون بلا حدود". المفارقة التي تولدت في ثنايا الحدث المشتعل أن قطاعًا وازنًا من الفاعلين الثوريين انخرط في القتال إلى جانب القوات المسلحة التي كان -حتى وقت قريب- ينازع قيادتها سلطة مدنية كاملة، ويدعوها إلى الرجوع لوظيفتها الرئيسة المتعلقة بحماية الثغور والحفاظ على الدستور والامتثال إلى موجبات الدولة الحديثة مع دمج شتات الأسلحة والحركات في "جيش قومي" موحد مهني محترف وحديث.

لا يمكن أن يتم تفسير انضمام الثوار إلى القتال في صف الجيش، بمقاربة العدو البعيد والعدو القريب -التي اتبعتها القوى الجهادية في ترتيب أولوية قتال الأمريكان أولًا أم الحكام العرب- بحسبان أن الدعم السريع هو العدو الماثل الصائل الذي يمارس أسوأ اعتداء على حالة الدولة، ويضرب في عمق تماسكها

لم ينقطع "المد الثوري" على مدار أربع سنوات من عمر الشراكة و"الانقلاب" عليها، إذ تبلورت عنه أجسام ثورية ارتكزت حول منطق التوزيع السكني بدلًا عن التصنيف الفئوي والمهني، فبرزت إلى السطح "لجان المقاومة" من عمق الأحياء كبديل فعال لـ"تجمع المهنيين"، وكانت أقوى اختراقاتها النجاح في حشد أكبر تظاهرة في 30 حزيران/يونيو 2019م بعد فض الاعتصام استعادت معها المسار الثوري إلى صيغة "شراكة معطوبة"، بيد أنها استطاعت في خضم تفاعلها أن تكسب مساحات مقدرة من التأثير والإسهام بشكل فاعل في صياغة الأجندة الثورية. وما بين تغير الوجهة من "اعتصام القيادة" بغرض سَوْق الجيش إلى الانحياز لتطلعات الجماهير كذات فاعلة بالتاريخ 11 نيسان/أبريل 2019م، إلى بلوغ "القصر الجمهوري" وإخضاع "السلطة الانتقالية" لمطلب الثوار الأثير القاضي بـ"مدنية الدولة" بُعيد انقلاب الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2021م. جرى نقاش كثيف حول التدابير التأسيسية المناوئة للاختطاف السلطوي في أفق "ما بعد ديسمبر" التي انتهت إلى تساوق تام بين مواقف التيار الرئيس في قوى الحرية والتغيير إلى جانب "ميليشيا" الدعم السريع وتبني رؤيتها وروايتها حول حرب الخامس عشر من نيسان/أبريل.

ولم يكن ما تم، حدثًا عابرًا في مجرى التفاعل السياسي وسياق تعقيداته؛ أن تنحاز القوى الصاعدة على رافعة "ديسمبر" إلى رؤية ورواية فصيل يحارب الجيش في قلب المركز، ويرتكب من الموبقات الوطنية أقصاها وأقساها، فلم تشتعل الحرب، حتى رأى الناس الذين هالهم من الدعم السريع في زمان سابق، شذوذ في استخدام العنف والترويع، حين تفاجأ السودانيون بإصابات بالغة لثوار أيلول/سبتمبر 2013م -تاريخ تكوينه كقوة فالتة أثبتت نجاعتها في إنجاز المهام الصعبة- حيث قُتل أغلبهم بتصويب في الرأس والصدر، وبسبب ذاك العنف "مجهول الهوية" تم إخماد الحراك الثوري في مهده برغم عنفوانه واحتشاده بمقومات التغيير الجذري، وتكرر ذلك في حادثة فض الاعتصام على نحو أفدح، أخرس معه لسان "الفريق كباشي" الطليق، فلم يزد عن وصفه بعبارته الشهيرة "فحدث ما حدث"، وما حدث لم يروَ رسميًا حتى أتت رحى الحرب الدائرة تنويعًا على ذات المشاهد، واجتراح فظائعها وفجائعها على مستوى أعمق من الجرم والإرهاب والسلب والنهب والاغتصاب وتخريب البنية العمرانية والحضرية وحرق الأسواق واحتلال البيوت والمرافق العامة، فوجد الثوار أنفسهم في مواجهة حدث لا يستقيم معه حياد، فالجيش المأمول إلى انحياز كامل للمطلب الثوري مشتبك مع نبت شائه أفرزته التدابير السلطوية على حساب الأجهزة التأسيسية التي يقوم عليها مشروع التغيير الجذري في السودان.

لا يمكن أن يتم تفسير انضمام الثوار إلى القتال في صف الجيش، بمقاربة العدو البعيد والعدو القريب -التي اتبعتها القوى الجهادية في ترتيب أولوية قتال الأمريكان أولًا أم الحكام العرب- بحسبان أن الدعم السريع هو العدو الماثل الصائل الذي يمارس أسوأ اعتداء على حالة الدولة، ويضرب في عمق تماسكها. ليس ذلك فحسب بل ويعبث بكل خرائط الجغرافية السياسية بالمنطقة، إذ لا يمكن أن يقرأ الاضطراب الزاحف في الجوار بمعزل عن معارك الخرطوم المشتعلة أوارها. ورغم أن حالة القتال في صف الجيش تؤكد صوابية مطالب الثوار ببناء جيش قوي موحد ومهني لا يلج الناس إليه إلا عبر كلياته ومعسكراته ووحداته ومعاهده الفنية، على أسس من العدالة وتحقق شروط الكفاءة والفاعلية أو عن طريق استدعاء قوات الاحتياط المكونة من الشباب القادر على الدفاع عن الدولة متى تعرضت لخطر أو عدوان. لقد أشار الفريق العطا مساعد القائد العام للجيش من قبل إلى أن عناصر معروفة من "غاضبون بلا حدود" يحاربون في صفوف الجيش الذي أعلن عن استنفاره لكل من يأنس في نفسه القدرة ويجد الرغبة فيما أسماه المساهمة بالدم في "معركة الكرامة".

https://t.me/ultrasudan

وقد تابع مهتمون رسالة مبهمة للعطا حول ترسيخ ارتداء زي الجندية لمعاني الوطنية وانسرابها إلى منافذ الروح. وتراوح التعاطي معها تارة بالنقد المباشر الذي يؤكد أن انضمام الثوار إلى ركب الجيش لا قيادته، التي عبثت بالمرحلة الانتقالية ونكصت عن الإيفاء بالتزاماتها بإنجاز التحول الديمقراطي، وأنهم كمجموعات امتهنت النضال لن ينتظروا دروسًا في الوطنية من أحد، سيما من مكّن "الميليشيا" وسمح لها بالتمدد، وتارة أخرى أتت ردود متهكمة من فحوى الرسالة وطرائق التعبير ما يؤكد فعلًا أن العزلة الشعورية آخذة في الاتساع، وأن الجماعات الثورية الجذرية لم تزل عند موقفها من قيادة الجيش. كما ثبت "حقانية" موقفها المضاد من "الدعم السريع" التي نادت باكرًا بحلة تمامًا حين كان النادي السياسي يسعى إلى تموقعه في قلب المعادلة السياسية وتوظيف قوته وجموحه وطموح قيادته لشغل دور ضمن أفق ما بعد ديسمبر.

بإعادة تأويل ما حدث على هوادي المقابلة بين المسعى التأسيسي والعجلة السلطوية نستطيع أن نفهم انضمام قطاع من الثوار لقتال "الميليشيا"، لأنها ظلت "عقبة كأداء" في سبيل إنجاز التغيير الثوري، وليس كما ظل يردد قائد الدعم السريع بأن انضمامه لركب التغيير هو الذي أقنع الجيش بالانحياز للثورة. وكما مثلت "الميليشيا" حاجز صد أمام عودة الإسلاميين للسلطة عبر الجيش بوصفها أحد أكبر "هواجس نخبة الحرية والتغيير"، أضحت بما تمتلكه من "قوة مشاة عالية القدرات والجاهزية" أكبر تهديد لقيام تغيير حقيقي نحو الدولة المدنية، ونسف صيغة الشراكة عبر انحياز "الجيش غير المشروط"، وهو ما يسميه دعاة الموقف الجذري "الموجة الثورية التأسيسية" التي ستقضي على "الألاعيب السلطوية" وتعيد السلطة خالصة "لوجه المدنية"، وبتعبير مباشر تصبح القوات المسلحة مؤسسة تحتاج إلى إصلاح كثيف شأنها شأن التعليم والخدمة المدنية البيروقراطية وشبكة الخدمات ومنظومة الاتصالات والمواصلات والاقتصاد الكلي والثقافة الناظمة وعموم الاجتماع في البلاد، لكن الدعم السريع بحسب منطوق الفكرة الثورية الجذرية ليس مادة للإصلاح وإنما للتفكيك. مثله مثل كل منظومات الظل التي صنعها حكم الإسلاميين في السودان "الدفاع الشعبي، الأمن الشعبي، الشرطة الشعبية، حرس الحدود، وأخيرًا أثرها الباقي: "الدعم السريع".

يخلص محمد عبدالباقي -أحد الأصوات الجذرية- في معرض مناقشته لتوصيف الدعم السريع أهو مؤسسة دولة أم منظومة سلطة، إلى أن "المليشيا" بحكم نشأتها وأطوار تشكلها لم تستطع أن تتحول من منظومة سلطة أراد بها البشير أن يستبقي حكمه لأطول وقت وأبعد مدى بمعزل عن المنظومة الأمنية التقليدية وحزبه الحاكم ثم قصد بها البرهان أن تظل امتدادًا لذات الدور في الحماية وإخماد مخاطر عودة قوى قديمة أو بروز أخرى قادمة، وهي في أحسن أحوال لم تتحول إلى "مؤسسة دولة"، وأن الاستثمار فيها والرهان عليها أخرجها إلى التماس مواقع أكثر صدارة في أبنية الفعل والاعراب السياسي وهو ما جعلها تقدم بجرأة غير محسوبة العواقب على انقلابها مدعومة بقوى الحرية والتغيير "الوجه المدني للمليشيا والغطاء السياسي له" وما جعل المشروع السلطوي الذي اختطف ديسمبر ينتهي مع الانقلاب ويصل نهاياته الحتمية.

لأن "حكم الشيء فرع عن تصوره"، نستطيع أن نفهم ما الذي يجعل بعض الثوار يتجاوزون أسئلة الحياد وحياد الأسئلة وينخرطون في قتال "الميليشيا" في مواقع مختلفة لا يعنيهم ما ترسله الدعاية المخدومة حول قتال "فلول الكيزان" وتفكيك "دولة 56" وضرب "هيمنة الشريط النيلي" وإقامة "حكم مدني ديمقراطي"

ولأن "حكم الشيء فرع عن تصوره"، نستطيع أن نفهم ما الذي يجعل بعض الثوار يتجاوزون أسئلة الحياد وحياد الأسئلة وينخرطون في قتال "الميليشيا" في مواقع مختلفة لا يعنيهم ما ترسله الدعاية المخدومة حول قتال "فلول الكيزان" وتفكيك "دولة 56" وضرب "هيمنة الشريط النيلي" وإقامة "حكم مدني ديمقراطي"، مثلما استطاعوا أن يتجاوزوا سؤال البديل بشعار "تسقط بس"، وما تم من استدراكات بنائية عليه، واستئناف إنجاز مطالب الثورة على أسس التأسيس ومخاضاته العسيرة والمتعثرة في آن. بخلاف استعجال ثمار تغيير سلطوي محدود لا يأخذ الدولة معه إلى عوالم جديدة نحو ضفاف الديمقراطية التنموية والتحول الصناعي، وتجاوز حالة الارتهان المضاد للفعل النضالي المدني، الذي يجمع بين البنائي والنقدي على صعيد مشترك وفي منهج مزدوج.