05-يوليو-2022
المتاريس في أحد شوارع الخرطوم

(Getty)

مثل من يُقدم طبق العشاء في مائدة خالية، أعلن قائد الجيش عبدالفتاح البرهان خروج القوات المسلحة من العملية السياسية في السودان، على أن يتم تشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة بمهام محددة بعد حل مجلس السيادة، في خطاب للشعب السوداني بثه التلفزيون الرسمي. ومباشرة عقب الخطاب، علَت مخاوف المدنيين من التفاف الجيش على السلطة المدنية بالهيمنة على ملفات الخارجية والبنك المركزي والأمن والدفاع.

وكأن قائد الجيش يقول للقوى السياسية تركت لكم الساحة شريطة اتفاق بين المدنيين، في وضع يصعب فيه تحقيق وحدة من الحد الأدنى في ظل حالة التباعد التي تستمر منذ شهور طويلة.

يتخوف المدنيون من هيمنة العسكريين على الخارجية والبنك المركزي والقطاع الأمني والعسكري

خطاب البرهان بعد ثلاثة أيام من "مليونية 30 يونيو" يبدو كمن انحنى للعاصفة إثر تظاهر مئات الآلاف في العاصمة والولايات رفضًا للانقلاب العسكري. في انسحاب قد يكون في ظاهره خروج الجيش من العملية السياسية لكن في كواليس هذا الخطاب هناك فخاخ يرى المدنيون إنها "نُصبت لهم بعناية".

ومن المخاوف التي تسببت بها فحوى الخطاب في أوساط المدنيين، أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد يضع يده على ملف العلاقات الخارجية، خاصة وأن الفترة الماضية شهدت تحركات للعسكريين إلى وجهات دولية مختلفة مثل زيارة تل أبيب سرًا وزيارة موسكو، والتقارب مع المعسكر الروسي عوضًا عن الحلف الأمريكي.

ليس هذا فحسب بل تمتد المخاوف -والتي عبر عنها المدنيون صراحة- إلى تمسك العسكريين بالهيمنة على بنك السودان، خاصة وأن البنك المركزي قد يعرقل خطط الشركات العسكرية في الحصول على التمويل والتسهيلات في قطاع المصارف.

لجعل بنود الخطاب واقعًا قد يصعِّد العسكريون من لهجتهم التي تتحدث عن ترك الساحة السياسية للمدنيين ليشكلوا حكومة مدنية تنفيذية لإدارة البلاد، لكن الفخ الذي وقعت فيه الحكومة الانتقالية قبل الانقلاب حاضرة في الأذهان.

ما يجب الإشارة إليه أن خطاب البرهان لم يُختبر دوليًا وقد يحظى بدعم إقليمي من دول مثل مصر وبعض الدول الخليجية؛ لكن قطعًا فإن المجتمع الدولي خاصة الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا قد يبدي تحفظات على بعض البنود، ومع ذلك فإن المدنيين ليسوا أكثر موثوقية في واشنطن وبروكسل باعتبار أن المجتمع الدولي ظل يهتم بالاستقرار على حساب الديمقراطية والحكم المدني، كما أن هذه الدول لديها مصالح قد لا يتحمس لها المدنيون.

وتُعزز رغبة المكون العسكري في إدارة العلاقات الخارجية من صعوبة خروج الجيش من العملية السياسية والسلطة، وهذه الأزمة ليست ببعيدة، وخلال الفترة الانتقالية قبل الانقلاب العسكري زار رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول عبد الفتاح البرهان كمبالا في شباط/فبراير 2020، والتقى على نحو مفاجئ حتى للمدنيين في ترويكا السلطة الانتقالية رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو، وهو اللقاء الذي أحدث شرخًا بين المدنيين والعسكريين، ويصفه مراقبون بأنه الانقلاب الأول أثناء الفترة الانتقالية.

https://t.me/ultrasudan

هناك سيناريوهات مرسومة لمرحلة ما بعد الخطاب قد يلجأ إليها قائد الجيش، مثل إعلان فشل القوى السياسية في الوصول إلى توافق وتشكيل حكومة مدنية، ومن ثم تعيين حكومة تصريف أعمال تنظم انتخابات مبكرة خلال نصف عام إلى عام، وترشيح نفسه متجاوزًا المطالب المتعلقة بتهيئة المناخ والتعداد السكاني والتجهيزات المعروفة قبل عملية الاقتراع - هكذا يتنبأ بعض المراقبين للوضع الراهن.

أما السيناريو الثاني يتمثل في موافقة بعض القوى السياسية على خطاب البرهان، وتعلن اتفاقها على تشكيل حكومة مدنية. ومن الضرورة الإشارة إلى أن القوى المتقاربة مع خطاب قائد الجيش قد تكون من داخل قوى الحرية والتغيير المعارضة، وبالتالي إحداث انشقاق في معسكر قوى الثورة.

ويرى المدنيون أن خطاب البرهان أغفل قضايا مهمة مثل تفكيك التمكين لحزب المؤتمر الوطني والنظام البائد ولم يتطرق كذلك حول بناء جيش موحد. كما أن الخطاب لم يوضح مصير الحركات الموقعة على اتفاق جوبا ومصير الترتيبات الأمنية.

قد يضع العسكريون في أذهانهم وضع قيادات من الحركات المسلحة من مجلس السيادة الذي يتوقع حله بالتزامن مع اتفاق المدنيين، وتكوين مجلس أعلى للقوات المسلحة وقد يضم  قيادات من الحركات الموقعة على السلام.

كما أن الخطاب في نظر القوى الثورية لم يتطرق إلى مصير العدالة، خاصة وأن العسكريين يحاولون تفادي قضايا فض الاعتصام وشهداء الانقلاب وشهداء ما قبل سقوط النظام البائد.

من هي الأطراف التي قد تتحمس لالتقاط خطاب البرهان؟ ربما تنضم أحزاب حوار الآلية إلى العملية التي طرحها قائد الجيش، لكن الأمين العام لقوى الحرية والتغيير "التوافق الوطني" مبارك أردول أشار في تصريح صحفي اليوم الثلاثاء، أن خطاب البرهان احتوى على نقاط إيجابية ونقاط أخرى غير مفهومة.

أما قوى الحرية والتغيير "المجلس المركزي" تُظهر الإرهاصات التي تحيط بها أنها ترفض خطاب قائد الجيش باعتبار أن هذه التطورات تضعها على طاولة واحدة مع جميع القوى السياسية وهو أمر مرفوض تمامًا بالنسبة لـ"مجموعة المجلس المركزي".

من منفذ صعوبة وحدة قوى الثورة قد يتسلل خطاب البرهان ليكون واقعًا 

ربما يتراجع قائد الجيش عن الخطاب تحت وطأة الرفض الواسع من المدنيين له، لكن هذا مرهون بالوحدة بين قوى الثورة من لجان المقاومة ومجموعة المجلس المركزي. وهي وحدة صعبة التحقق في ظل صعود الجماعات الراديكالية واصطدامها بالمجموعات السياسية التي تتبنى التسوية مع العسكريين.

من هذا المنفذ قد يتسلل خطاب البرهان ليمضي إلى حكومة مدنية قد تواجه نفوذًا من العسكريين، وتتحمل وزر اقتصاد مترد وتغلغل لعناصر النظام البائد في مؤسسات الدولة.