19-مايو-2022
محتجون في الخرطوم يحملون أعلام إثيوبيا وإريتريا والسودان والصومال - نيسان/أبريل 2019 (AFP)

يحاول هذا المقال مراجعة غياب الدور الأفريقي في المشهد السياسي السوداني ما بين الأعوام (2019-2021)، مع توتر العملية السياسية بعد خطوة البرهان في فض الشراكة مع قوى إعلان الحرية والتغيير في 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021، أو كما يطلق عليه "انقلاب 25 أكتوبر". وكيف أن هذا الغياب قد جعل من السودان تابعًا مباشرًا ومحط تدخلات أوروبية وأمريكية لا تنظر إلى مصلحته أو مصلحة جيرانه من الدول، مما جعل السودان معزولًا عن محيطه "القرن الأفريقي"، وفصَل إشكالياته عن مشاكل المنطقة، فالحكمة السياسية تقتضي تكاتف الجهود الدبلوماسية من أجل أن يساهم الجيران عبر تسهيل الحوار بين الأطراف بالإضافة الى عمليات بناء الثقة كما هو متعارف داخل الأدبيات السياسية في السودان. وهناك العديد من النماذج التي مرت على الدول الأفريقية في تقديم المساعدة من أجل الوصول إلى حلول سياسية داخلية . 

ظل السودان طوال ثلاثة أعوام (2019-2021) في تقلبات سياسية قد يصفها البعض بأنها طبيعية في إطار الانتقال السياسي الذي تمر به الدولة

ولكن حدث انفصال للسودان عن عمقه الأفريقي، هذا الفصل يؤثر على مستويين، الأول: خاصٌ بمستقبل السودان والأدوار التي يمكن أن يلعبها في الشأن الأفريقي مستقبلًا، وترابطه مع بقية دول الجوار، وخصوصًا أن التوجهات الاستراتيجية تحتِّم على الدول أن تكون شريكة في وضع إطار لاستقرار المنطقة. من أجل التحديات المستقبلية التي تواجه منطقة القرن الأفريقي ووسط أفريقيا أيضًا، وهذا ينعكس على القارة ككل، خصوصًا في مجتمعات متصلة ومترابطة بهذه الصورة.

في المحور الأول من هذا المقال سنناقش التحولات التي طرأت على المشهد السياسي، ومن ثم نذهب إلى علاقة هذه الأحداث بما هو راهن في القرن الأفريقي، وعلاقة السودان بهذه الملفات الساخنة. ونعرج إلى مستقبل هذه التشكلات الجديدة بين التضارب والتعاون، وهل ستكون علاقة السودان بمحيطه الأفريقي جيدة أم في حالة شد مستمر؟ طالما هو في أحضان دول ويعتبر ذراعها في المنطقة. 

ظل السودان طوال ثلاثة أعوام (2019-2021) في تقلبات سياسية قد يصفها البعض بأنها طبيعية في إطار الانتقال السياسي الذي تمر به الدولة، إلا أن عملية الانتقال هذه أصابتها الكثير من الاهتزازات التي تجعلها في مهب الريح. وهذه الاهتزازات كانت نتيجة حتمية لانتقال فيه كانت المسارات معقدة، في مراجعة سريعة لمسار الانتقال السياسي منذ اندلاع احتجاجات 2018، والتي أسقطت البشير ونظامه في نيسان/أبريل 2019م. 

بدأت الأحداث مع تفاوض القوى السياسية والمجلس العسكري، والذي لعبت فيه الوساطة الأفريقية بقيادة إثيوبيا دورًا مهمًا في توفير بيئة سياسية ساعدت في الوصول إلى اتفاق. إلا أن هذه الوساطة لم تكن عميقة بالصورة المطلوبة، فلم تلعب في تقديم مشورة واسعة حول الأجندة التي كان ِالجميع ينظر لها بريبة، وخصوصًا أن الوثيقة الدستورية التي خرجت من هذه العملية كانت هشة، ولم توفر الوساطة أي ضمانات أو تعهدات بتنفيذ الاتفاق أو آلية مراقبة. 

وبالرغم من الإمكانيات التي كانت متوفرة في تلك اللحظة للوساطة الأفريقية، إلا أن اكتفاء الاتحاد الأفريقي بأثيوبيا والتي تعتبر دولة ذات أجندة سياسية وأمنية كان محط شك، واستبعاد مصر حينها بتلك الطريقة المربكة والتقارب الذي شهدته بعض الأطراف مع الإمارات، جعلت هناك تعقيدات كبيرة أُفرزت خلال سير التفاوض والوثيقة الدستورية.

مع تشكيل الحكومة الأولى وبداية مفاوضات السلام التي كانت بدايتها في أديس أبابا، لم تضع الوساطة الأفريقية أي مسار واضح لمفاوضات السلام، وفي هذا يمكن أن نعزي الأسباب إلى مجموعة من العوامل المتعلقة بالقوى السياسية بالإضافة إلى ارتباطات هذه القوى والإرادة السياسية. فيمكن لنا تناول ارتباط القوى السياسية والمجلس العسكري حينها مع محاور خارجية بعيدة عن الاتحاد الأفريقي ودول الإيغاد، ولها مصالح مختلفة عن التي يمكن أن تخدم الاستقرار السياسي. وهذا ما ظهر من خلال عملية التفاوض، حيث كثيرًا ما توجهت الأطراف إلى دول بعينها، وصاغت خطوطًا سياسية وجهت العملية السياسية ومسارات التفاوض. ومن هنا نجد مثلًا وساطة جنوب السودان التي لم تكن بالرشد الذي يسمح بضمان استمرار العملية وإدارتها بصورة مختلفة، وهو ما لم تضعه الوساطة في الحسبان. أدت هذه العملية إلى تعقيدات مسار الشرق، والذي لم تدخل فيه أي دول مجاورة من أجل حله.

هذه التعقيدات ليست منفصلة عن الوضعية السياسية والاجتماعية لدول الجوار، فملف سد النهضة لعب دورًا مهم في إحداث شرخ بين إثيوبيا والسودان، ومن ثم تطورت مع صراع الفشقة الذي لم تنجح فيه الوساطة التي قدمت من قبل تركيا أو الإمارات لتضارب المصالح بين الدولتين، ورفض السودان وإثيوبيا. وكذلك موقف السودان مثلًا في ذهابه بخصوص ملف النهضة إلى مجلس الأمن بدلًا من الآلية الأفريقية، والتوترات العسكرية المتلاحقة التي أدت إلى أن يتعقد المشهد بصورة عكست الأوضاع الداخلية في كلا البلدين. 

https://t.me/ultrasudan

إن كان القرن الأفريقي في أزمة منذ خمسينات القرن الماضي، فإن هذه الأزمة انعكست على شكل التعاون بين البلدان، فالأنظمة المتعاقبة فيها عملت على التأثير بصورة سلبية على الاستقرار السياسي. فطوال حرب الجنوب "الحرب الأهلية الثانية: 1981م-2005م"، دعمت إثيوبيا و إريتريا المعارضة السودانية مما تسبب في دعم النظام في الخرطوم بعد 1989م الاتجاهات المعارضة أيضًا في هذه الدول. وقد يكون نموذج تشاد، حيث ساعدت الحكومة السودانية المعارضة التشادية في اقتحام العاصمة إنجمينا، ليرد نظام الرئيس السابق إدريس ديبي بدعم حركة العدل والمساواة في الدخول إلى أم درمان "عملية الذراع الطويل 2008"، حتى تتم المصالحة بين النظامين في الخرطوم بعد أقل من عام. 

لا يبدو الوضع القادم بين هذه البلدان مبشرًا، فالنظام في الخرطوم يسعى إلى أن يرسي دعائمه حتى وإن كان بلا انتقال ديمقراطي، ويحظى بدعم دولة مجاورة له من خلال دعم مصالحها المستقبلية مما يتسبب في انعدام الاستقرار السياسي الداخلي. بالمقابل إثيوبيا تمر أيضًا بتحولات مهمة قد تحدد مستقبل العلاقات مع دول الجوار، لذلك تسعى بعض الأطراف بما فيها السودان إلى ضمان أن تتجه هذه التحولات لتكون في صورة من خلالها يمكن بناء جسر اتصال. كذلك إريتريا والصومال أيضًا تمران بتحولات مهمة تشكل مستقبل البحر الأحمر. 

من خلال هذه التقاطعات داخل القرن الأفريقي نلاحظ أن هناك تدخلات من قبل الصين وروسيا لضمان المصالح الاستراتيجية للحلف الروسي – الصيني، خصوصًا مع طرح الصين لطريق الحرير في العام 2013م، وتعتبر أفريقيا أهم مرتكزات هذه الطريق كسوق وكمناطق للمواد الخام. بجانب ذلك تدخل روسيا كفاعل أساسي في منطقة وسط أفريقيا، خصوصًا في مناطق الذهب. إن نظرنا إلى هذا التعقيد بجانب الوجود الأوروبي لدول مثل فرنسا وبريطانيا، والمصالح الاقتصادية لها في أفريقيا؛ تتحول بصورة مباشرة إلى منطقة نزاع بين الأطراف الدولية، خصوصًا مع الهوس الأمريكي بالصين، والتي ترى فيها المؤسسة الأمريكية خطرًا عظيمًا على مصالحها يحوِّل الساحة الأفريقية إلى مسرح للصراع الدولي. 

من خلال الاستعراض أعلاه يمكن أن نقول بأن مستقبل العلاقات في القرن الأفريقي يمر بفترة ساخنة جدًا، في ظل تقاطع وتجاذب الأطراف على الصعيد الدولي والإقليمي. فمع تغير الأنظمة الحالية في المنطقة، هناك مصالح جديدة تتشكل، ومن غير وجود تيارات اتصال تساعد في تقارب الرؤى وخلق مصالح مشتركة تدعم استقرار المنطقة، ومشاريع توحد وتدعم استقرار هذه البلدان، خصوصًا مع موجات التغيرات المناخية والأمن الغذائي بالإضافة إلى الانفجار السكاني في المنطقة، مما سيزيد فرص نشوء صراعات تهدد المنطقة وتشكل واقعًا مختلفًا سيكون من الصعب معالجته على المدى القريب. 

بكل تأكيد يعد السودان من الناحية الجغرافية عرضة لهذه التغيرات، لذلك لا سبيل إلا لمحاولة بناء جسور من التواصل مع جيرانه وتقديم الدعم له في إحداث انتقال سياسي يفضي إلى استقرار، لكي يساهم السودان أيضًا في الوصول إلى استقرار هذه الدول والمجتمعات، ويعاد تشكل التحالفات، من تحالف سياسي، إلى تحالفات استراتيجية تبني هذه الدول والمجتمعات بعيدًا عن تاريخ الصراعات الذي أضر بها و بمصالح شعوبها.

مع دخول المسار السياسي في السودان طورًا جديدًا، مع البعثة الأممية ومشاركة الاتحاد الأفريقي والإيغاد والتي جاءت تحت مسمى "الآلية الثلاثية" يمكن أن نقول بأننا سنشهد سيناريو قريبًا من "تفاوض 2019"، بحيث جنبت القضايا الرئيسية التي تحكم الفترة الانتقالية، ووجهت النقاشات إلى توازنات السياسة والسلطة، مما جعل الفترة الانتقالية بين شركاء السلطة تنهار بصورة سريعة. 

المطلوب من "الآلية الثلاثية" إشراك دول أفريقية كنيجيريا وجنوب أفريقيا ومصر وكينيا كمحاولة لخرق الاحتقان الموجود بين الأطراف، بالإضافة إلى المساهمة التي يمكن أن تقدمها هذه الدول في الشأن السياسي. فجنوب أفريقيا ذات تجربة طويلة في الإصلاح السياسي والاجتماعي في مجتمع منقسم كما السودان حاليًا، بالإضافة إلى أن كينيا دولة ذات تاريخ مع إشكاليات السودان، خصوصًا أنها شهدت توقيع اتفاق السلام الشامل، أما نيجيريا فلقد خاضت تجربة الحوار السوداني من قبل مع أطراف سياسية ومسلحة، ومصر هي الأخرى تعتبر ذات باع طويل مع المعارضة السودانية.

كلما ازدادت الدول المسهلة التي تجمع الأطراف السياسية ذاكرة مشتركة فيما بينها؛ يصبح الضغط على المضي قدمًا في الخيارات السياسية أمرًا ضروريًا،

إن إدخال هذه الدول ليست عملية اعتباطية أو تخرج من أمنيات، بل من واقع سياسي مشاهد، فكلما ازدادت الدول المسهلة التي تجمع الأطراف السياسية ذاكرة مشتركة فيما بينها؛ يصبح الضغط على المضي قدمًا في الخيارات السياسية أمرًا ضروريًا، كما أنه يوفر عنصر ثقة داخل الأطراف أثناء عمليات بناء التفاوض والوصول إلى مخرجات مرضية. وليس هذا وحسب؛ بل يضيف شروطًا جديدة بعيدًا عن الأطراف الخفية التي تورطت خلال الفترة من (2019-2021) والتي ما زالت تلعب على حبال العملية الانتقالية في السودان.