اجتمعت بالأمس الآلية الثلاثية المشتركة بين الإيغاد والأمم المتحدة وبعثتها السياسية لدعم الانتقال في السودان (يونيتامس) لمناقشة آخر التطورات في السودان. وأعربت البعثة، في تنوير صحفي، عن بالغ قلقها إزاء استخدام القوات السودانية للقوة المفرطة في مواجهة الاحتجاجات الجماهيرية الرافضة للانقلاب على السلطة. ودعت الآلية السلطات إلى وقف العنف وإطلاق سراح المعتقلين ورفع حالة الطوارئ بجانب إجراء تحقيق موثوق في حوادث العنف المستمرة منذ ٢٥ أكتوبر. مؤكدةً على أن تهيئة الظروف المواتية يعد أمرًا بالغ الأهمية لنجاح العملية السياسية.
ظلت الآلية الثلاثية تتعرض لمضايقات مستمرة من قيادة الدولة كان آخرها تصريح وزير الخارجية المكلف والذي قال إن البعثة ليس من حقها أن تتدخل في الشؤون الداخلية، خاصة في مسائل العدل والقضاء
هذه ليست المرة الأولى التي تصدر فيها هذه التصريحات عن قيادة الآلية الأممية، والتي تشكلت في كانون الثاني/ يناير الماضي للمساهمة في تيسير حوار سوداني-سوداني، يُفضي إلى حلول سياسية لعودة النظام الدستوري والحكم الانتقالي الديمقراطي، إلا أنها عجزت عن إحداث اختراق في المشهد السياسي حتى الآن. وقد واجهت الآلية -رغم التأييد الدولي والإقليمي الكبير الذي حظيت به- انتقادات واسعة من مكونات سياسية مختلفة، ظلت تكرر أن الآلية الثلاثية تساهم في الإفلات من العقاب ولا تدعم سيادة القانون بوقوفها متفرجًا على عنف الدولة واكتفائها بالإدانة والشجب. خاصة وأن الصراع بين المدنيين والعسكر، مهما تعددت مُبرراته، إلا أنه ليس مبررًا للقتل أو مصادرة الحق في الحياة أو الصحة أو تقييد الحرية.
وامتدت هذه الانتقادات لتشمل اتهام الحزب الشيوعي في مؤتمر صحفي، أمس، البعثة بالعمل على تمرير سيناريو التسوية السياسية، مشددًا على أن السودان غير مستعد لأي وصاية من الخارج، بينما اتهم المتحدث باسم الحرية والتغيير جهات إقليمية ودولية، لم يُسمها، بالسعي لتمرير تسوية مصنوعة منحازة للعسكر. وتتحفظ الحرية والتغيير -مجموعة القوى الوطنية- على النهج الذي تتبعه الآلية الثلاثية، وقال الأمين السياسي للحزب الجمهوري والقيادي في القوى الوطنية، بروفيسور حيدر الصافي، في حديث سابق لـ"الترا سودان، بأنهم منذ البداية دعوا إلى حوار مدني-مدني في منصة سودانية لضمان الحفاظ على السيادة الوطنية.
بينما ظلت الآلية الثلاثية تتعرض لمضايقات مستمرة من قيادة الدولة كان آخرها تصريح وزير الخارجية المكلف في السودان والذي قال إن البعثة ليس من حقها أن تتدخل في الشؤون الداخلية، خاصة في مسائل العدل والقضاء، مشيرًا إلى سيطرة البعثة على المكتب القطري للأمم المتحدة الذي كان يشرف على أداء وكالات الأمم المتحدة.
لقد بات عمل الآلية مهددًا اليوم بافتقادها الأرضية المشتركة والبيئة المواتية لإحداث أي توافق سياسي، فبينما يستمر الخناق الأمني في السودان وتزداد وتيرة العنف؛ ترهن قوى الحرية والتغيير "التحالف الحاكم سابقًا في السودان" التفاوض بما أسمته بـ"التعاطي الإيجابي" والذي يعني تهيئة الأجواء السياسية للتفاوض بإلغاء حالة الطوارئ وإطلاق سراح المعتقلين وعتق الحريات. في وقت ترفض فيه لجان المقاومة السودانية الانخراط في أي حوار مع العسكر، مشددة على شعارها السياسي المعروف "اللاءات الثلاث" والتي تشير إلى رفض الشراكة والتسوية والتنازل لصالح القوى المتحكمة في السلطة.
القراءة الموضوعية للوضع السياسي في السودان تشير إلى أن أي تقدم ملموس في تقريب وجهات النظر يتطلب توافر الإرادة السياسية لدى الفرقاء، وفي ذات الوقت، توافر الجدية والمهنية من الجهة المُيسرة للحوار عبر تهيئة البيئة المواتية للنقاش عمليًا وتوفير الضمانات المطلوبة لإنفاذ أي اتفاق يُراعي مصالح الأطراف، في إطار مدني وديمقراطي وعدم المساس به وصولًا إلى انتخابات حرة ومستقلة. وبفعل الواقع هذه المطلوبات غير متوافرة بالصورة التي تجعل المشهد السياسي الذي يعيشه أهل السودان اليوم موائمًا لأي تفاوض ناجح.
ويختبر السودان اليوم حقيقة انحياز المجتمع الدولي للانتقال الديمقراطي و أجندته، إلا أن ذلك الانحياز لم يُترجم إلى أفعال عملية ومؤشرات تضع حدًا للانتهاكات اليومية التي تطال المدنيين في السودان، ومحاولات العسكر إضفاء الشرعية بالعنف ومصادرة الحقوق الأساسية والحريات. والحديث عن الانحياز لأجندة الانتقال يتطلب النظر بعين الاعتبار إلى المؤشرات الآتية:
أول مؤشرات في ذلك الانحياز هي تحديد موقف صارم تجاه القتل المتكرر وحالات الانتهاك اليومية لحقوق الإنسان، وأن يدرك المجتمع الدولي أن الأجواء التي تتيح للتفاوض أن يمضي في أهدافه؛ غائبة عن المشهد السياسي السوداني اليوم، بفعل عدم الاتساق في مواقف المكون العسكري والقوى المدنية التي ترفض أي حديث عن نظام ديمقراطي في أجواء شمولية ووضع غير دستوري. هذه الخطوة تتطلب الاعتراف بالانتهاكات التي مارستها القوى المتحكمة في السلطة اليوم وأن تُقر امام طاولة التفاوض بانتهاكها لحقوق لا خلاف حولها، وأن تعتذر عمًا بدر منها من تقصير وانتهاك، وتبدِ استعدادها للمحاسبة عليه. ولزامًا عليها أن تعترف في ذات الوقت، بأن توصيف ما مارسته في 25 تشرين الأول/ أكتوبر هو "انقلاب" على سلطة ديمقراطية دستورية وإحساس زائف بالأحقية المطلقة في النظر لشؤون البلاد.
وثانيًا تسوير التفاوض الحالي بمنهجية محكمة وأرضية مشتركة تناسب كافة الأطراف، يمضي منها إلى بر آمن، ولابد هنا من مراعاة توصيف المشهد السياسي الحالي وما شابه من انهيار، والبحث عن مسببات ذلك الانهيار. ولقد لعبت بعثة الأمم المتحدة دورًا متميزًا في تحديد أدوار الفترة الانتقالية وحصرها في مهام أساسية، لابد من الالتفات إلى هذه المهام وتحديد الفاعلين في تحقيقها وبحث الآليات التي تناسب تحقيقها. ومن أبرز هذه المهام: العلاقة بين المدنيين والعسكريين في تاريخ ومستقبل السودان، طبيعة ونوع الحكم في السودان، إصلاح القطاع الأمني وتوحيد المظلة الاقتصادية للحكومة.
ثالث هذه المؤشرات؛ هو التعاطي مع مخرجات كل مرحلة من مراحل هذه المشاورات بواقعية واستصحاب مخرجاتها في المراحل المقبلة. ليس من المنطق أن تقفز الآلية الثلاثية على الخلافات المطروحة في الطاولة عبر تغيير شكل وهيكل التفاوض من مباشر إلى غير مباشر في كل أزمة مبدئية لأن الأزمة الحالية ليست أزمة شخصية بل هي أزمة هياكل ومؤسسات تقتضي التعامل معها بقدر حكم التحديات الماثلة.
ورابعًا الشمول، والذي يعني أن تستصحب أي مفاوضات حول مستقبل انتقال السودان، أجندة هذا الانتقال وقضاياه الملحة كاملة وبحث جذور هذه القضايا، ورغم أن مباحثات بعثة يونيتامس التي يقودها السيد فولكر بيرتس قد مضت في حصر مهام الانتقال ومناقشتها مع أطراف واسعة؛ إلا أنها لم تلتفت بالصورة الكافية لقضية السلام التي باتت جزءًا محوريًا من تحديات الفترة الانتقالية وهي من الملفات المتحكمة في انتهاء هذه الفترة والضلوع في إجراء انتخابات حرة ومستقلة.
رغم أن مباحثات بعثة يونيتامس التي يقودها السيد فولكر بيرتس قد مضت في حصر مهام الانتقال ومناقشتها مع أطراف واسعة؛ إلا أنها لم تلتفت بالصورة الكافية لقضية السلام التي باتت جزءًا محوريًا من تحديات الفترة الانتقالية
الساحة السياسية السودانية تترقب اليوم نتائج الجلسة المفتوحة التي دعا لها مجلس الأمن الدولي لمناقشة قضايا السودان وجنوب السودان والتي يقدم خلالها رئيس البعثة والممثل الخاص للأمين العام في السودان، الألماني فولكر بيرتس، تنويرًا حول آخر التطورات في السودان. الجلسة التي ستناقش وضع البعثة الأممية وتفويضها الذي ينتهي أمده في يونيو القادم، من المتوقع أن تفتح الباب أيضًا أمام تحديد موقف صارم من سياسات العسكر في السودان، خاصة بعد التحذيرات التي دفعت بها الإدارة الأمريكية، أمس، من الأوضاع في السودان، والمخاطر التي تكتنف التعامل مع الحكومة السودانية والشركات المملوكة للأجهزة النظامية في البلاد، وذلك على خلفية استيلاء الجيش على السلطة في الخامس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي.