30-يونيو-2020

الحكم المدني أحد أهم مطالب الثورة - أرشيفية (AFP)

خرج السودانيون اليوم في مواكب مليونية هادرة، استلزمت أن تستنفر لها الأجهزة الأمنية طاقتها القصوى، صاغرةً ومبديةً إذعانها لإرادة الجماهير، وهو ما ظلّ عصيًا على السودانيين طيلة سنوات حكم النظام البائد، فهذه من المرات النادرة التي يخرج السودانيون فيها للتظاهر لرفع مطالبهم، في ظل إذعان ورضوخ المؤسسات الرسمية لهذا الحق الأصيل للشعوب.

يخرج السودانيون اليوم وأملهم هو استكمال وتصحيح مسار ثورة كانون الأول/ديسمبر المجيدة، عبر الأداة التي نجحت في اقتلاع أعتى الديكتاتوريات، المواكب المليونية والمظاهرات، مثلما ساهمت بشكلٍ كبير في استعادة المسار الصحيح للثورة عقب مجزرة فض اعتصام القيادة العامة العام الماضي.

المجلس العسكري صار يبحث عن سندٍ مدني، عندما أحس بأن قوى الحرية والتغيير وقاعدتها الجماهيرية الثورية تطمح بشكلٍ جادٍ في سيطرة المدنيين على أجهزة الدولة

في 30 حزيران/ يونيو العام الماضي، كانت كل القرائن تؤكد أن فض الاعتصام كان خطوة للتخلص التام من قوى الحرية والتغيير والانقلاب على الثوار ومطالبهم، وهو ما ظلّ حلمًا بعيد المنال بالنسبة للمجلس العسكري آنذاك، عقب خروج السودانيين بالآلاف في مختلف أرجاء السودان، لتعود الثورة مرة أخرى لجادتها، ويسلّم المجلس العسكري بضرورة العودة للتفاوض، كما قبِل مبادرة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، التي أطلقها ورعاها رئيس الوزراء، عقب المليونية التي أخبرت العالم أجمع أن مطالب السودانيين في استكمال ثورتهم لن يوقفها أي قتلٍ أو إخفاءٍ قسري.

اقرأ/ي أيضًا: ما هي رمزية 30 يونيو؟ وما الذي تمثله بعد عام؟

ما قبل فض الاعتصام، كان الاعتصام هو الورقة الأقوى لقوى الحرية والتغيير، الورقة التي تمنحها الجرأة على تحدي العسكر السوداني المشهود له بالانقلابات والانفراد بالسلطة، حيث لم تنفك -قوى الحرية والتغيير- تستخدم الاعتصام كأداة للضغط، رغمًا عن تحقيق مكاسب جزئية للقوى المدنية في ذلك الوقت، إلا أنها كانت ترفع سقف مطالبها بين الحين والآخر، مستعينةً كل مرة بأصوات جماهير الاعتصام، الطامحة في التغيير الجذري.

من جانبٍ آخر، كان المجلس العسكري يبحث عن سندٍ مدني، عندما أحس بأن قوى الحرية والتغيير وقاعدتها الجماهيرية الثورية تطمح بشكلٍ جادٍ في سيطرة المدنيين على أجهزة الدولة، كأحد المطالب الأساسية للثورة، فبدأ المجلس يفكر ويسعى لإشراك قوى سياسية، غير منضوية تحت مظلة قوى إعلان الحرية والتغيير، في هياكل السلطة المقبلة. الأمر الذي دعا المجلس العسكري، بشقيه القوات المسلحة، والدعم السريع، إلى أن يغازلا عددًا من القوى السياسية والقوى الاجتماعية الأخرى، كرجال الدين الذين عقد لهم المجلس العسكري الانتقالي، آنذاك، لقاءً جامعًا عبروا فيه صراحةً وضمنًا عن رفض المشروع السياسي لقوى إعلان الحرية والتغيير، كرفضهم لشعارات فصل الدين عن الدولة وغيرها.

اقرأ/ي أيضًا:  30 يونيو: تصحيح مسار أم تجذير قاعدي للفعل الثوري؟

ويبدو إلى هنا أن المجلس العسكري فاقد السند، حينما وجد رفضًا شعبيًا وسياسيًا للقوى التي ألمح بضرورة إشراكها، إذ مرارًا ذكر رئيس المجلس العسكري، عبد الفتاح البرهان، أن قوات الدعم السريع: أتت من "رحم القوات المسلحة"، فجل ما كان يعول عليه المجلس العسكري حينها هي ورقة قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو "حميدتي"، بوصفه ضامنًا للرضا الإقليمي، بحسب موقعه الأبرز في حرب اليمن، ودعم الإمارات والسعودية الذي يتلقاه، فبذلك كان المجلس العسكري يفكر في السند الإقليمي، إن لم ينل السند المدني.

العلاقة بين الشريكين  بلغت أعلى مراحل سوئها قبيل فض الاعتصام

ويبدو أن العلاقة بين الشريكين، قبيل فض الاعتصام، بلغت أعلى مراحل سوئها، إذ أقدم المجلس العسكري على فض الاعتصام في التاسع والعشرين من شهر رمضان الموافق الثالث من حزيران/يونيو 2019، في مجزرةٍ راح ضحيتها المئات من الشبان والشابات. وأثناء تلك الصدمة أطلّ البرهان على الشعب السوداني بالتلفزيون القومي معلنًا: إيقاف وإلغاء كل ما تم الاتفاق عليه في التفاوض مع قوى إعلان الحرية والتغيير، ومعلنًا عن تشكيل حكومة تسيير مهام، وإجراء انتخابات خلال تسعة أشهر.

استيقظت الخرطوم يومها ما بين مصدقٍ ومكذب، وتحولت صفحات وسائل التواصل الاجتماعي إلى غرفة نشطة لتبادل الأخبار والاطمئنان على بعضهم البعض، في الأثناء انتشرت قوات الدعم السريع داخل الأحياء السكنية وهي تطارد الثوار الشباب، الذين قاموا بـ "تتريس" معظم الشوارع داخل الأحياء السكنية، وبدأت حالات الكر والفر بين الأجهزة الأمنية والثوار، ثم أتى قطع خدمة الإنترنت والذي سبقه سوء شبكة الاتصال طوال ذالك اليوم.

ورغم الهلع الذي أصاب السودانيين ذلك اليوم، نسبةً لضبابية الصورة وعدم اكتمال المعلومات، وعشرات المفقودين، وشهادات عن طرق قتل بشعة، إلا أن الثوار كانوا قد أظهروا شجاعةً وثباتًا عاليين، مصممين أن تكمل الثورة الطريق الذي ابتدأته.

وترجح الشواهد أنه بعد فض الاعتصام ثمة تفاهمات حدثت ما بين المجلس العسكري، وعددٍ من الشخصيات البارزة على مواقع التواصل الاجتماعي. فبعد أن أعلن رئيس وزراء دولة إثيوبيا، آبي أحمد، قيادة مبادرة ما بين الفرقاء في السودان، قوبلت مبادرته بالرفض والسخرية من قبل المجلس العسكري، ففي الوقت الذي كان يجمع فيه السودانيون بقاياهم وأرواحهم المكلومة نظير غدرٍ ألمّ بهم في ساحة الاعتصام، سيّر الناشط الإسفيري أحمد الضي بشارة، مسيرة أمام مقر السفارة الإثيوبية بالسودان رافضة للمبادرة، وفي الأثناء، تحدث نائب رئيس المجلس العسكري "حميدتي" مستهزءً بالمبادرة، قائلًا فيما معناه: "يجب على آبي أحمد معالجة مشاكله أولًا". في إشارة إلى الخلافات الحادة ما بين الحكومة الإثيوبية ومعارضيها داخل إثيوبيا.

اقرأ/ي أيضًا: جنوب السودان: ماذا بعد تجاوز معضلة توزيع الولايات؟

ورغم الأجواء القمعية آنذاك، والوجه الدموي الذي كشف عنه العسكر ساعتها، إلا أن الثوار السودانيين ظلوا يعملون بجدٍ ودأب، في الإعداد للخروج في 30 حزيران/ يونيو 2019.

في 30 حزيران/يونيو، خرج الملايين في أكبر تظاهراتٍ شهدتها البلاد، بشكلٍ أحبط آمال العسكريين في زرع الخوف في قلوب الثوار

لا يستطيع أحدٌ الجزم بما كان سيؤول له الوضع في السودان لولا خروج السودانيين في مثل هذا اليوم من العام الفائت، بعد انقطاع التظاهرات بشكلها الصاخب، إلا بعض المواكب الصغيرة في الأحياء. وعلى الرغم من صعوبة التواصل ساعتهافي ظل انقطاع خدمات الانترنت والقبضة الأمنية الخانقة للمجلس العسكري، ووجود مئات البيوت المكلومة، وعددٍ كبيرٍ جدًا من المفقودين مجهولي المصير، خرج الملايين في أكبر تظاهراتٍ شهدتها البلاد، بشكلٍ أحبط آمال العسكريين في زرع الخوف في قلوب الثوار.

في 30 حزيران/يونيو 2019، اتفق السودانيون عفويًا على الخروج في مليونيات، جابت شوارع العاصمة والولايات،  لتخبر العالم أن ثورة كانون الأول/ديسمبر قوية كالفولاذ، حمراء كالجمر، باقية كالسنديان، عميقة كحبنا الوحشي للوطن، وها هم اليوم يعيدون تكرار نفس الملحمة.

اقرأ/ي أيضًا

معاول البناء الهدام

النزاعات القبلية: نظرة لما بعد نظريات المؤامرة