كان من العار أن تصدر أحزاب وكيانات الحاضنة السياسية لحكومة الفترة الانتقالية بياناتٍ مؤيدة لخروج قوى الثورة الشبابية والشعبية في 30 حزيران/يونيو القادم. وذلك ليس لأن مصدر هذا العار هو الفشل التاريخي المتراكم والمزمن للطبقة السياسية الحزبية القديمة في إدارة الفترات الانتقالية السابقة والحالية دون محاصصات وتحالفات انتهازية وانقسامات، ولكن لأنها تحاول الآن الالتفاف مرةً أخرى حول قوى الثورة الشبابية والشعبية لاستعادة أرض الثقة المفقودة وملء الفراغ الكبير الذي أخذ يتسع بين قوى الثورة الشبابية والشعبية وأحزاب وكيانات تحالف قوى الحرية والتغيير بعد مجزرة القيادة التي أرتكبت أمام مرأى ومسمع وفد قوى الحرية والتغيير الذي كان يفاوض العسكر باسم ثائرات وثوار ثورة كانون الأول/ديسمبر المعتصمين في ساحة القيادة آنذاك.
تجذير الفعل الثوري قاعديًا في مساحات وفضاءات شعبية جديدة وبناء جبهات ثورية جديدة وتوسيع المواعين التشاركية هو من صميم عمل قوى الثورة الشبابية والشعبية
غير أن تجذير الفعل الثوري قاعديًا في مساحات وفضاءات شعبية جديدة وبناء جبهات ثورية جديدة وتوسيع المواعين التشاركية هو من صميم عمل قوى الثورة الشبابية والشعبية، بعد أن أنتجت الثورة واقعًا جديدًا لا يتقاطع مع الواقع الحزبي القديم والمتكلس في أي محورٍ من محاور التلاقي سوى أن تتحمل الحاضنة السياسية مسؤولياتها السياسية والأخلاقية كاملة أمام السودانيين إذا ما فشلت هي وحكومتها الانتقالية في إدارة ما تبقى من حطام وأشلاء الفترة الانتقالية.
اقرأ/ي أيضًا: جنوب السودان: ماذا بعد تجاوز معضلة توزيع الولايات؟
وما يشاع ويروج له بأن قوى الثورة الشبابية والشعبية ستخرج بمواكبها الملحمية الهادرة في 30 حزيران/يونيو القادم لكي تصحح مسار الثورة المنحرف يجانبه الصواب إلى حدٍ كبير. لأن لا قوى الثورة الحقيقية حادت عن مسارها القاعدي الجنيني الذي أخذ يتشكل رويدًا رويدًا طوال مراحل الثورة وأطوارها، حيث أخذ يتسع حيز الفعل الثوري وتتخلق منه مساحات وفضاءات عامرة بالحراك اليومي، ولا المسار نفسه انحرف عن الفعل الجذري اليومي الذي تعمل لجان المقاومة على ترسيخه بممارساتها الثورية اليومية من مواقعها المختلفة في الأرياف والحضر.
ما حدث هو أن الحاضنة السياسية لحكومة الفترة الانتقالية هي من قادتها ممارساتها الفوقية ومحاصصاتها الحزبية وتحالفاتها الانتهازية مع العسكر إلى الانحراف عن المسار الشعبي-القاعدي للثورة. ناهيك عن أن قوى الحرية والتغيير، بأحزابها ومكوناتها الأخرى، تلطخت أياديها أيضًا بدماء شهداء فض الاعتصام ومجزرة القيادة العامة في الثالث من حزيران/يونيو الماضي. فإذا كان العسكر هم من قاموا بارتكاب هذا الفعل الإجرامي البشع، فإن اتفاقيات وشراكات الحد الأدني التي خضع لها المدنيين منذ مرحلة التفاوض الأولى وإلى توقيع الوثيقة الدستورية في 17 آب/أغسطس 2019، هي التي مهرت مسار الثورة بالدم والغدر والخيانة. ويكفي أن ذات القوى الحزبية الحليفة للعسكر كانت قد وافقت على فض منطقة كولومبيا، زعمًا منها أن كولومبيا تشكل مصدر تهديدٍ أمني لساحة الاعتصام وثائراتها وثوارها. وكأن كولومبيا كوكب مظلم يدور خارج مدارات شموس الفعل الثوري المشع الذي انتجته قوى الثورة الشبابية والشعبية طوال مراحل حركتها الاحتجاجية. أو كأن كولومبيا لم تكن قطعةً حيةً من لحمنا الجمعي الحي الذي نهشته ديكتاتوريات العسكر المارقة من أوحال الفشل التاريخي المزمن للسياسة الحزبية في بناء دولة كل السودانيين؟
اقرأ/ي أيضًا: النزاعات القبلية: نظرة لما بعد نظريات المؤامرة
لن تخرج قوى الثورة الشبابية والشعبية بمواكبها في 30 حزيران/يونيو القادم من أجل الضغط في اتجاهات تحقيق أهداف الثورة واستكمال هياكل ومهام الحكم الانتقالي فحسب، وإنما أيضًا لكي تجذر فعلها الثوري أكثر وتمتن قوامه القاعدي بضم فئات وقوى اجتماعية كانت محايدة أو محيدة طوال أطوار الثورة ومراحلها.
الثورة لم تفقد مسارها، بقدر ما فارقتها قوى إعلان الحرية والتغيير التي آثرت توسيع خيارات البنية السياسية الفوقية
وذلك لأن الثورة لم تفقد مسارها، بقدر ما فارقتها قوى إعلان الحرية والتغيير التي آثرت توسيع خيارات البنية السياسية الفوقية، بتحالفاتها ومحاصصاتها الانتهازية وانقساماتها، على حساب خيارات بنى الثورة القاعدية والشعبية. إن مواكب 30 حزيران/يونيو مثلت حدثًا جذريًا وليس ذكرى تاريخية سيعاد إحياؤها سياسيًا ومطلبيًا لضغط الحكومة لاستكمال استحقاقات الثورة. إذ لم تشكل مواكب 30 حزيران/يونيو من العام 2019 لحظةً من اللحظات التاريخية المفصلية في مسار ثورة ديسمبر فحسب، بعد أن قطعت الطريق أمام طموحات العسكر في الانفراد بحكم البلاد بعد ارتكابهم لمجزرة القيادة في الثالث من حزيران/يونيو، ولكنها كانت في حد ذاتها ثورة الثورة، أو ثورة داخل ثورة جذرية، أي تلك الثورة التي أحيت الحركة الاحتجاجية الجذرية التي قادتها القوى الشبابية والشعبية في مراحل الثورة الأولى من كانون الأول/ديسمبر 2018 إلى السقوط الأول غير المكتمل إلى الآن، للنظام الإسلاموي الشمولي في 11 نيسان/أبريل 2019.
إن هذه المواكب هي في جوهرها ملاحم من التقعيد العضوي للفعل الثوري، وذلك أكثر من كونها تمظهر احتجاجي سياسي خارجي فرض من أعلى أو بشكلٍ فوقيٍ مفارقٍ لحالة التجذير اليومي الجماعية للفعل الثوري التي تولدت في أرحام البيوت أكثر من الشوارع المدججة بالعتاد العسكري والمحاصرة بجحافل مليشيات الدعم السريع آنذاك. كما مثلت هذه الملاحم مرحلةً هامةً من مراحل بناء المقاومة الشعبية في مستوياتها الاجتماعية الأدنى والأعلى معًا وسط فئات ومجموعات كانت محايدة أو محيدة إلى حدٍ كبير طوال مرحلة ما قبل السقوط وما بعده أيضًا.
اقرأ/ي أيضًا: معاول البناء الهدام
يلزمنا الآن أن نمضي في اتجاهات توسيع خيارات الواقع الثوري الجديد الذي يتشكل قوامه غير المكتمل من مساحات وفضاءات تشاركية فارغة خلقها الحراك القاعدي للجان المقاومة طوال مراحل الثورة. إن هذه المساحات والفضاءات لا بد أن تتحول إلى جبهات ثورية جديدة تعمل على تثوير قضايا الانتقال والتحول. فعلى سبيل المثال، كانت تتطلب قضية رفع الدعم، وهي من قضايا الإصلاحات الهيكلية الحساسة ولها ما بعدها من مآلات سياسية وخيمة أكثر منها اقتصادية فحسب، تكوين جبهة ثورية قاعدية قوامها الفئات الأكثر فقرًا والمتضررة من عواقب هذا التوجه الحكومي الإصلاحي، وذلك بدلًا من الاكتفاء بمعارضة هذا المنحى الإصلاحي إسفيريًا وفوقيًا دون النزول إلى الأرض وتشكيل جبهة ثورية انتاج فعل موازي ومضاد للفعل السلطوي التقليدي.
لا بد من توسيع نطاق الحراك الثوري المجالي ميدانيًا ورمزيًا من خلال احتلال مواقع السلطة
كما أن تثوير قضايا الناس ومشاكلهم بشكلٍ دائم، يتطلًًب أن نعمل على الدوام على تثوير استراتيجيات المقاومة وتجديد عمليات إنتاج الفعل الاحتجاجي. إذ لم تعد تجدي استراتيجية ضغط السلطة الرسمية عن طريق تسليم المذكرات والوقفات الاحتجاجية أمام مواقع السلطة التقليدية. إن مواكب 30 حزيران/يونيو القادمة تمثل حدثًا تثويريًا في حد ذاته، جسرًا جديدًا من جسور التثوير الذي يعبر بالفعل الثوري إلى جغرافيا جديدة أو أرضًا جديدة لإحياء المقاومة لكل أشكال السلطة وتجذيرها في اتجاهات البناء القاعدي والتشاركي المفتوح، سواء كان ذلك من خارج جهاز الدولة أو من داخله: إذ يفرض علينا هذا الحدث الثوري الاستراتيجي احتلال مواقع السلطة التقليدية والأجهزة السيادية الأخرى، كمجلس الوزراء والأجهزة والدواوين الحكومية الأخرى. وللجان المقاومة تجارب سابقة في احتلال المحليات واجتثات فلول الكيزان وأرزقية النظام البائد منها. أي لا بد من توسيع نطاق الحراك الثوري المجالي ميدانيًا ورمزيًا من خلال احتلال مواقع السلطة. إذ لا بد لقوى الثورة الشبابية والشعبية أن تفرض خياراتها التثويرية على جهاز دولة منتهك ومستباح ومعزول فوقيًا عن مسارات الثورة القاعدية. إذ ظل هذا الجهاز يمثل غنيمة حرب دائمة بين العسكر والمدنيين حول امتيازات طبقية ومصالح نخبوية وانحيازات حضرية.
اقرأ/ي أيضًا