21-يونيو-2020

من وقفة للتعايش السلمي - القضارف (تجمع المهنيين السودانيين)

تعيش الكثير من ولايات السودان خاصة تلك المتأثرة بالحرب حالةً من الهشاشة والسيولة الأمنية تجعلها عرضة للانزلاق إلى متون الاقتتال القبلي بكل سهولة، انتشار السلاح بالإضافة لعدم تكون هياكل للسلطة الانتقالية مع ضعف أداء وعدم مهنية القوات الأمنية مع تداخلاتها وتقاطع مصالحها مع تلك الصراعات، تجعل خطط الحلول المؤقتة غاية في الصعوبة. خاصةً وأن الكثير من التحليلات بتوقفها عند حد نظرية المؤامرة ووجود طرفٍ ثالثٍ كالدولة العميقة أو التدخلات الإقليمية؛ تحجب الكثير من التعقيدات التي تستبطنها هذه الصراعات.

الصراعات القبلية في غالبها ناتجة عن تراكمات فشل الدولة في إدارة الحروب بينها والقوى الخارجة عنها، أو فشلها حتى في السيطرة وإدارة الصراعات والتناقضات بين المجتمعات لفترةٍ طويلةٍ

وهي صراعاتٌ في غالبها ناتجة عن تراكمات فشل الدولة في إدارة الحروب بينها والقوى الخارجة عنها، أو فشلها حتى في السيطرة وإدارة الصراعات والتناقضات بين المجتمعات لفترةٍ طويلةٍ مما يؤزم صراعاتها ويعقد طرق الوصول لحلولٍ دائمةٍ فيتطاول أمد الحروب والتي بدورها تولد مع الزمن ديناميكيات جديدة تتجاوز بها أسباب الصراع الأولية بحيث يصبح النزاع جزءً من تركيبة المجتمع، ويتحول رويدًا الصراع الواقعي حول الموارد أو أي قضية، إلى صراعٍ غير واقعي تحركه ردات فعل تجاه الآخر الذي يترسخ في الذهن كعدوٍ دائمٍ نتاج تراكم خطاب كراهية ضد الآخر تصنعه حالة الصراع المستمر أو تنتجه بعض القوى المستفيدة من الصراعات والتي تقوم بإعادة بثه كلما احتقن الوضع. 

اقرأ/ي أيضًا: "كوشيب" أمام العدالة الدولية.. لا إفلات من العقاب

ومن الملاحظ أن بعض الصفحات والمواقع الالكترونية تنشط في تأجيج الصراع بإعادة نشر خطابات التحريض نحو الآخر وإن تم تغليفها بلباس الموضوعية والحقيقة، ولكن في مضمونها تحمل رسائل عداء بتقليص أي جانبٍ إيجابي للآخر والتقليل من أهمية الحوار وإلقاء كل اللوم على الآخر، أو نشر تهديدات ومخاوف متخيلة من الآخر بالإضافة لخطابات الهدر والعنصرية. إذ تنشأ حالة صراع تخيلية مع الآخر يتم التركيز بالتالي على كيفية إيذاء الخصم وتجاهل الأسباب الأساسية للصراع، فقد يكون النزاع بسبب خلافٍ أو مشاجرةٍ بين أفراد أو حتى بسبب صراع صغير ذو طابع جنائي مثل حوادث السرقة أو الاعتداءات الفردية.

ويمكن قراءة حالة دارفور كمثال جيد، بحيث أن حالة العنف تطغى على كل وسائل التعايش والتحاور، فنزاعات صغيرة جدًا ولأسباب غير مهمة قد تتحول لحالات اقتتالٍ قبلي تردى من القتلى العشرات. مثلًا أحداث معسكر كريندق بالجنينة التي بدأت بمشاجرة عادية، وحادثة تلس التي يرجح أنها نشأت بسبب حادثة سرقة. تدلل أحداث العنف المتكررة على حالة عدم الثقة التي تجاوزت القوات الأمنية والعسكرية إلى المجتمعات فيما بينها بحيث يصبح الآخر عدوًا ومهددًا ما لم يثبت عكس ذلك، وفي ظل أوضاع محتقنة يصعب إثبات حسن النية طالما كانت الأصابع على الزناد دائمًا. 

اقرأ/ي أيضًا: السلام في خلافات تجمع المهنيين: أولوية أم كرت ضغط؟

تطاول أمد الحروب بين المجتمعات يترك اثارًا مستمرة في الذاكرة الجماعية، ويمكن باستمرار إعادة استدعاء الذكريات لاستدرار عاطفة الجماعات ناحية العنف والاحتفاظ بحالة العداوة ناحية الأخر في شكل يشبه الثأر التقليدي. الأخر دائمًا لديه سابقة اعتداء وعنف يبرر كل تعدي عليه، والأخر في حال الصراعات المشابهة ذو صفات تعميمية خاصة في ظل صراعات لها طابع او شكل هوياتي ، ففكرة سلبية عن فرد من مجتمع آخر يتم تعميمها وتغييب أي وجود للتنوع والاستقلال الفردي بين الجماعات المختلفة، فخطأ فرد  واحد يساوي خطأ الجماعة كلها، وبالتالي فإن الآراء السلبية ضد الآخر تتكون ضد الجماعات لا الافرد وهذا ما يؤهب للنزاعات القبلية طويلة الأمد.

الحل النهائي لهذه النزاعات يتجاوز حتى اتفاقيات السلام الأولية ووقف إطلاق النار

كل الصراعات القبلية التي شهدها السودان خلال العام الفائت تقع بدرجة من الدرجات داخل تعقيدات النزاعات المتطاولة ذات الأثر الممتد، وبالتالي؛ فإن سبل الحل المؤقتة التي اتبعتها السلطات لم تأتِ بأي تأثيرٍ إيجابي على أرض الواقع، فالجوديات واتفاقيات الصلح تم كسرها مرارًا وتكرارًا مع نشوء بؤر صراعٍ جديدةٍ كل مرة كما حدث في كادقلي ثم لقاوة، هذا يشير إلى أن الحل النهائي لهذه النزاعات يتجاوز حتى اتفاقيات السلام الأولية ووقف إطلاق النار، فالسلاح المنتشر في وسط أيادي المواطنين العاديين في ظل صراع تتداخل فيه مصالح المؤسسات العسكرية والأمنية الرسمية مع صراعات المصالح القبلية، يوفر للكثير من القوى الاجتماعية أرضية جدلٍ تنازع فيه المؤسسات الرسمية شرعيتها، وبالتالي تبرر لنفسها حمل السلاح ولو على سبيل الحماية. 

اقرأ/ي أيضًا: من سيغسل أيادي العسكر من دماء شهداء مجزرة القيادة؟

وقد يكون أول خطوات الحل العملي لوقف النزاعات القبلية هو هيكلة القوات العسكرية وإعادة تأهيلها لرفع درجة مهنيتها وتقليل درجة انحيازها لأي من القوى الاجتماعية، وذلك بقطع حبل المصالح بين القوى العسكرية والصراعات الاجتماعية. وما يلاحظ أن الوثيقة الدستورية قد سكتت بالكامل عن عملية هيكلة القوات الأمنية المسلحة، فبقيت بكل سوءاتها، وكانت في بعض الأحيان هي إحدى أسباب تفاقم الصراعات مثل حالة كادقلي والتي كانت أشبه بتقاتل ميليشيات رسمية بغطاءات قبلية من كونها صراع قبلي صرف.

الأمن ليس وحده الحل، ولكنه خطوة أولى في سبيل تحقيق الاستقرار، الخطوة الأولى لقطع الطريق أمام احتمالات نشوب نزاعاتٍ اجتماعيةٍ مسلحة

ولئن سكتت الوثيقة الدستورية عن أمر هيكلة القوات العسكرية فإن الطريق أمام إصلاحها لم ينغلق كليًا، فلا زال الباب مواربًا غير محكم الإغلاق، ولا زالت الفرصة مواتية لإجراء إصلاحاتٍ حيويةٍ على القطاع العسكري؛ بيد أن الأمر رهن التوقيع على اتفاقيات سلام، والتي يأتي بند الترتيبات الأمنية ضمن إحدى أهم بنود النقاش فيها، والذي إن تم استخدامه جيدًا، فإنه سيكون إحدى أهم آليات إصلاح الوثيقة الدستورية، وملء إحدى أكبر فجواتها.

ومن الأكيد فإن الأمن ليس وحده الحل، ولكنه خطوة أولى في سبيل تحقيق الاستقرار، الخطوة الأولى لقطع الطريق أمام احتمالات نشوب نزاعاتٍ اجتماعيةٍ مسلحة، ومن ثم فتح المجال للمؤسسات المدنية للعمل من على الأرض من أجل تحقيق التنمية المستدامة وإصلاح النظام الهيكلي للدولة، باعتبار أن أسباب هذه النزاعات تعبر عن تداخلٍ لعوامل عدة، تتراوح  بين التخلف التنموي والحرمان الهيكلي والجهل.

اقرأ/ي أيضًا

متى كان "الصادق المهدي" مع الثورة؟

تقرير أوروبي: الإمارات والسعودية يجهزان حميدتي للحكم وأوروبا خذلت المدنيين