تعود القصة إلى سلسلة مقالات نشرت في 2018 بعنوان: ماذا يحدث في مصحة كوبر؟ رصدت خلالها المحررة عددًا من الانتهاكات التي تمارس ضد المرضى، من شاكلة تعنيف طاقم التمريض للنزيلات واجبارهن على العمل ورهن الحصول على حصص جيدة من الطعام بتقديم خدمات شخصية للطاقم. أوضحت المحررة أن النزيلات يتم حبسهن داخل مراحيض قديمة لا تعمل، مع تردي الخدمات الطبية المقدمة.
اليوم، نفتح ملف مصحة عبدالعال الإدريسي ونرصد المتغيرات بعد مرور عامين، ونطرح السؤال: كيف يعاد صياغة مفهوم الوظيفة العمومية في عهد الثورة؟
يتساءل التحقيق عن حق تعويض المتضررين، ويرصد مزيدًا من الانتهاكات التي تتمثل في الاستهانة عند التعامل مع حياة وشكوى المرضى وتصل الانتهاكات إلى حد التسبب في وفاة المريض.
نزيل سابق: كنت شاهد عيان على حادثة وفاة داخل زنازين المصحة، ويتم إدخال المرضى إليها عاريين حيث يمكثون على هذه الحال لأيام أو أسابيع
ما هي مصحة عبدالعال الإدريسي؟
هي مصحة لعلاج الأمراض النفسية والعقلية، يطلق عليها أسم "مصحة كوبر" نسبة للحي السكني الذي يقع فيه المبنى، وهو الاسم المتعارف بين الأهالي والسكان ومرتادي المصحة.
أما اسم عبدالعال الإدريسي فهو الاسم الرسمي الذي تتعامل به الدوائر الحكومية.
تتبع المصحة لقسم الخدمات الطبية في الشرطة، وإدارة المصحات التابعة لإدارة السجون.
تقدم المصحة خدمات العلاج والإرشاد النفسي لعدد من الفئات وهي: الحالات التي لديها مواد جنائية وارتكبت جرائم ويعاني أصحابها من اضطرابات نفسية. فئة أخرى، تشكل خطرًا على نفسها والمجتمع، ولم ترتكب جرائم. لكن، المصحات المدنية ليست مهيأة لاستقبالهم لخطورة وضعهم الصحي. فيتم تحويلهم إلى مصحة كوبر عبر فتح بلاغ تحت المادة (118) من القانون الجنائي.
أيضًا، تستقبل المصحة الفئات المريضة نفسيًا، ممن ليس لهم أهل أو مجهولي الهوية، وإن كانوا لا يشكلون خطرًا على أنفسهم أو المجتمع، لكنهم متواجدين في الطرقات والشوارع العامة، حيث تصبح الشرطة هي ولي أمرهم. لأن بقية المصحات لا تستقبل مريض دون وجود مرافق من الدرجة الأولى.
المريض (ع) يروي قصته
المريض (ع) شاب عشريني، مغني راب له شهرة محترمة في أوساط الشباب. يعاني من خلافات أسرية قادته إلى مصحة عبدالعال الأدريسي. هناك لم يناقشه معالج نفسي حول ماهية هذه المشاكل ولم تتلقى الأسرة كلها إرشادًا نفسيًا لتعريفها بكيفية التعامل معه وتتقبل توجهاته وأحلامه. دخل (ع) المصحة ثلاث مرات، يخرج في كل مرة وحالته في منتهى السوء، مؤخرًا هدد بالانتحار في رسالة بعث بها في حسابه الشخصي على فيسبوك إلى أصدقائه، قائلًا: "سأنتحر إذا دخلت مصحة عبدالعال الإدريسي، هناك لا علاج غير الحقن المنومة، ساعدوني يا أصدقائي".
اقرأ/ي أيضًا: ما هو مصير 1700 طالبًا/ة بالمدارس التي سحبت تراخيصها بالخرطوم؟
ترفض والدة (ع) عمله كموسيقي لذلك تعمدت إدخاله إلى المصحة التي وصفها بأنها "لا تساعدني، بل تدمرني وتكسرني". لم يحاول الأطباء اقناع الأم بأهمية العمل في مجال الموسيقى ومساعدة الإبن للاستقلال بحياته، على الرغم من اتباع طرق علاجية مع (ع) تثنيه عن وظيفته إلا إنه يؤكد قائلًا "الموسيقى هي طريقي الوحيد في الحياة"
وطالب (ع) بإلغاء أو مراجعة المادة (118) من القانون الجنائي، والتي بموجبها يتم إدخال كثير من الأفراد للمصحة دون تقييم نفسي حقيقي. والمكان عبارة عن أموال تدخل إلى جيب وزارة الداخلية والعاملين فيها كمؤسسة تأديبية، يقول الشاب (ع): "أمكث في زنازين حبس انفرادي، يعاملنا الأطباء وطاقم التمريض بمنتهى الذل والإهانة، في زنازين العناية يتم إدخال المرضى عاريين، دون ملابس تستر جسدهم، ويظلون على هذه الحالة لأيام طويلة أو أسابيع، عندما دخلت مؤخرًا كنت شاهد عيان على وفاة نزيل داخل إحدى هذه الزنازين من فرط التعذيب" ويشتكي (ع) من عدم قدرته على وصف الذل الذي عانى منه لأنه غير مستعد نفسيًا في الوقت الراهن.
زيارة ميدانية
زارت المحررة مصحة كوبر للوقوف على مستجدات الأوضاع يوم الأربعاء 26 فبراير/ شباط، حيث تم نقل النزيلات من المبنى القديم قبل عدة أشهر إلى مباني جديدة. لكن المبنى القديم لا يزال قائمًا وشاهدًا على سنوات طويلة من الإهمال، على مدى سنوات مكثت فيه نساء وعانين سوء العاملة، كانت النزيلات يحبسن لأيام وأسابيع داخل مراحيض قديمة لا تعمل، لا يتحصلن على الماء إلا مرتين في اليوم، عاريات، دون محاسبة الفاعل.
نقلت النساء إلى مباني إدارية، تم اخلائها خصيصًا لاستقبالهن، المبنى الجديد عبارة عن مكاتب وليست مخصصة لاستقبال مرضى وبالكاد تم تحويلها إلى عنابر. دون وجود كاميرات مراقبة لرصد أية انتهاكات يحتمل أن تقع من جانب العاملين.
اقرأ/ي أيضًا: الإجراءات الاحترازية لمواجهة كورونا تهدد أرزاق "ستات الشاي" وعمال الأجر اليومي
في العيادة الخارجية كان السور الخارجي يتداعى، هناك حمامان "مراحيض" الأول سيء مخصص للمرضى والزائرين وآخر مغلق مخصص للعاملين من أفراد الشرطة.
داخل العيادة الجو شديد السخونة، المكان متسخ، مروحة السقف لا تعمل، المكيف معطل، المعالجة النفسية كانت مشغولة بالهاتف المحمول طوال مدة المقابلة وبالكاد تنظر إلى وجوه المرضى وتسمع شكواهم، الطبيب مشغول هو الآخر بالهاتف ويقطع الحديث مع المريض للخوض في أحاديث جانبية، يعود بعد فترة ويسأل المريض على استعجال، لا خصوصية في المكان حيث تستقبل العيادة زائرين يتحدثون مع الأطباء في ذات الوقت.
لا وجود للأخصائي المشرف على عمل الأطباء، من خلال سؤال المحررة علمت إنه يأتي مرة أو مرتين في الشهر كحد أقصى لمدة لا تتجاوز الثلاث ساعات، يقرر خلالها في مصير عدد هائل من المرضى، ويتقاضى من هذه الساعات القليلة راتب مجزي.
سألت المحررة إحدى الطبيبات –اسمها إسراء- عن سوء المعاملة وعدم الاهتمام بتقييم المريض وانشغال العاملين بالأحاديث الجانبية والهواتف طوال مدة المقابلة وعن وجود مريضات يتم حبسهن داخل مراحيض، كان الرد: "أنا مجرد موظفة حكومية".
اقرأ/ي أيضًا: جوبا: إيقاف جميع السفريات داخل البلاد لمنع انتشار فيروس كورونا
مؤسسة صحية أم جهاز قمعي؟
إبان الثورة، تداول ناشطين فيديو يظهر تدريبات قوات من الشرطة تتخذ من مؤسسة كوبر العلاجية مقرًا للتدريب على قمع المظاهرات، ويظهر الفيديو المنتشر في الوسائط الاجتماعية قوات تمثل دور المتظاهرين، يقومون برشق قوات أخرى بالحجارة. وتساءل ناشطين عن تبعية وعلاقة المؤسسة بالنظام القديم، واستخدامها كمقر لردع مواكب الثورة.
وكانت تنسيقية نواب التخصصات الطبية أصدرت بيانًا قالت فيه إن ما حدث في مستشفى عبدالعال الإدريسي للصحة النفسية من تدريبات عسكرية للشرطة قامت بها داخل حرم المستشفى، يؤكد شمولية النظام، بتحويله هذه المؤسسة الصحية أثناء الحراك من مستشفى دوره تقديم الخدمات الصحية إلى نشاط يناقض هذا الدور، ما وصفته التنسيقية بالسقطة الأخلاقية والمهنية التي لا تغتفر، ولا تتسق وهدف هذه المؤسسة من السعي للشفاء إلى إحداث الضرر، خاصة وإن قوات الشرطة كانت تمارس العنف المفرط والموثق والذي لا يمكن نكرانه.
اقرأ/ي أيضاً: ولاية الخرطوم تصدر جملة موجهات استعدادًا لحظر التجوال الشامل السبت المقبل
وأضاف البيان "بات لزامًا وبعد سقوط النظام، أن تقدم هذه المؤسسة إن كانت تملك قرارها وتحررت من تلك السطوة، اعتذرًا لمنسوبيها عن هذا الخلل الهيكلي والسلوكي، ولزامًا عليها التعهد بالنظر في فصل النشاط العسكري من النشاط الصحي، لتصبح بيئة صحية مناسبة للمريض أولًا ولتدريب الأطباء ثانيًا".
لا وجود للقانون
عزت المحامية إقبال محمد علي تدني مستوى الخدمة المدنية وعدم التزام الموظف الحكومي بالعمل الجاد، لغياب قانون يضبط سلوك الموظف عند التعامل مع الجمهور، ويمنع استخدام الهواتف والزيارات والأحاديث الجانبية غير الضرورية إلا فيما يختص بالعمل نفسه. وأضافت إن القانون الدولي يلزم السجون كافة أن تكون مهيأة من الناحية الإنسانية.
تابعت إقبال حديثها قائلة "في السودان، الوضع العام غير إنساني فكيف بالحبس الانفرادي داخل هذه المؤسسات؟" وقالت: "نحتاج لوقفة لإعادة النظر في التعامل غير الإنساني للمحكومين، وضمان معاملة تليق بهم كبشر". وطالبت إقبال في حديثها لـ"الترا سودان" بإدخال كاميرات المراقبة بمؤسسات الخدمة العامة للمساعدة في رصد الانتهاكات وضمان عدم تسيب موظفي الخدمة العامة، ولتسهيل المقاضاة القانونية إذا أشتكى طالب الخدمة من التعذيب أو الأوضاع غير الإنسانية.
نائب أخصائي: يحجز المرضى في زنازين لا تتجاوز مساحتها مترين في متر، ويجلسون فوق فضلاتهم لعدم وجود تصريف صحي
أوضاع غير إنسانية
وصف نائب الإخصائي محمد صلاح طاقم التمريض في مصح عبدالعال الإدريسي بالضعيف لأن العاملين من خلفيات شرطية، لا يجيدون التعامل مع المريض ويمكن أن يضربوه أو يتأذى بسببهم لأنهم يتعاملون معه برد الفعل. إلى جانب، أن المعالجين النفسيين من الشرطة يكون عملهم إداري بالمكاتب ويقتصر دورهم على إعطاء المريض الأدوية التي يكتبها الطبيب، وهذا سوء خدمة.
اقرأ/ي أيضًا: مبادرة خيرية لمجابهة كورونا بالسودان بتوفير 18 وحدة عناية مركزة لـ100 ألف مريض
في ذات السياق، قال محمد صالح إن الحالات الجديدة من الرجال يتم حجزهم في عنبر يسمى العناية وهو بمثابة طوارئ، والمفروض أن تكون غرف العزل في المصح مبطنة، يدخلها هواء نظيف ومتجدد، ويحصل المريض على وجباته في المواعيد.
هل غرف العزل في المصح ملائمة؟
يجيب محمد بأن مساحتها لا تتجاوز المترين في متر، أرضيتها من الأسمنت ومتأكلة، مغلقة من ثلاث جهات وتمر من تحتها فضلات الصرف الصحي، لا وجود لهواء متجدد فيها أو مكيف. يحدث أن يكون بداخلها ثلاث مرضى في آن واحد، يتخلصون من فضلاتهم داخلها أو فوق الأسرة إن وجدت، وتكون متسخة وقديمة. بمعنى أن هؤلاء المرضى يجلسون فوق فضلاتهم. والمفترض إن لا تتجاوز فترة الحجز 24 ساعة أو بحسب حالة المريض، لكن هنا ليس هناك زمن محدد للحجز، ويمكن أن يمتد لأسابيع.
اقرأ/ي أيضًا: "خلوة" البكري.. اتهامات بالتعذيب والتجويع.. والشيخ ينكر
تابع محمد حديثه قائلًا: "يتعامل الشرطي المعالج بعقلية شرطي الشارع، لذلك يتعرض المرضى للإهانات والضرب، كما أن الوجبات ليست متاحة ونوعها رديء". وأرجع محمد ما يحدث إلى الإهمال من جانب أسر المرضى، حيث يسبب الأبناء مشاكل كثيرة للأهل فيتم التخلص منهم برميهم في المصح، والبعض من الأهالي، لا يرغب في متابعة ذويه لاعتقاده بأنه هكذا تخلص من المشاكل. جزء من الأهل يدفع مبالغ مالية للشرطة في سبيل توفير سرير للمريض، في حين أن هناك عددًا محدد من الأسرة لمستحقين لا يجدونها.
الإجابة ليست هنا
استعانت المحررة بالصحفية مسرة شبيلي في السوداني الدولية لتحرير خطاب رسمي للإدارة العامة للسجون والإصلاح، للرد على الانتهاكات الواردة في التحقيق والتعليق عليها. حرر الخطاب بتاريخ 22 مارس/ آذار وسلم إلى المكتب الصحفي للشرطة السودانية للموافقة عليه، ثم تم تسليم الخطاب إلى إعلام الإدارة العامة للسجون والإصلاح، جاء الرد أن المدير المسؤول مشغول في الوقت الراهن، نظرًا للظروف العامة التي تمر بها البلاد. إلى لحظة كتابة التحقيق لا نزال في انتظار رد أو توضيح من الجهة المسؤولة عن مصحة عبدالعال الإدريسي.
اقرأ/ي أيضًا:
وزير الصناعة والتجارة يطلق مبادرة توفير (11) سلعة أساسية بسعر الإنتاج
حظر كامل للتجوال بالخرطوم بعد اكتشاف حالات إصابة جديدة بفيروس كورونا