18-ديسمبر-2019

ثوار سودانيون (Getty)

الحرية في قيد المسؤولية

 

وللأوطان في دم كلّ حرٍّ *** يدٌ سلفت ودَين مستحق

أحمد شوقي

 

ذكرتُ في أول مقال من هذه السلسلة، أنَّ من أول ما عُرِّفت به الحرية كونها ضد العبودية، ذلك أن العبد ممنوع من تنفيذ إرادته إلا بمشيئة وموافقة ربّه/سيّده، ثمّ إنّ الحرّ في الحضارات المختلفة التي مرّت بها الإنسانية ظلّ يمتاز بسيادته على نفسه وربما على غيره، لكنه مقيّد بأخلاق الأسياد، تلك التي أوجبت عليه الكرم والشجاعة والصدق والمروءة والحكمة.. إلخ، فحريته مقيّدة بتلك الأخلاق. أما الأديان فهي حريصة على تحرير جميع الخلق من العبودية لغير الله/المعبود/الرب، حتى أولئك الذين يلحدون هم في واقع الأمر مقيّدو الحرية، يلتزمون قوانين تواضعوا عليها، "أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ" (الجاثية، الآية 23)، سبحان الله، انظر معي إلى الجملة الاعتراضية "على علم"، وتأمَّل!.

إنّ الحرية؛ تلك الثريا البعيدة المنال، التي تعانق العين ويُجِهد طِلابها الأجساد والأرواح، تحتاج عملا قَبْلِيًّا

إنَّ يد الأوطان ودَينها المستحق على الحرّ في إرادته، المتقيِّد بأخلاق الأحرار من امتنان للإحسان؛ كما قال المتنبي:

وقيّدتُ نفسي في ذراكَ محبَّة *** ومن وجد الإحسان قيدًا تقيّدا

اقرأ/ي أيضًا: رسائل في بريد النخبة (2)

وفعلًا له، يجعل الباحث عن الحرية، متهيِّئًا لتحمل مسؤولياتها الجسام، إنّ الحرية؛ تلك الثريا البعيدة المنال، التي تعانق العين ويُجِهد طِلابها الأجساد والأرواح، تحتاج عملا قَبْلِيًّا، استمر فيه الشعب السوداني منذ أن اتضحت معالم سودانيته، وتغنجت فتنة موارده أمام المستعمرين، إنّ النضال لأجل الحرية والكرامة كان أصلًا توارثته الجينات السودانية من جيل إلى جيل، ضد كل من حاول أن يمتهن كرامة السودانيّ أو يمس حريته في المعتقد أو سبل الحياة، ولعل من اللطيف أن نذكِّر أنَّ الإسلام نفسه لم يتمكن من دخول السودان بحد السيف وإنما فقط بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن الجيش الإسلاميّ حينما أراد دخول السودان، عبر مصر، أعاد رماة الحدق ثلثي مقاتليه بين أعمى وأعور، ما أصابت سهامهم إلا المُقَل، ومع ما عُرف به السودانيون واشتهروا به من حسن خُلق وطيب معشر إلَّا أنهم كانوا دائما خير من يمثِّل قول النابغة:

وَلا خَيْرَ في حِلْمٍ إذَا لَمْ يَكُنْ لـَهُ ***بَوَادِرُ تَحْـمِي صَفـْوَهُ أَنْ يُـكَدَّرا

وَلاَ خَيْرَ في جَهْل إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ *** حَلِيـْمٌ إذَا ما أوْرَد الأمْـرَ أصْـدَرَا

فما يزالون يراوحون بين الحلم وغضب الحليم، والناس منهم في مهابة، وهم عن الناس في شغلهم فاكهون.

اقرأ/ي أيضًا: ديماغوغية "موكب الزحف".. أو أفول الإسلاموية

أما العمل البَعدي للحرية فهو في الحفاظ عليها، حتى لا يُستعبَد أهل البلاد بذلٍّ أو فاقة أو مرض، وذلك يكون بالتزام الجماعة القوانين التي تحمي حرياتهم أفرادًا وجماعات، إلا أنَّ الحديث عن المحافظة على الحريَّة ما يزال سابقا لأوانه- حسب رأيي- لأننا ما زلنا نبحث عنها ونعمل لأجل الوصول إليها، والحال أن المارد الأسمر على تاريخه النضالي الطويل ما زال يحتاج الكثير ليتعامل مع الحرية، تلك الشعلة المضيئة، شعلة النار والنور، فكيف لنا بنورها دون نارها؟ ولا بدَّ دون الشهد من إبر النحل!

إنّ المرحلة الحالية تحتاج أن نتعامل مع وهج الحرية بمنتهى الحذر حتى لا تخبو بأيدينا، يجب أن نمارسها بوعي، وبقيد العقل والمحبة، أن ننتهزها لإحقاق الحق ومحاربة الباطل، ولنشر الخير، وأن يراعي اليسار بمختلف أطيافه درجة التدين والوعي عند عامة السودانيين، وأن ننتبه إلى زيادة درجة السلم الاجتماعي بين أفراد المجتمع لا أن نعمل على زعزعتها بالاستقطاب الحاد، والتطرف يمينًا أو يسارًا، هذا الشعب على فطرة لطيفة، مهذّب ومحتشم بطبعه، شئتم أم أبيتم، سيظل يرفض الألفاظ النابية، ويُصَنِف الأزياء الخارجة على ما اعتاده من حشمة "التوب" السوداني ابتذالًا، ولعلي استشهد هنا بحادثة ذهاب مجموعة من المستنيرات إلى بعض الأقاليم للتوعية بضرورة تعليم البنات، إلّا أنهن لم يرتدين ما يناسب صنع أرضيّة مشتركة مع أمهات بنات ذلك الإقليم، ما جعل إحدى الأمهات تقول لهن عبارة موجعة، ومحطمة لمستقبل اللواتي يجب أن يلتحقن بالمدارس: "ما يمشن المدرسة، ما عايزنهن زيكن"، الترجمة: لا نريد تعليمًا يجعل بناتنا مثلكن! في العبارة تجنٍّ واضح على كلا الفريقين، لكن قليلًا من الوعي يعين على إدارة المواقف، والتعامل مع العقل الجمعي انطلاقًا من نقطة التقاء يوفر كثيرًا من السنين، ويجنِّب الجميع الكثير من الخسائر، وقد قطع أهل الغرب في ذلك أشواطًا بعيدة؛ فتجدهم حين يستشرقون يلبسون ملابس أهل الشرق، ويتباهون بها، ويأكلون مع الناس الطعام بأياديهم بل ويلعقون أصابعهم، ويحتفون بمعرفة عادات أهل المناطق التي يعملون فيها وتقاليدهم، يبنون بذلك الثقة ويحصلون على الاحترام الذي يجعل أهل تلك المناطق يأمنونهم ويستشيرونهم ويأملون منهم الخير، فهل لنا أن نتعلّم؟

هل لنا أن نرجو ونطلب ونترجى جميع الكيانات السياسية، والأفراد الذين يدَّعون الوعي ويرفعون شعار الحرية، أن يتحلَّوا بالمسؤولية؟!

الحرية تلك الشعلة المتوهجة، هي جوهر الأمانة التي حملها الإنسان حين نأت الملائكة والشياطين عن احتمال الإرادة والاختيار، فاختار كلّ فريق منهما نجدًا، وهدانا الله النجدَين، فهل لنا أن نرجو ونطلب ونترجى جميع الكيانات السياسية، والأفراد الذين يدَّعون الوعي ويرفعون شعار الحرية، أن يتحلَّوا بالمسؤولية؟! وأن يتوقفوا عن الاستقطاب المتطرف بين اليمين واليسار، فقط تحلَّوا بصفة المسؤولية "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (التوبة، الآية 105).

ولِنردَّ جميعا دَين الوطن بالعمل حاليًا على إصلاح معاش الناس، بالعمل على ردّ الحقوق، ومعاقبة المفسدين، وإرساء دولة القانون، ونشر الوعي، وحده الوعي سيكون جسرنا إلى المدنيَّة التي نريد، مدنيّة: حرية سلام وعدالة.

 

اقرأ/ي أيضًا

لدعم السريع.. حصاد دولة ما بعد الاستقلال

لماذا وجب على الحكومة السودانية إدانة الاستيطان؟