14-ديسمبر-2019

(لوسيل)

 بين المجال الخدمي والرمزي

"نحن و نحن الشرف الباذخ.. دابي الكر شباب النيل"

هكذا غني خليل فرح ذات يوم في رحاب ثورة 1924 مستلهمًا تلك الروح القومية التي سادت حينها ومخاطبًا شباب المرحلة ووعي المرحلة بصوت المرحلة.. وها نحن اليوم بعد أعوام طويلة من ذلك الحدث على أعقاب حدث قومي وكبير أيضًا وهو ثورة ديسمبر المجيدة.. فهل من سبيل إلى شرفنا الباذخ واستقرار أرضنا أرض النيل؟

مع الانفجار التكنولوجي الماثل أمامنا في عصر المعلوماتية، يتبدى للرائي بقليل من التفحص أنماط جديدة من التفاعلات الإنسانية سواء على الأصعدة الاجتماعية أو السياسية

 نستفتح هذا المقال بسؤال رئيسي وهو: ماذا نريد من النخبة؟ وكنا قد أوضحنا في مقالنا السابق التأسيسات النظرية لرسائلنا ومن نعني بالنخبة.

من المعلوم من السياسة بالضرورة أنه لا يقوم استقرار اقتصادي وتخفيف للضائقة المعيشية عن كاهل المواطن البسيط من غير استقرار سياسي، ولا يقوم استقرار سياسي من غير أكبر توافق للمجتمع السياسي المكون لمسرح الفعل الحركي السوداني.

اقرأ/ي أيضًا: المحكمة تقضي بإيداع المخلوع البشير في مؤسسة إصلاحية لمدة عامين

مع الانفجار التكنولوجي الماثل أمامنا في عصر المعلوماتية، يتبدى للرائي بقليل من التفحص أنماط جديدة من التفاعلات الإنسانية سواء على الأصعدة الاجتماعية أو السياسية، و يظهر بوضوح مع عصر السوشال ميديا ووسائل التواصل الاجتماعي كيف أنها أضحت تخلق طرائق جديدة للتأثير في الفضاء العام، فتغيرت وتبدلت الأنماط القديمة من التفاعل الاجتماعي والسياسي، وطرأت تحولات حتى على مفهوم "الفعل السياسي" بمعناه الكلاسيكي. فنلحظ بوضوح مثلًا الزهد الكبير في السياسة بمعناها التقليدي في السنوات الأخيرة حتى قبيل الثورة. هذا الزهد في الفعل السياسي التقليدي المتعارف عليه عبر الانضمام للأحزاب السياسية وما إلى ذلك، قابله انخراط كبير لفئة عريضة من الشباب في الفضاء العام السياسي عبر وسائل التواصل الاجتماعي خاصة مع حدوث الثورة، فكانت أكبر تظاهرة تشاركية للرأي السياسي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بل من المسلمات التي أضحت من بديهيات الأفكار وكتبت فيها العديد من الدراسات على مستوى العالم، هو دور وسائل التواصل الاجتماعي في التغيير السياسي، حيث نجد هذا الدور واضحًا في ثورة 25 كانون الثاني/يناير المصرية، وكذلك في ثورة كانون الأول/ديسمبر السودانية.

هذا المسرح الرقمي الجديد في عهد الفترة الانتقالية أضحى بشكل كبير يشكل اتجاهًا ضاغطًا يقوم مقام جماعات الضغط في الأدبيات السياسية الكلاسيكية، فكان تأثيره واضحًا بتحديد وتوجيه وتغيير بعض الاقتراحات الصادرة من الجسم الموجه للحراك وهو تجمع المهنيين، ونجد تأثيره كذلك بفرض بعض الخيارات التي نأى عنها الفعل السياسي التقليدي، فنجد مثلًا في وسم "التعايشي للسيادي" الذي انتشر في فترة تكوين وتقديم مقترحات المجلس السيادي، أنه كان خير مصداق لهذه القوة الضاغطة لوسائل التواصل الاجتماعي.

في ظل هذا الواقع الرقمي، الذي هيمن على الفضاء العام في العشر سنوات الماضية، تشكل جيل جديد ينفصل وعيه السياسي والحركي بقدر معتبر عن القيادات السياسية القديمة الموجودة في الساحة، ويبدو أنه من سنن الثورات على مر التاريخ أنها تظهر من خلالها الأجيال الجديدة التي يكون هناك فجوة معتبرة بينها وبين السائد السياسي، فنجد مثلًا محمد أبو القاسم حاج حمد يتحدث في كتابه المعروف "السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل"، فيقول عن جيل أعقاب ثورة نيسان/أبريل التي أطاحت بالنميري: "أسهمت فترة نميري-(16) عامًا- بتوليد ظاهرة اجتماعية سياسية عانت منها كبريات الأحزاب التقليدية، تلك هي ظاهرة جيل ولد أو نشأ بمعزل عن التواصل أو الاتصال الأيديولوجي والسياسي بكبريات الأحزاب التاريخية الحاكمة، ولكن دون أن يقدم نظام نميري بأشكاله المختلفة التي تقلب فيها، بديلًا عقائديًا أو أيديولوجيًا أمام هذا الجيل فتركه يعيش من بعده حالة الفراغ التي كونه ضمنها، ومنفصمًا في الوقت ذاته عن الأطر التقليدية التاريخية التي كونت تجارب الأحزاب الكبيرة" ج2، ص524.

اقرأ/ي أيضًا: لغة الثورة الصادقة الركيكة

وليس ببعيد من ذلك، نجد منصور خالد يتحدث عن ذات الفكرة في سفره المعروف كذلك "النخبة السودانية وإدمان الفشل"، فيقول عن جيل ثورة نيسان/أبريل: "إن محنة هذا الجيل في أنه تلفت يمنة ويسرة فلم يجد في التنظيمات التقليدية ما يرضي طموحه، كما لم يجد في في تنظيماته السياسية الحديثة غير التناقض الداخلي بين الشعار والممارسة، والتحالف والتدافع بين الطموح النهضوي والانصياع اللا عقلاني للقيم المتجذرة الفاسدة، وأسوأ القول والعمل ما نقض بعضه بعضًا. ج1، ص44.

إن كان جيل نيسان/أبريل في حالة تيه وفراغ وفجوة بينه وبين سائد السياسة في ذلك العهد، فإن جيل ثورة كانون الثاني/ديسمبر تعاظم تيهه وزاد وصار اغترابه مضاعفًا عن الحواضن الاجتماعية القديمة

فإن كان جيل نيسان/أبريل في حالة تيه وفراغ وفجوة بينه وبين سائد السياسة في ذلك العهد، فإن جيل ثورة كانون الثاني/ديسمبر تعاظم تيهه وزاد وصار اغترابه مضاعفًا عن الحواضن الاجتماعية القديمة التي كانت تمثل فيها الأحزاب السياسية أكثر من مجرد إطار للفعل السياسي، بل حاضنة اجتماعية وثقافية.

باستصحاب هذه الرؤى حول الجيل الجديد ومسرحه الجديد نرى أن هذا الوجود الرقمي الضاغط والفاعل في الفضاء السياسي برغم كل فوائده العديدة المعروفة، إلا أنه يخلق تصدعًا بين الوجود الرمزي/الرقمي الضاغط والوجود الفعلي المهم للفضاء السياسي، فنجد النخبة السياسية تهتم بالرأي العام السائد في وسائل التواصل ناظرة إليه كأنه يمثل الواقع الفعلي كله أو جله، فنجد بذلك تكون مجتمعين على سطح الصورة الكلية للمجتمع بينهما توتر فعلي، مجتمع رجل الشارع البسيط المهتم بحقوقه الطبيعية من مأكل ومشرب ومركب، ومجتمع وسائل التواصل الاجتماعي من الشباب والشابات المهتم بالحقوق المدنية من حرية رأي وتعبير وتعديل للقوانين وما إلى ذلك.

فينضاف إلى النخبة الفاعلة سياسيًا عبء جديد غير عبء العبور بالمرحلة الانتقالية والسيطرة على الوضع الاقتصادي، هو الموازنة بين رأس المال الرمزي بين رجل الشارع وشباب الميديا. وهذه الفجوة بين المجالين الواقعي والرقمي، إذا لم يتم ترشيدها ورأبها، سيتم ملؤها بفاعلين آخرين خارج المعسكر المدني. وهذا ما يفعله محمد حمدان دقلو قائد قوات الدعم السريع وهو بناء رأس مال اجتماعي على أرض الواقع برجل الشارع مستفيدًا من مخاطبة الحقوق الطبيعية له ومستخدمًا في أحايين عديدة من الإدارات الأهلية التي طالما كانت المساحة العصية على المتعلمين والمثقفين والنخبة المستنيرة من طلائع التغيير المتعلقة بأبناء المدن.

مع هذا الواقع المختلف، بجيله المختلف، سنواصل في مقالنا القادم. ماذا نريد من النخبة لبناء مجالنا السياسي مستفيدين من أخطاء الماضي وعابرين لهذه المرحلة الانتقالية الحساسة؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

تأملات في القمّة الكُروية.. وتفاصيل صِناعة الفوضى

الدعم السريع.. حصاد دولة ما بعد الاستقلال