07-ديسمبر-2019

قائد مليشيا الدعم السريع محمد حمدان دقلو (Getty)

حينما اشتد الغضب من قوات الدعم السريع بسبب تفلتاتها وتصرفاتها المعادية للمدنيين في بعض أنحاء العاصمة، طالب البعض بإخراجهم من الخرطوم وذهب البعض الآخر إلى إعادتهم لمناطقهم التي أتوا منها. 

أفضت مجزرة القيادة العامة الوحشية إلى خلق جدار من الكراهية ليس موجهًا للدعم السريع فحسب إنما لكل القوات النظامية

وقد أفضت مجزرة اعتصام القيادة العامة الوحشية إلى خلق جدار من الكراهية ليس موجهًا للدعم السريع فحسب إنما لكل القوات النظامية، إما لشبهات تورطها المباشر في المجزرة، تخطيطًا وتنفيذًا أو بالتغاضي، وعدم إغاثة المعتصمين السلميين الذين قضوا أمام بوابة القيادة العامة للقوات المسلحة بقلب الخرطوم دون مغيث من حقول النار التي طوقتهم من كل جانب.

اقرأ/ي أيضًا: الثورة السودانية.. حراكُ مستلهٌم من إرثٍ تليد

وكثير من الذين يهاجمون الحكومة الانتقالية بعد تشكلها يستهدفونها من بوابة الوثيقة الدستورية والاتفاق السياسي الذي أعطى الشرعية للعسكر، ومن ضمنهم قادة هذه القوات، وفي الأساس منبع الرفض مرتبط بها، وفي أن يكون هؤلاء القادة جزءًا من مؤسسات الفترة الانتقالية ويحتلون قيادة مؤسستها السيادية، ومن ثم يتخذون موقفًا رافضًا للوضع برمته نافضين يدهم عن كل ما يجري. دون الانتباه إلى أن دولة البشير انهارت وأفلت شمس المؤتمر الوطني بغير رجعة، وبقيت دماملها التي لا مهرب منها ولا سبيل لإبعادها بالأمنيات عن المشهد السياسي للبلاد، فكيف سنتصرف معها؟

منذ سنوات بعيدة عقب الاستقلال لجأت حكومات الخرطوم المتعاقبة لخلق جيوش غير نظامية تخوض الحروب الدموية بالوكالة، وهي تعمد إلى مناطق النزاع نفسها لخلقها مستندة إلى التناقضات القبلية ومستخدمة نفس نظريات المستعمر؛ فرق تسد.

وقد تمددت هذه الظاهرة منذ الحكم العسكري الأول والثاني في حرب الجنوب، حيث صارت الحرب تدور بين جيش نظامي والفضاء مفتوح للمليشيا والمليشيات المضادة للاقتتال، وقد أسهم بعد نطاق الحرب الجغرافي، وضعف الإعلام وقتها وعكسه لما يدور في مناطق الاقتتال، والسيطرة الفوقية على هذه المليشيات في إبقائها بعيدًا عن المشهد العام للبلاد، رغم أنها الأوفر انتهاكًا لحقوق الإنسان في مناطق الحرب، فهي تتحرك مدفوعة بثارات وغبائن قبلية ومرارات تاريخية وجدت من يصب الزيت على نيرانها المشتعلة.

اقرأ/ي أيضًا: نظام التعليم بالسودان وترسيخ التفاوتات الاجتماعية

حينما قال د. جون قرنق "إن قتلى الحرب الجنوبية/ الجنوبية أكثر من كل قتلى الصراع الجنوبي الشمالي منذ بدايته"، لم يخرج عن الحقيقة، وكانت خيوط هذه اللعبة الدموية تشد من الخرطوم.

نظام الإنقاذ هو آخر حلقات تطور الدولة المعطوبة التي ورثناها من الاستعمار، وهو قد جمع كل إشكالات الأنظمة الديكتاتورية السابقة له ومن مهددات الوحدة الوطنية في طياته، فهو قد جمع العروبة الإسلاموية واعتمدها واجهة له، فعزز من أسباب الصراع، وقد قام على تحالف هجين بين الرأسمالية العالمية المتوحشة ووكلائها المحليين والرأسمالية الطفيلية التي خرجت من معطفه وتغذت على دماء الدولة، وقد أنتج هذا التحالف خرابًا اقتصاديًا متواليًا لم تفلح حتى اكتشافات النفط في كبح جماحه، حيث تم تخريب الريف تخريبًا متواصلًا وقتلت ملايين الأفدنة الزراعية للمشاريع الكبرى عطشًا، وبالسياسات الخرقاء حتى جفت الأرض وأفقر الناس وجاعوا، وواصلت في حماية سلطتها ومحاولات سيطرتها على البلاد فجندت كل من يمكن تجنيده بحثًا عن الأمن، وكان ذلك أمرًا ميسورًا لها حيث غدت البلاد بفقرها المدقع قابلة لرفدها بما تشتهي، وقد عزز تمدد الحرب غربًا وطبيعة القوى الحاملة للسلاح من تسارع هذا المشروع.

قبل سنوات زرت منطقة في غرب البلاد ضمن وفد صحفي لتغطية زيارة لوزير داخلية أسبق، كانت المنطقة تبعد فقط كيلومترات من حقول النفط، ولك عزيزي القارئ أن تتخيل أنها تفتقر لطريق يربطها بأي مكان من حولها ناهيك عن عاصمة البلاد، هي مجرد أرض قفر منسية في تلك الصحاري القاحلة، تكابد قسوة الحياة والطبيعة، يمتشق أطفالها بنادق "الكلاشنكوف"، ويلبسون "حجبات" من بقايا الرصاص، وتحيطها قطاطي هي منازل المواطنين وتفتقر لأي نوع من الخدمات، وكانت المفاجأة أن الوزير ذهب لافتتاح مبنى يتبع لوزارته شيد من ثلاثة طوابق وزينت أرضيته بالسيراميك، في هذه القفار الجدباء، وكان عليه أن يواجه غضبة شعبية بسبب تأخر رواتب جنود يتبعون للشرطة الشعبية والدفاع الشعبي التي انتظم فيها غالب شباب المنطقة، بعدما أخلفت شركات النفط باتفاق سابق بإعطائهم الأولوية في التوظيف، فقام بحل هذه المشكلة بصرف رواتبهم بشكل فوري من خزينة كان يحملها معه في ذات الطائرة التي قدم بها.

اقرأ/ي أيضًا: لنستعِد فلسطين كما استعادت ثورتنا "كولمبيا"

هذه المنطقة التي تقع بين غرب كردفان وشمال دارفور وتعتبر موردًا رئيسيًا لقوات الدعم السريع، ضمن مناطق أخرى، من الشباب والأطفال، تفتقر للحد الأدنى من مقومات الحياة. فلا كهرباء ولا مياه ولا طرق ولا مستشفيات إلا في تلك المراكز الصحية التي تفتقر للحد الأدنى من المقومات بحواضر المدن النائية، التي تبعد مئات الكيلومترات بالسيارة، ويفتقر التعليم فيها للبنيات التحتية من مدارس وكتب ومعينات، حيث تفترش قلة لا تذكر من الطلاب الأرض تحت الأشجار لتلقي الدروس. وهؤلاء يواجه أهلهم الأمرين في سبيل إرسالهم للتعليم والصمود أمام مغريات على شاكلة أموال الجندية السائبة، ورغم أن هذه المنطقة وولايتها التي تنتمي إليها تغذي الخزينة العامة بأكبر عائداتها من ثرواتها الحيوانية التي تعتبر الأكبر على مستوى أفريقيا، ومن البترول الذي تنتجه حقولها، فهي تفتقر لكل أسباب الحياة. يكفي أن ثروتها الحيوانية هذه تقطع آلاف الكيلومترات طلبًا للمحاجر البيطرية والمسالخ على الأرض وصولًا للخرطوم قبل أن تتحول لأرقام في صادرات البلاد.

ظاهرة الدعم السريع هي تعبير وتجل عميق لأزمة الدولة الوطنية، وانهيار مشروعها في تحقيق الحدود الدنيا من الحياة الكريمة للسودانيين

إن ظاهرة الدعم السريع هي تعبير وتجل عميق لأزمة الدولة الوطنية، وانهيار مشروعها في تحقيق الحدود الدنيا من الحياة الكريمة للسودانيين، ومن عبث قصير النظر تطاول بمكونات القومية السودانية والتلاعب بها لأغراض سياسية ودينية، وهي انعكاس حقيقي لكارثة سيطرة الرأسمالية الطفيلية على جهاز الدولة، وفشلها الذي استحال لكارثة يمتد ضررها لكل أنحاء البلاد.

إن التعامل مع ظاهرة الدعم السريع كأزمة فوقية يتجاهل حقيقة أنها عرض لمشكلة الدولة القومية، دولة ما بعد الاستعمار الفاشلة، التي أفقرت الريف ودمرت المدن بحروبها الفاشلة، وما لم يتم رؤية هذا الواقع سيتهرب الناس عن مواجهة هذه المعضلة بالطريقة التي تستحقها من التدابير. قد ننجح مؤقتًا عبر الترتيبات الأمنية في تذويب هذه القوات في قوات مسلحة مشتركة، لكن ما لم نفكك البنية نفسها التي أنتجتها بمشروع وطني ورؤية اقتصادية مغايرة لما قامت به الإنقاذ من تخريب، عبر تنمية متوازنة تغطي كافة أنحاء البلاد وتنقل الخدمات للمواطنين، وبمشروع اجتماعي وثقافي متكامل يعيد توحيد وبعث الروابط بين مختلف أنحاء البلاد، ستظل البيئة الحاضنة للمليشيات قائمة وتعبر عن نفسها بشتى الطرق، وما المركز بمنجاة عنها.

 

اقرأ/ي أيضًا

النخب الإسلاموية في السودان.. الظالمون المتظلمون

"دهماء" الاقتصاد السوداني وفرص نجاح الانتقال