06-أبريل-2021

منذ انطلاقته في كانون الأول/ديسمبر 2018، ظل  قطار الثورة السودانية يمضي على الدوام دونما توقف لمحطته النهائية، وقد كنت شاهدًا على الكثير من التفاصيل الصغيرة التي ساهمت بقوة في إسقاط أعتى الدكتاتوريات في القرن الواحد والعشرين.

لم يكن سقوط نظام البشير مجرد اقتلاع لنظام جثم على صدر الشعب السوداني لثلاثين عامًا حسومًا

لم يكن سقوط نظام البشير مجرد اقتلاع لنظام جثم على صدر الشعب السوداني لثلاثين عامًا حسومًا، لقد عايشت الكثير من التفاصيل الدقيقة التي مثلت الرابط الأقوى وصلة القربى بين شباب وشابات جمعت بينهم ميادين المواكب، تواثقوا على المضي قدما بصبر وشجاعة وثبات وجسارة.

اقرأ/ي أيضًا: مواكب 6 أبريل.. خفايا وأسرار تنشر لأول مرة

إن الذين يراهنون على ضعف العزيمة، لم يعايشوا لحظات مخاض الثورة العسيرة بين القوة والضعف، فكلما ارتقى شهيدٌ ازداد العزم على المضي قدمًا لكتابة نهاية أسوأ الحقب في تاريخ السودان الحديث، وفي البال خيبات الأمل وفشل استدامة الديمقراطية في البلاد.

منع المواصلات العامة

يوم الجمعة الخامس من نيسان/أبريل، سيطرت حالة من القلق والترقب والانتظار للموعد المضروب عند الساعة الواحدة ظهرًا من نهار السادس من نيسان/أبريل لاقتحام القيادة العامة وفق الخطة التي رسمها تجمع المهنيين السودانيين، والمحددة  والمعلن عنها مسبقًا.

وأقدمت السلطات صباح ذات اليوم على تقييد حركة المواصلات العامة ومنع حافلات النقل من عبور الجسور، وأوقفت بعضها في ذلك اليوم بمنطقة أم درمان وهي في طريقها إلى الخرطوم، ما دعا أصحاب المركبات الخاصة لنقل المواطنين لداخل الخرطوم.

وفي جسر المك نمر الذي يربط مدينة بحري بالخرطوم في العاصمة المثلثة، منعت حركة المواصلات تمامًا، ما اضطر الثوار لعبور الجسر مشيًا على الأقدام، بينما تحولت وسط الخرطوم لثكنة عسكرية بالكامل، توزعت فيها ارتكازات للشرطة في أغلب الشوارع، فيما ظلت "تاتشرات" قوات جهاز الأمن تجوب الطرقات جيئة وذهابا لإثارة الرعب وتنفيذ حملات اعتقال مسبقة واسعة.

القيادة العامة لحظة انطلاق المواكب

استطاع الثوار الوصول لوسط الخرطوم بعد معاناة، وقبيل نحو ساعة من موعد انطلاقة الموكب تجمعنا في "نقطة سرية" شمال شارع البلدية، كانت على مقربة من المركز الثقافي البريطاني، وهي النقطة المحددة سلفًا لانطلاقة موكب شبكة الصحفيين السودانيين السري.

اقرأ/ي أيضًا: 6 أبريل.. ذكريات ومشاهد لا تُنسى

كان عددنا أكثر من عشرين صحفيًا وصحفية، جلسنا بالداخل حتى الساعة الثانية عشر والنصف لنبدأ الخروج بالتتابع حتى لا ينكشف أمرنا، كنت ضمن الفوج الأخير الذي خرج من النقطة السرية أثناء محاولاتنا الاتجاه لموقع الموكب السري، حيث فوجئنا بنحو أربع سيارات دفع رباعي "تاتشر" محملة بأفراد قوات جهاز الأمن تقوم بمطاردة الثوار واعتقالهم، وحاولت السيارات دهس بعض الزملاء الصحفيين لولا احتمائهم  بأحد أعمدة الكهرباء. بدأ أفراد القوة بالترجل من على متن السيارات وتنفيذ حملات القبض والاعتقال، استطعنا أن نفلت من الكمين بأعجوبة، ثم اتجهنا صوب شارع المك نمر، وعندما واصلوا مطاردتنا اضطررنا لامتطاء عربة أجرة كانت تسير في الشارع.

توزعت عدد من القوات الشرطية والأمنية في محيط القيادة العامة

بعد نجاتنا من الاعتقال، طلبنا من سائق عربة الأجرة الاتجاه لمنطقة بُري للمشاركة في نقطة تجمع هناك، وذلك بعدما تيقنّا تمامًا بإحكام الأمن والشرطة القبضة على مواكب وسط الخرطوم. 

انطلقنا بالعربة صوب القيادة العامة، وكانت الحركة طبيعية، وما إن وصلنا قبالة مبنى القيادة البرية مع تقاطع شارع البلدية، حتى اعترضتنا قوة من الجيش ومنعتنا من مواصلة المسير، لتتم إعادتنا مرة أخرى لوسط الخرطوم.

مطاردة واعتقالات

حينها كانت تشير عقارب الساعة بعد الواحدة ظهرًا بقليل، وقتها لم يصل أي موكب للقيادة العامة بعد، وتوزعت عدد من القوات الشرطية والأمنية في محيط القيادة العامة، وما إن وصلنا قرب مستشفى "إمبريال"؛ وحتى ظهرت لنا قوة نظامية توقف جميع السيارات وتقوم بإنزال الشباب وضربهم واعتقالهم، كان عددنا ثلاثة أشخاص على متن العربة، وأيقنّا تمامًا بأن لا مفر من الاعتقال هذه المرة.

في فترة قصيرة تراكمت السيارات حتى أوقفت الحركة تمامًا، وفي تلك اللحظات ظهر موكب للثوار في تقاطع شارع البلدية مع المك نمر، ما دعا أحدهم يأمر القوة بقوله: "خلوهم يمشو حيوقفوا الحركة".

هروب الأجهزة الأمنية

بدأ الثوار في ترديد الشعارات الثورية عند تقاطع البلدية مع المك نمر، ولكن سرعان ما انبرت قوة شرطية بإطلاق عبوات الغاز المسيل للدموع "البمبان" بتصويبها المباشر على الرؤوس، مع المطاردة العنيفة. اتجه الموكب شرقًا صوب القيادة، وبالقرب من السفارة البريطانية ارتكزت قوة من مليشيات النظام وجهاز الأمن تقوم بالمطاردة والاعتقال وتلاحق الثوار داخل المباني التي تمت محاصرتهم بداخلها. 

اقرأ/ي أيضًا: الشرطة تفض بالقوة مواكب ذكرى 6 أبريل بالقرب من القصر الرئاسي

تزايُد أعداد المواكب التي تخرج من كل مكان أدى لتشتيت تركيز القوات، لتجد نفسها محاصرة من كل الاتجاهات، خاصةً بعد اغلاق أصحاب المركبات الخاصة لكل الطرقات وتعطيل الحركة تمامًا في  كل الشوارع المؤدية للقيادة العامة للقوات المسلحة، بينها شوارع الجمهورية والبلدية. هذه الوضعية أدت لانسحاب القوة الفوري خوفًا من انتقام الثوار، الأمر الذي ساهم في وصول المواكب للنقطة المحددة.

دموع الوصول

تلاحمت المواكب في محيط القيادة العامة، وذرف الثوار الدموع إيذانًا باقتراب ساعة النصر، انطلقت الدعوات للاعتصام مع التصميم على عدم المغادرة، وبدأ بعض أفراد القوات المسلحة بالتفاعل الفردي مع تلاحم الجماهير معبرين عن انحيازهم للثورة، و حينها لم يكن هناك أي موقف يؤكد انحياز المؤسسة بالكامل.

حاولت القوات الأمنية فض الاعتصام باستخدام الغاز المسيل للدموع وإطلاق الأعيرة النارية والقنابل الصوتية

تزايدت أعداد الثوار بصورة كبيرة عند عصر السادس من نيسان/أبريل، وحاولت القوات الأمنية فض الاعتصام باستخدام الغاز المسيل للدموع وإطلاق الأعيرة النارية والقنابل الصوتية، الأمر الذي استفز بعض أفراد القوات المسلحة، ليتم السماح للثوار بدخول أسوار القيادة العامة. 

وفي مساء ذات اليوم هدأت الأوضاع قليلًا وتوقفت محاولات تفريق المعتصمين، ليصطحب البعض أطفالهم وأسرهم لسوح الاعتصام، فيما برزت موجة اعتقالات خارج محيط أرض الاعتصام بالضرب والاختطاف، مع تواجد كثيف لقوات جهاز الأمن.

أوامر بانسحاب الجيش

في الساعة الثانية ونصف صباحًا، خرج ضابط رفيع من مباني القيادة وأمر القوات المرتكزة بالدخول الفوري للقيادة وعدم حماية المعتصمين، وأذاع للثوار نبأ فرض حالة الطوارئ وحظر التجوال، وقال بلغة حاسمة: "تم فرض حالة الطوارئ وحظر التجوال الآن، وأمامكم نصف ساعة فقط لإخلاء هذه المنطقة".

ودار بينه والثوار الحوار التالي: "إلى أين نذهب؟" حيث أجاب: "ما عارف بس دي تعليمات، و الجماعة ديل جايين عليكم"، "الجماعة ديل منو؟"، أجاب: "ناس الأمن قريبين"، "وحيعملوا شنو؟" أجاب: "ما عارف يدوكم حلاوة، يدوكم وردة ، يدوكم طلقة! المهم جايين".

اقرأ/ي أيضًا: مقتل سماح.. جريمة بشعة أمام مكتب النائب العام

وبدأت القوة في تنفيذ الانسحاب بحسب توجيهاته، إلا أن النقيب حامد عثمان رفض الانصياع للتعليمات ومعه الطاقم على متن العربة، ووقفوا أمام المعتصمين بسيارة الدفع الرباعي التي تحمل سلاح "دوشكا" تم تصويبه نحو الجهة التي أشار إليها الضابط بتواجد قوات جهاز الأمن.

النقيب حامد في الموعد

ظل الحال كما هو عليه، بينما أذاع الثوار فيما بينهم نبأ الهجوم المحتمل لفض الاعتصام في الساعات الأولى من صباح اليوم التالي، وعملوا على إيقاظ الجميع من النوم.

أصيب النقيب حامد قبيل بزوغ الشمس برصاصة أعلى الكتف

مضت الساعات تباعًا في حالة الترقب والانتظار حتى بزوغ الفجر. ولم تستطع قوات الأمن المرابطة بالقرب من القيادة العامة الوصل إلى أرض الاعتصام، وقبيل بزوغ الشمس أصيب النقيب حامد عثمان برصاصة أعلى الكتف، وتم نقله على إثرها للمستشفى، وبعدها بلحظات فوجئنا بعربة قاذفة بمبان داخل مبنى القيادة العامة، لنجد عددًا من العربات القاذفة للبمبان وقوة من الشرطة تمشي سيرًا على الأقدام قبالة شارع البلدية، ليتم إطلاق الغاز المسيل للدموع بكثافة عالية حتى تم إخلاء المنطقة الوادعة غرب القيادة، إلا أن تراجع الثوار لم يدم طويلًا وسرعان ما عادوا مرة أخرى ليحكموا قبضتهم على منطقة الاعتصام، ليتمدد في مساحات أكبر عقب تناقل وسائل التواصل الاجتماعي نبأ محاولات الفض التي نفذتها الشرطة.

اقرأ/ي أيضًا

"حظيرة الردوم في خطر".. التعدين والقطع الجائر يهدد المحمية

انتهاكات وعنف وعدم مساواة.. أوضاع الصحفيات في سودان ما بعد الثورة