02-نوفمبر-2019

ثوار أعالي النفق باعتصام القيادة (إنستغرام)

"أعالي النفق دق قلبك زيادة"

مدخل

"مدنياااااااااااو"، كان هذا من أبلغ شعارات الثورة السودانية التي انطلقت في كانون الأول/ديسمبر 2018، وأطاحت بحكم البشير والمؤتمر الوطني في ملحمة سلمية نادت بالحرية والسلام والعدالة وسجلها التاريخ. وبالرغم من أن المدنية تشير الى العديد من المعاني، إلا أن الشعار من بين جميع تلك المعاني كان قد عبر عن إصرار جماهير الثورة على تسليم المجلس العسكري الانتقالي-الذي تسلم السلطة بعد الإطاحة بالبشير- السلطة للمدنيين، وعلى قيام حكومة مدنية وليست عسكرية. وما تم التوصل إليه هو قيام مجلس سيادي مختلط بين العسكرية والمدنية- وحكومة مدنية يتم اختيارها بواسطة المدنيين ويوافق عليها المجلس العسكري السيادي.. الخ، من الاختلاط بين العسكرية والمدنية.

تحاول هذه الكتابة ابتدار مقدمة تسلط القليل من الضوء على النقاش العلمي والأكاديمي، في مجال العلوم السياسية الذي تناول العلاقة بين المدني والعسكري

يمكن لقائل القول، أن هذا الاختلاط كان صيغة أتت بها موازين القوى التي لا فكاك منها آن الثورة، لكني أقول أنها صيغة أقعدت بالثورة وكبحت جماحها عن القيام بمهامها وما زالت. وأقول أيضًا أنها ستظل مقعدة ما لم تنجز الكثير في عدة أصعدة من بينها- وربما أهمها- صعيد العلاقة بين المدنية والعسكرية. تحاول هذه الكتابة ابتدار مقدمة تسلط القليل من الضوء على النقاش العلمي والأكاديمي، في مجال العلوم السياسية الذي تناول العلاقة بين المدني والعسكري، وذلك للقول بأن هذا النقاش قديم وكان يجب النظر إليه أثناء الحراك السوداني للاستفادة منه.

اقرأ/ي أيضًا: أي إعلام يريد السودان بعد ثورته؟

نظرة عامة على العلاقة: مدنية-عسكرية

العلاقة بين المدنية والعسكرية أو العلاقة المدنية – العسكرية -بغض النظر عن طبيعتها- هي درس في حقل العلوم السياسية بالأساس، ثم علم الاجتماع السياسي، علم الاجتماع العسكري، القانون، والدراسات الإستراتيجية والأمنية بعد ذلك. عرفت هذه العلاقة في المجالات الأكاديمية بـ(CMR) اختصارا لـ(Civil- Military Relations) ولا تعتبر مجالًا قائمًا بذاته دون الارتباط بتلك الفروع المعرفية التي أشرنا إليها. هذا بالطبع دون إغفال بعض المراكز البحثية والدوريات التي تخصصت في دراسة هذه العلاقة مثل السمنار الجامعي (Inter- University Seminar) حول (الجيش والمجتمع) الذي تشرف عليه جامعة ولاية تكساس، والذي يصدر دورية بعنوان (Armed Forces and Society: An interdisciplinary Journal). يشمل هذا الدرس بالإضافة إلى العلاقة بين المؤسسات/السلطات المدنية، والمؤسسات/السلطات العسكرية، عدة قضايا كلاسيكية مثل قضايا الحرب والسلام، الأمن القومي، وتقاطع/تمحور هذه القضايا على المستويات الإقليمية والدولية.

يمكن القول في البداية – قبل التفصيل لا حقًا – أن العلاقة مدنية- عسكرية قائمة على تناقض جوهري

يمكن القول في البداية – قبل التفصيل لا حقًا – أن العلاقة مدنية- عسكرية قائمة على تناقض جوهري مفاده أن الجيش كمؤسسة حداثية (وتحمل تناقض الحداثة) تم تصميمها لتقوم بحماية الدولة والدستور، لهذا يجب أن تكون قوية بقدر كاف لتقوم بذلك، إلا أنها وبفضل عدة عوامل تصير قوية بالقدر الذي تهدد فيه الدولة والدستور (أو ما صممت لحمايته). لا يكون هذا التناقض الجوهري صحيحاً فقط (ولكن غالباً ما يحدث) في الدول المتخلفة ولكن أيضًا في الدول راسخة النمو والديمقراطية.

اقرأ/ي أيضًا: اتفاق السلام.. هل ينجو جنوب السودان من الفوضى؟

كان هذا التناقض مصدرًا للجدل السياسي والنقاش الأكاديمي ابتداء في الولايات المتحدة الأمريكية إبان الحرب الباردة. حتمت هذه الحرب الباردة -الإشارة هنا إلى التنافس الأمريكي – السوفيتي وإلى سباق التسلح من أجل الردع المتبادل- بناء جيش قوي فجاء السؤال: ألا يمثل هذا الوضع تهديدًا وخطرًا على الديمقراطية اللبرالية؟

في الدوائر الأكاديمية  قاد هذا النقاش كلًا من صمويل هنتنغتون في كتابه "الجندي والدولة: نظرية وسياسة العلاقات المدنية والعسكرية" الصادر في 1957، وموريس جانوفيتز في كتابه "الجندي المحترف: صورة اجتماعية وسياسية" كل على طريقته. ووقف في منطقة وسطى بينهما، صمويل فاينز في كتابه "رجل علي صهوة الحصان: دور الجيش في السياسة".

ظلت هذه الإسهامات الثالثة تشكل الكتابات العمدة ليس فقط في مجال الـ C M R الخاص ولكن أيضًا في المجال العام لدراسة دور الجيش في السياسة

ظلت هذه الإسهامات الثالثة تشكل الكتابات العمدة ليس فقط في مجال الـ C M R الخاص ولكن أيضًا في المجال العام لدراسة دور الجيش في السياسة. خارج نطاق الولايات المتحدة الأمريكية، وخاصة بعد موجة الانقلابات العسكرية في أفريقيا، أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط في ستينات وسبعينات القرن العشرين، ظهرت العديد من الكتابات تتفق أو تختلف مع سابقتها، كما سيأتي لاحقًا. بعد هذه المقدمة الإجمالية السريعة يمكن التفصيل، بالقدر الذي تسمح به هذه الكتابة، في الأطروحات الرئيسية في ذلك.

اقرأ/ي أيضًا: ثورة السودان.. الحلّ الجذري أمام الأبواب الموصدة!

   النظرية المؤسسية لهنتغتون

استندت النظرية المؤسسية على أفكار عالم السياسة الأمريكي ومستشار البيت الأبيض في مجلس الأمن القومي صمويل هنتنغتون، وعلى كتابه سالف الذكر. ولا غرابة أن تسعى نظريته إلى تحقيق الحد الأقصى من الأمن القومي بحد أدنى من التضحية بالقيم الاجتماعية.

تقول النظرية في البداية، بأن المؤسستين المدنية والعسكرية تمثلان عالمين منفصلين تمام الانفصال ومتناقضين في الطبيعة، القوانين والتقاليد، وهو أمر قد يكون معروف أو يمكن استنتاجه. إلا أن الأمر الذي قالت به النظرية في ذلك هو أنه من الناحية الأيديولوجية والسياسية بينما تميل المؤسسة العسكرية لتكون محافظة  تميل المؤسسة المدنية نحو الليبرالية.

ترى النظرية أن في "احترافية" الجيش الحل لعدم تدخله في السياسة. فكلما كان الجيش محترفًا كلما كان محايدًا سياسيًا

قالت النظرية بهذا الاختلاف ومن ثم التحكم فيه للمحافظة على الديمقراطية اللبرالية من تدخل الجيش. ولتحقيق ذلك دعت إلى سيطرة المؤسسة المدنية على المؤسسة العسكرية. وترى النظرية أن في "احترافية" الجيش الحل لعدم تدخله في السياسة. فكلما كان الجيش محترفًا كلما كان محايدًا سياسيًا. تعني الاحترافية أن أفراد الجيش يجب أن يتمتعوا بخصائص معينة مثلهم مثل موظفي الشركات تتعلق بالمعرفة، الخبرة، القواعد والأخلاقيات. في حالة الجيش يعمل أفراده على وظيفة "إدارة العنف" تحت معارف عسكرية وخبرات وتقاليد تخص احترام التراتبية، الطاعة والانضباط، تقديم الجماعة على الفرد ووضع مصلحة الدولة فوق مصلحة الجماعات وسحق الذات مقابل الصالح العام، وهي سمات لا نجدها في فردانية اللبرالية.

اقرأ/ي أيضًا: "نهب جنوب السودان".. قصص الفساد والحرب الأهلية

ولتقوم المؤسسات المدنية بالسيطرة على المؤسسات العسكرية، عليها أن تجد الطرق الكفيلة لتجعلها توجه السلطة العسكرية دون التعدي-غير المبرر/غير- الضروري على اختصاصاتها الاحترافية، حتى لا تثير ردة فعلها واستفزازها. فمثلًا على القيادات المدنية أن ترسم السياسات والأهداف العسكرية والأمنية باستشارة القيادات العسكرية، وأن تحدد أهداف العمليات العسكرية، مثلًا، وتترك الوسائل الفنية والطرق لتحقيقها للقيادات العسكرية.

هذا التحكم يجب أن يكون متوازنًا وبدرجة معقولة لأن التحكم المفرط في المؤسسة العسكرية ينتج في النهاية جيشاً ضعيفًا من الناحية الاحترافية ومسيسًا، في حين أن التحكم الضعيف يجعل الجيش أقوى من المؤسسة المدنية وقد يؤدي إلى سيطرة الجيش، أو إلى الانقلابات العسكرية.

من القضايا العملية للسياسة العسكرية التي يجب أن يكون للمؤسسات المدنية دور فيها، ميزانية القوات المسلحة وتمويلها، وبالتالي العتاد والتسليح وحجم القوات. إلا أن دورها في قضايا أخرى يجب أن يكون أكبر مثل التحالفات العسكرية وتوقيت اللجوء إلى القوة العسكرية.

اقرأ/ي أيضًا: رِفقًا بـ"حمدوك": ساحر بلا عصا أو معجزات (1-4)

المؤسسة العسكرية تعمل – وفق رؤية هذه النظرية – تبعًا لوظيفتها الاحترافية لحماية الدولة والمجتمع ككل، لكنها في جانب آخر-وهذا ما لم تشر إليه النظرية- تعمل تبعًا/وفقًا لمصالح طبقة اجتماعية أو قوى اجتماعية خارجها. هنا يأتي السؤال كيف تستطيع المؤسسة العسكرية أن تقوم بمهامها الاحترافية وحماية المجتمع ككل بينما هي تعبر عن مصالح طبقة معينة منه؟ وهل الاحترافية التي قدمتها النظرية كافية للإجابة على هذا السؤال؟

 نظرية التقارب

يقود هذه النظرية عالم الاجتماع ومؤسس علم الاجتماع العسكري موريس جانوفيتز الذي يتفق مع هنتنغتون في وجود الاختلاف والتناقض بين المؤسستين المدنية والعسكرية إلا أنه يختلف معه في كيفية التعامل مع هذا الاختلاف. بينما يقول هنتنغتون بالتحكم في هذا الاختلاف (control the difference) يقول جانوفيتز بتقليصه (diminish the difference) وذلك بإلغاء الفواصل الصارمة بين ما هو عسكري وما هو مدني، وتمدين المؤسسة العسكرية وعسكرة المجتمع بما يعود بالفائدة على الاثنين. تدخل المؤسسات المدنية في قضايا المؤسسات العسكرية لا يضر بالأخيرة بل يفيدها، وذلك لأنها ولطبيعتها المحافظة تقاوم التغيير لهذا فإن تدخل المدنية يجعلها تتغير نحو الأفضل.

يعتبر قيام الأكاديميات العسكرية ذات الطابع العلمي والجامعي، التي تستفيد من المدنيين أحدى وسائل إدخال الطابع المدني على المؤسسات العسكرية، وتقليل الفوارق بين ما هو عسكري وما هو مدني. يجب الإشارة هنا إلى ارتباط الطابع الأكاديمي بروح التفرد والنقد والتجديد وتقبل الآخر وغيرها من القيم الأكثر ملائمة للمدنية مقارنة بالعسكرية.

نظرية الوكالة

أقترح بيتر فيفر (Peter Feaver) آراء عرفت بنظرية الوكالة لتكون في رأيه بديلًا/تعديلًا للنظرية المؤسسية لهنتغتون. لا يتفق فيفر مع هنتنغتون في أحقية المؤسسات المدنية في السيادة على المؤسسات العسكرية فحسب، بل يرى أن المؤسسات المدنية والقادة السياسيون هي الأصيل، بينما المؤسسات العسكرية هي الوكيل في إطار علاقة الأصيل–الوكيل المستعارة من حقلي الإدارة والاقتصاد. فلأصيل هنا هو صاحب العمل/الحق، هم القادة المدنيون أو المؤسسات المدنية التي ترسم السياسات للوكيل (الجيش) الذي عليه أن ينفذها. المؤسسة العسكرية عندما تقوم بدور الوكيل لا تنسى أن لها احترافية وتخصص في مجالها كما لا تنسى ارتباطها الطبقي، فهي كالعامل تكون بين خيارين (Work- Shirk)؛ العمل كما هو مطلوب أو التماطل والتلكؤ. وقد يصل ذلك إلى رفض العمل أو إلى أقصى الرفض الذي قد يكون الانقلاب العسكري.

اقرأ/ي أيضًا: تركة البشير البالية.. دولة موازية تؤرّق السوادنيين

العلاقة في الأوضاع الانتقالية

أشرنا إلى كيف أن كتاب هنتنغتون "الجندي والدولة: نظرية وسياسة العلاقة بين المدنية و العسكرية" صار مرجعًا أساسيًا لدراسة العلاقة مدنية- عسكرية، وسار على نهجه، أو ضده، العديد من الدارسين مستخدمين المقطع الأول من عنوان الكتاب بكتبهم مع اختلاف فيما تبقى، وفي الطرح والاهتمامات. من بين هؤلاء الكتاب نجد عائشة راي في "الجندي و الدولة في الهند" و طيبي غماري في "الجندي والدولة والثورات العربية" إذا ذكرنا أمثلة أقرب للواقع السوداني. قبل هؤلاء جمعيا يأتي زولتان باراني، الذي لا يمكن تجاهل إسهاماته في دراسة العلاقة بين المدنية والعسكرية على وجه العموم وعلى وجه تناوله للعلاقة في الأوضاع الانتقالية والتي تهم واقعنا الانتقالي، وواقع العديد من الدول في العالمين الإفريقي والعربي على وجه الخصوص.

كتاب باراني "الجندي والدولة المتغيرة: بناء جيوش ديمقراطية في أفريقيا وآسيا وأوروبا والأميركتين" يتناول العلاقة في طيف واسع من الحالات الانتقالية مثل حالات ما بعد الحرب، ما بعد الديكتاتورية وتحول الدولة نفسها. في هذا الطيف الواسع قام باراني بدراسة العلاقة بعد الحرب العالمية الثانية في ألمانيا، اليابان، هنغاريا، وبعد الحرب الأهلية في السلفادور، لبنان، والبوسنة والهرسك، وبعد تغيير نظام الحكم في روسيا، رومانيا، إسبانيا، البرتغال، اليونان، الأرجنتين، شيلي، غواتيمالا، كوريا الجنوبية، وتايلاند، وبعد تحول الدولة-بعد الاستعمار- في الهند، باكستان، غانا، بتسوانا،  تنزانيا، وبعد إعادة توحيد الدولة في ألمانيا واليمن.

الناظر للحالة السودانية يمكنه القول بأنه مر أو يمر بكل هذه الحالات الانتقالية التي درسها باراني، فهو قد مر بتحول الدولة بعد انفصال الجنوب، ومر بتحول في النظام من الديكتاتورية والعسكرية إلى الانتقال الديمقراطي، وكذلك حالة ما بعد الحرب. لكل هذا نحن في السودان أحوج ما نكون للنظر في عمل باراني.

اقرأ/ي أيضًا: السلام الشامل.. بوابة الخروج من الدائرة الجهنمية

من إسهامات باراني، غير أنه يرى؛ أنه لتكون الديمقراطية راسخة يجب أن تكون القوات المسلحة تحت سيطرة السلطة المدنية، التحديد الواضح لما تعنيه هذه السيطرة.

يقول باراني في الإطار الاجتماعي العام يجب أن تعكس معايير القوات المسلحة معايير المجتمع في قضايا النوع، الانتماء الإثني والديني وغيرها. ويقول في الإطار السياسي أن تقوم المؤسسات التنفيذية والتشريعية بتقاسم مسؤولية الإشراف على القرارات المالية والإدارية، والذي يحتم وجود وزير مدني يقوم بين المسؤول التنفيذي الأول والقوات المسلحة.  

يعتبر قيام الأكاديميات العسكرية ذات الطابع العلمي والجامعي، التي تستفيد من المدنيين إحدى وسائل إدخال الطابع المدني على المؤسسات العسكرية

خاتمة

أردت من هذه الكتابة، كما جاء في عنوانها، ابتدار مقدمة تقول بأن العلاقة بين المؤسستين المدنية والعسكرية والتي ظهرت في شعار الثورة السودانية في كانون الأول/ديسمبر 2018 قد تمت مناقشتها في الدوائر الأكاديمية وفي حقل العلوم السياسية منذ زمن بعيد. وللوصول للفائدة في الحالة السودانية كان من الضروري النظر إلى هذا النقاش. قدمت هذه الكتابة صورة إجمالية لهذا النقاش في اتجاهاته الرئيسة كتمهيد لتفصيل لاحق في كتابات تالية.

 

اقرأ/ي أيضًا

قوى الحرية والتغيير.. أداء مخيب للآمال

عن وجوه السودان الأخرى