لعل النقاش الدائر الآن حول آفاق الفترة الانتقالية ومهامها المرحلية في السودان، ميَّال إلى الفصل بين الإصلاحات السياسية والإصلاحات الاقتصادية، وكأنما بالإمكان تحقيق تحول مدني وديمقراطي، يُمِّهد لعملية انتقال مُتدرج وسلس وتداول سلمي مُستدام للسلطة، بمعزل عن إحداث تغييرات ذات طابع هيكلي في بنية سياسات الاقتصاد الكلي، بحيث تنعكس ثمار هذه التغييرات مرحليًا على واقع الناس بحل مشكلات الضائقة المعيشية (خبز، وقود، سيولة نقدية، ... الخ)، وتؤسس على المدى الاستراتيجي، لتحول بنيوي في طبيعة النمط الاقتصادي السائد في الدولة السودانية، ذلك النمط الريعي ــ الهدَّار للموارد والمُهدِّد للاستقرار الاجتماعي والسياسي والأمني، مُعمِّقًا التفاوتات الاقتصادية والفوارق التنموية، ومُشعلًا النزاعات والحروب الأهلية.
لن يرث عبد الله حمدوك عبء ثلاثة عقود من الهدر الإسلاموي الشامل للموارد والثروات والمداخيل القومية فحسب، بل ستنوء كتفاه وتميل حِملًا إثر حمل، بإرث أكثر من نصف قرن من التشوهات
فطوال العقود الثلاثة الماضية من عمر نظام الإنقاذ الإسلاموي، كانت هذه الاختلالات تتعمَّق وتتمَّخض عنها حالة شبه مزمنة، من الهدر الشامل للموارد والعجز الوظيفي في الأداء الاقتصادي الكلي، والنتيجة هي الفساد بأشكاله وتجلياته المتعددة.
اقرأ/ي أيضًا: جدل الوصل والانقطاع في الثورة السودانية
فرئيس وزراء الحكومة الانتقالية عبد الله حمدوك لن يرث فحسب عبء ثلاثة عقود من الهدر الإسلاموي الشامل للموارد والثروات والمداخيل القومية، بل ستنوء كتفاه وتميل حِملًا إثر حمل، بإرث أكثر من نصف قرن من التشوهات البنيوية العميقة، التي ظلَّت تكتنف جهاز الدولة الموروث والمتآكل والمعطوب. فبغض النظر عن ضعف المحتوى الاستراتيجي والأدائي والأثر النهائي لأي "سياسة اقتصادية" أو "استراتيجية تنموية"، أي من حيث فشلها في حل المشكلات المعيشية والأزمات الهيكلية التي ظل يعاني منها الاقتصاد الوطني لعقود طويلة، فإن هشاشة جهاز الدولة الموروث من التجربة الاستعمارية، وضمور الأدوار الوظيفية للمؤسسات التنفيذية ولآليات توزيع/إعادة توزيع الثروات والمداخيل والفوائض القومية، حالا دون أن تتحقق الأهداف المرجوة من تلك السياسات والاستراتيجيات.
وإن كان حمدوك ذلك الساحر الذي يخلُب الألباب والأفئدة بمؤهلاته وقدراته وخبراته، فإنه ساحر بلا عصاة تُنيخ المعجزات من أعالي سماء العدم مطرًا يُنبِتُ شجرًا مُثمرًا يُلقِم أفواه الجوعى فاكهةً ويسقيهم نبيذًا، متوِّسلًا بسحره هذا نجاتهم من طوفان فشل دولة ما بعد الاستعمار، التي عجزت بكل المقاييس في تحقيق الحد الأدنى من العيش الكريم والحياة الآمنة المُستقرة لمواطنيها.
فالرجل احتقب "مخلاة" عمره المهني الوافر المديد، ودلف إلى أوكار جهاز الدولة الخبيئة، نابشًا ومستكشفًا كل مكامن الخلل والعجز الوظيفي لجهاز الدولة ومؤسساتها. لذلك، لن تتبلوَّر لحمدوك أي رؤية إصلاحية هيكلية شاملة دون ملامسة عصب هذا الجهاز من الداخل، من خلال العمل مع فرق عمل متخصصة ذات قدرات وخبرات استكشافية عالية. حيث من الداخل، ومن الداخل فحسب، سوف تختمر الرؤية وتتكشف ملامحها الجوهرية وأبعادها الاستراتيجية وخطواتها التنفيذية وأهدافها ومراميها.
ويبدو أن سنوات الفترة الانتقالية هي سنوات المعايشات والاستكشاف والتجريب، ومن ثم التمهيد والبناء الجذري لمشروع رؤية وطنية شاملة ومتعددة الأبعاد، رؤية تستمد بناء "مداميكها" و"سَاسَها" المتين من كل أسباب وعوامل فشل دولة ما بعد الاستعمار في السودان، هذه الدولة التي أخذ حُرَّاس هيكلها الحضري ــ النخبوي وسدنته البيروقراطيون يمعنون في إهدار فوائض العمل المُنتج في الأنشطة الريعية والاستهلاك المفرط، متمادين في تحويل الأرباح والفوائد والاعتمادات إلى الخارج.
إن روح المقاومة الشعبية التي ألهمت الثورة السودانية المجيدة، وفجَّرت مدها الاحتجاجي الهادر، ظلَّت تتأجج وتختمر لأكثر من نصف قرن في المدن والأرياف، وسط الطبقات الفقيرة وبين كادحي الطبقة الوسطى، مُشعلة لهيبها من أسفل إلى أعلى، حتى اكتمل لهب التظاهر وتفجَّر مده في ثورة كانون الأول/ديسمبر ـــــ نيسان/أبريل، كانسًا في مساره الهادر الجارف كل ضروب الفشل التاريخي لأنظمة الحكم الوطني.
إن فشل الأنظمة السابقة في توفير مياه الشرب وشبكات الصرف الصحي والكهرباء والصحة والتعليم، وغيرها من الخدمات الأساسية الأخرى لمواطنيها، لا يُعِّبر إلا عن طبيعة دولة ما بعد الاستعمار التي ظلَّت تنحاز للأغنياء على حساب الفقراء. إذ ظلَّ جهاز الدولة الموروث من الحقب الاستعمارية، يُعَّبر عن مصالح فئات نخبوية صغيرة هيَّمنت عليه وأخذت تُبدِّد الثروات والفوائض الاقتصادية والاجتماعية القومية، في أنشطة وممارسات ريعية تتعارض في جوهرها مع مصالح الفئات الشعبية الفقيرة، لتظل تلك الفئات تعاني لأكثر من نصف قرن من حدة تنامي اللامساوة الاقتصادية والفوارق الاجتماعية، حيث انعكست هذه اللامساوة والفوارق في تدهور المستويات المعيشية وانعدام الخدمات الأساسية وضعف مردودية القطاعات الإنتاجية الحيوية.
وطوال أكثر من نصف قرن، ظلَّ فقراء الريف والمدن يُعِّبرون عن مقاومتهم لواقع تدني المستويات المعيشية، وانعدام الخدمات الأساسية بطرق وأشكال مختلفة. فنجد أن بعض الفئات الفقيرة أخذت تعمل على ترويض الفقر وتتعايش مع المرض في صمت، بينما ظلَّت تلجأ فئات أخرى إلى العلاج "البلدي" والمعالجين التقليديين لانعدام الخدمات الصحية أو لعدم المقدرة المادية على تحمل تكاليف العلاج. وفي بعض الحالات، تُعبِّر هذه المقاومة عن نفسها في شكل من أشكال الحرمان المطلق، وذلك عندما تعجز بعض الفئات الفقيرة، على وجه الخصوص في الأرياف والقرى و"ضهاري" المدن، عن إرسال أطفالها إلى المدارس لانعدامها أو لعدم المقدرة المالية أو لتفضيل العمل في الزراعة والرعي، وفي أنشطة هامشية أخرى بهدف زيادة دخل الأسرة.
عندما يتضافر الفقر مع انعدام الخدمات الصحية والتعليمية الأساسية وشح الموارد بسبب عوامل التصحر والجفاف، في مناطق النزاعات على وجه الخصوص، يستدرج البؤس أو الخوف المُقَّنع من المجهول الناس إلى الالتحاق بسوح الحرب وميادين القتال.
كما ظلَّت تتجسَّد هذه المقاومة من خلال رفض فئات شعبية واسعة دفع الضرائب والجبايات للجهات الرسمية والمختصة، في السنوات الأخيرة على الأقل، وذلك نتيجة لانعدام الثقة بين المواطنين والجهاز الحكومي، لعجز هذا الأخير عن توزيع/إعادة توزيع الإيرادات المالية للدولة بشكل عادل على الجميع، أو نتيجة لعدم توظيفه في برامج تنموية وخدمية فعَّالة وقادرة على معالجة مشكلات الفقر والبطالة وانعدام الخدمات الأساسية.
لقد تجسَّدت هذه المقاومة أكثر، وعلى وجه الخصوص في العقدين الأخيرين، في حركة رفض واسعة للسياسة الحزبية، وذلك نتيجة لضعف برامج الأحزاب وكساد أدوات عملها وسط الجماهير، ليتضافر هذا الرفض للسياسة الحزبية مع الرفض الشعبي الواسع لنظام المشروع الحضاري الذي ظلَّ يهدر في موارد البلاد وثرواتها لثلاثة عقود.
اقرأ/ي أيضًا: "اصحى يا ترس".. حين يعجز الموت أمام عظمة الواجب
إن "حمدوك" بوصفه ساحرًا بلا عصا تهب المُعجزات من العدم، لا يستمد سحره إلا من قدرته على فتح الآفاق، لخلق أطر بديلة لبرامج ومشاريع وطنية قادرة على تغيير واقع الناس للأفضل، على وجه الخصوص في الأرياف ومناطق النزاعات. ففي إحدى حوارته، انصب تركيزه على الاقتصاد السياسي للسياسات الاقتصادية والبرامج الإصلاحية الهيكلية، وذلك لأن النموذج السائد لهذه السياسات والبرامج، والذي انتهجته الحكومات الوطنية السابقة، أخذ يتحوَّل إلى أداة لتعميق الفوارق الاقتصادية والتفاوتات التنموية من نظام حكم لآخر.
يبدو أن سنوات الفترة الانتقالية هي سنوات المعايشات والاستكشاف والتجريب، ومن ثم التمهيد والبناء الجذري لمشروع رؤية وطنية شاملة ومتعددة الأبعاد
وبوسع مداخل الاقتصاد السياسي ومنهجياته أن تسهم في تأطير السياسات والبرامج، بشكل بنيوي من خلال الفهم الشامل ومتعدد الأبعاد للقاعدة الاجتماعية ــ الاقتصادية لفقراء الريف والمدن، بكل تعقيداتها الطبقية والإثنية والإيكولوجية والنفسية، وذلك بالتركيز على حجم الضرر الذي يمكن أن تلحقه أي سياسة اقتصادية بديلة بواقع الناس، كأن تُّعِّمق هذه السياسة التفاوتات في الأجور أو تزيد الأعباء الضريبية على ذوي المداخيل الضعيفة، أو تحد من قابلية وصول بعض الفئات الفقيرة والهَّشة لسوق العمل، بسبب حرمانها البنيوي المتأصل في المنظومة الهيكلية الشاملة للسياسات والبرامج الإصلاحية الوطنية، حيث يؤدي الحرمان من الحصول على الخدمات الصحية والتعليمية ومياه الشرب النقية والسكن اللائق، إلى انعدام أهلية وتنافسية هذه الفئات التي تمكنها من البحث عن ومن ثم الحصول على فرص عمل تحسن مستوياتها المعيشية.