01-أكتوبر-2019

يمر اتفاق السلام المستأنف بجمهورية جنوب السودان، بعدد كبير من العثرات التي تقلل من فرص نجاحه في تحقيق التحول السلمي والاستقرار الذي ينشده مواطنو البلاد الذين لم يهنأوا بطعم استقلال بلادهم، ولم يستريحوا من رهق الحرب طويلًا. فبعد أقل من عامين على تحقيق الاستقلال عن دولة السودان في يوليو 2011، تجدد القتال بين (الإخوة الأعداء) بالحزب الحاكم (الحركة الشعبية لتحرير السودان) في العام 2013 ليقضي على كافة الآمال التي كانت معلقة على المقاتلين من أجل الاستقلال والحرية. وتتجدد الآن وبشكل أقوى المطالب بضرورة وقف الحرب وإعادة البلاد لمسارها الصحيح، إلا أن الاتفاق الذي تم التوقيع عليه بين الحكومة والمعارضة المسلحة في أغسطس 2015، لم يصمد هو الآخر، ويعود ذلك لغياب الإرادة السياسية لدى الأطراف المتحاربة، بجانب شخصنة الصراع السياسي بين الرئيس "سلفا كير" ونائبه السابق "ريك مشار" الذي يتزعم المعارضة المسلحة حالياً. ففي ظل ضعف مؤسسات الدولة الوليدة وسطوة ذهنية حرب العصابات إلى جانب تركة العنف الموروث من حرب التحرير الثانية (1983-2005)، بات من العسير جداً النظر إلى إيجاد حل سياسي مستدام دون استصحاب تلك العوامل الداخلية المؤثرة على طبيعة الصراع في جنوب السودان.

مضى عام على توقيع اتفاق السلام في سبتمبر 2019، ولا تزال الأطراف عاجزة عن إحداث اختراق حقيقي في القضايا الجوهرية التي من دونها يصعب تكوين الحكومة الانتقالية

مضى عام على توقيع اتفاق السلام في أيلول/سبتمبر 2019، ولا تزال الأطراف عاجزة عن إحداث اختراق حقيقي في القضايا الجوهرية التي من دونها يصعب تكوين الحكومة الانتقالية بعد شهر من الآن. فحتى الآن لم تستطع الحكومة والمعارضة الفراغ من قضية بناء الجيش القومي الموحد، وتحويله من جيش يدين أفراده بالولاء المباشر لقياداته على أساس الانتماء الجغرافي المناطقي، إلى كيان وطني تحكمه التقاليد العسكرية المتعارف عليها، وهذا من شأنه أن يؤسس لعملية البناء الوطني في جنوب السودان. ويعود تأخير تنفيذ هذا الجانب لمماطلة الحكومة وعدم إيفائها بالوعود التي قطعتها أمام رؤساء "الإيقاد" في أيار/مايو المنصرم بتوفير مبلغ 100 مليون دولار لتهيئة المعسكرات وتوفير المساعدات اللوجستية المطلوبة، فكيف لحكومة تكتظ خزائنها بملايين الدولارات من عائدات بيع النفط أن تعجز عن تمويل بند الترتيبات الأمنية، إلا إذا كانت غير راغبة في إحداث اصلاحات حقيقة في الجانب الأمني المتعلق ببناء جيش جديد يرى فيه كافة الجنوبيين أنفسهم ويشعرون معه بالأمان ويفتخرون بالانتماء إليه.

اقرأ/ي أيضًا: 8 سنوات على استقلال جنوب السودان.. فشل تجربة بناء الدولة في مهدها

 إن القضية الثانية التي تحتاج لإحداث اختراق حقيقي هي قضية عدد الولايات التي يتم على أساسها قسمة السلطة على مستوى المركز والولايات، فحتي الآن لا يزال الجدل قائماً بعد أن قام الرئيس "كير" في تشرين أول/أكتوبر 2015 بزيادة عدد الولايات إلى 32 ولاية بصورة فردية، الأمر الذي اعتبرته المعارضة المسلحة بقيادة ريك مشار، انتهاكاً لبنود اتفاق السلام، وقد حاولت وساطة "الإيقاد" معالجة المسألة عن طريق لجنة متخصصة تقوم بتحديد حدود تلك الولايات وحسمها عبر التصويت على الخيار المناسب، وقد فشلت الآلية في تحقيق النتائج المرجوة مثلما فشلت اللقاءات الأخيرة التي عقدها الرئيس كير وزعيم المعارضة ريك مشار بالعاصمة جوبا الشهر الماضي  في التوصل لأي تفاهمات حول تلك الأزمة.

هناك مخاوف كبيرة تسود الأطراف الموقعة على اتفاق السلام وبخاصة الحكومة التي تتعامل مع التسوية ككل باعتبارها واحدة من مخططات المجتمع الدولي للإطاحة بها، وتفكيك نظامها في النهاية عن طريق بند المحاسبة الوارد في اتفاق السلام، والذي ينص على ضرورة تكوين محكمة، لمحاكمة الأشخاص الذين تورطوا في جرائم حرب وانتهاكات ضد المدنيين خلال الحرب الأخيرة، لذلك تبدو الحكومة كثيرة التردد فهي لا تزال تبحث عن الضمانات التي يمكن أن تنجيها من تلك المآزق، وأول تلك الضمانات هو أن تتخذ المعارضة المسلحة موقفاً مماثلاً لها في مقاومة أي حديث عن ضرورة تكوين المحكمة الهجين، وستمضي الحكومة في الممانعة لحين انقضاء الفترة ما قبل الانتقالية التي تبقي لها أقل من شهر واحد، وبعدها ستضع الجميع أمام الأمر الواقع ، كما أنها لن ترضى بتأجيل تشكيل حكومة الوحدة الوطنية مثلما لوح بذلك الرئيس سلفاكير مؤخراً بل وذهب لإمكانية إعلانها بدون مشاركة فصيل المعارضة الرئيسي الذي يقوده مشار.

سيكون من الصعب جداً التكهن بمستقبل العملية السلمية في جنوب السودان، ففي ظل الضعف الذي تعاني منه مجموعات المعارضة الموقعة على الاتفاقية بسبب الانقسامات والصراع على السلطة، والعمل من أجل إرضاء الحكومة و التقرب لها، يمكن أن تتصدع العملية السلمية بصورة كاملة، خاصة إذا تركت مجموعة ريك مشار خارج الحكومة، فإن هذا سيعني عودة القتال مجدداً وبصورة أكثر ضراوة، سيما وأن هذا الاتفاق لا يحظى بدعم العديد من الدوائر في المجتمع الدولي، مثلما أن هناك جماعات مسلحة أخرى كانت قد أعلنت عن رفضها التوقيع على اتفاق السلام من البداية وتكهنت بإمكانية تعرضه للانهيار لعدم تطرقه لجذور الأزمة الوطنية بالبلاد.

 هناك فرصة أخيرة ووحيدة أمام الاقليم وبخاصة وساطة "الإيقاد" لإنقاذ اتفاق سلام جنوب السودان من الانهيار عن طريق الدعوة لقمة رؤساء عاجلة تناقش حقيقة الأوضاع بالبلاد ومآلاتها المستقبلية

  عليه فإن هناك فرصة أخيرة ووحيدة أمام الاقليم وبخاصة وساطة "الإيقاد" لإنقاذ اتفاق سلام جنوب السودان من الانهيار عن طريق الدعوة لقمة رؤساء عاجلة تناقش حقيقة الأوضاع بالبلاد ومآلاتها المستقبلية ومن ثم اتخاذ قرارات حاسمة حول قضية عدد الولايات التي يمكن معالجتها من خلال العودة للعمل بنظام المراكز الإدارية التي وضعها الإنجليز بحدودها المعروفة سلفاً، أما في مسألة الجيش فيمكن أن يتم جدولة تنفيذ مصفوفة الترتيبات الأمنية ومن ثم الاستعانة بقوة إقليمية تضطلع بمهمة حماية نواب الرئيس لحين اكتمال نشر القوات الوطنية، فهناك ضرورة للمضي نحو تكوين حكومة انتقالية بتوافق الأطراف، لتتولى ملف إدراج الفصائل الرافضة لاتفاقية السلام والتوصل معها لتسوية يتم تنفيذها خلال الفترة الانتقالية، فمن خلال هكذا تدابير يمكن إنقاذ العملية السلمية من الانهيار أو بعبارة أكثر وضوحاً؛ إنقاذ جنوب السودان من الانزلاق نحو حرب أهلية ثانية وهو لم يكمل بعد عقداً على استقلاله.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

8 سنوات على استقلال جنوب السودان.. فشل تجربة بناء الدولة في مهدها

جنوب السودان.. صراع متجدد في دولة هشّة