15-أكتوبر-2019

الزخم الجماهيري بعد الثورة هو الضامن لإتمام المرحلة الانتقالية وترسيخ السلام والديمقراطية (AA)

تشكل قضية الحرب أحد أضلاع أزمة السودان المتطاولة، التي أورثته الفشل الذريع بتأثيرها المباشر على سكان مناطق النزاع، بتهديدها لحياتهم وانتهاكها لحقوقهم الإنسانية وإفقارهم وتهجيرهم إلى معسكرات النزوح وهوامش المدن. كما أنها تتداخل وبشدة مع أضلع الأزمة الأخرى، المتمثلة في الفشل الاقتصادي والتنموي وانهيار الخدمات الأساسية، وإهدار حقوق الإنسان. بالتالي فإن توفر فرصة ما لحل مشكلة الحرب تدعم إمكانية إحداث توازن سياسي واستقرار اقتصادي يسهم في دفع عملية التحول الديمقراطي في البلاد للأمام إلى حيث إحداث استقرار سياسي وسلام مستدام.

اقرأ/ي أيضًا: ثورة السودان.. الحلّ الجذري أمام الأبواب الموصدة!

ربما كانت ثورة ديسمبر 2018 المجيدة أحد أهم الفرص أمام السودانيين للخروج من الدائرة الجهنمية لأزمة نظم الحكم في السودان (ديموقراطية – انقلاب عسكري-ثورة شعبية). حيث أنه ومنذ أول حكومة تكونت بعد استقلال السودان في 1956، لم تكمل حكومة ديموقراطية دورتها كاملة. وقفت الانقلابات العسكرية عقبة في سبيل إحداث تحول ديمقراطي شامل في السودان. واستغلت الأحزاب السودانية والتي تتعامل غالبها مع السلطة كتركة أو ورثة مستحقة لها، استغلت نهم العسكر للسلطة فتم استخدامهم في كل مرة كحبال تلف على عنق التجربة الديموقراطية الوليدة، وبحجج مكررة "فشل الأحزاب السياسية في قيادة البلاد واستشراء الفساد وارتفاع التضخم" وهي حجج تخفي من ورائها مكايدات ظلت تمارسها الأحزاب فيمت بينها، حيث أن كل الانقلابات كانت مدفوعة بدعم أحد الأحزاب السياسية نكاية في الأحزاب السياسية الأخرى. بل وصل الحال بأحد الأحزاب السودانية، المشاركة في انقلاب على حكومة كان هو جزء منها.

ما يقلل من فرص الرجوع لتلك الدوامة الجهنمية هذه المرة، هو أن القوى السياسية التي كانت مؤثرة في تحديد المسار السياسي في السودان سابقًا، قد فقدت مواضعها تدريجيًا، بفعل متغيرات سياسية واجتماعية وتاريخية، وما عادت تملك ذلك الزخم الجماهيري السابق الذي يمكن أن يشكل سندًا لها على أرض الواقع، في حال أقدمت على مخاطرة كبيرة لوحدها. فقدت الكثير من الأحزاب السياسية المقدرة على التأثير في مناطق النزاع خارج المدن الكبيرة، لارتفاع أصوات الخطابات المطلبية نتاج الوعي السياسي الذي أعقب التقلبات السياسية الكبيرة، خاصة بعد اتفاق نيفاشا للسلام. فنشأت انحيازات وتكتلات جديدة براغماتية ومناطقية أو قبلية - في أسوأ الفروض. بالإضافة أن تطاول أمد الحروب الذي أنتج خطابات وسرديات جديدة تتجاوز الخطابات الطائفية والأيدولوجية، أو قد تتقاطع معها أحيانًا دون أن تطابقها.

على المستوى المديني بالسودان، نشأت أجيال جديدة بوعي مغاير بفعل تأثير الميديا. وعي يتجاوز السرديات القديمة والانتماءات الموروثة، لصالح انتماءات مجردة انعكاسًا لحالة السيلان الأيديولوجي، نتاج تطور وسائل الاتصال وتنوع مصادر المعرفة. أتاحت وسائل الاتصال الحديثة للشباب فرصة حية لخلق فضاء حر وديناميكي، يتواصلون من خلاله متجاوزين كل الحدود والعوائق الزمانية والمكانية، كأداة للتعبير والمقاومة.

فالكتلة الحرجة لثورة ديسمبر المجيدة، مكونة من سكان الريف السوداني وخريجي وطلاب الجامعات والدراس الثانوية وسكان المدن، وهذا جيل باختلاف نسبة الوعي بين أفراده، إلا أنه يشترك في كونه - وبفعل تأثير الميديا - الأكثر قدرة على التمرد وتجاوز الروتين الأيديولوجي التقليدي. ما أدى إلى اهتزاز القيم والمعايير الاجتماعية والسياسية وتشظيها لتوافق حالة المرونة والسيولة الحالية. فقيم مجردة مثل الحرية الشخصية وحرية التعبير والعدالة والسلام وقيم حقوق الإنسان المختلفة، تشكل معايير تمايز واتفاق بين الشباب أكثر من الايدولوجيات المتوارثة. هذه الحالة الماثلة الآن توفر أرضية جديدة لنقاش وفهم قضايا الحرب ودعم عمليات السلام والمساهمة في تحقيق السلم الاجتماعي بعيدًا عن ثنائية "الحكومة وحركات التمرد" التي أورثت البلاد حالة التصلب التي اتسمت بها جولات التفاوض المتلاحقة، والتي بدورها اعاقت إحداث أي اختراق أفقي في قضية الحرب والسلام منذ أول رصاصة أطلقت في السودان قبل أشهر من استقلال البلاد.

كان أقصى ما بلغته المفاوضات في السودان هو انفصال جنوب السودان، والذي بقدر ما عبر عن إرادة شعب جنوب السودان، إلا أنه من ناحية أخرى عبر أيضًا عن فشل النخب الحاكمة، في إدارة الصراع السوداني بطريقة تضمن وحدة أراضيه والسلام بين شعوبه ومجتمعاته. وفرت الوسائط المفتوحة منصات ونوافذ حرة تتيح للجميع إمكانية التحاور والتلاقي وتلاقح الأفكار وتبادلها. حتى من يتعاطفون مع الحركات المسلحة ويتبنون سردياتها فإنهم يملكون مساحة لعرض قضاياهم، بعيدًا عن خطابات البكائية والمظلومية والتخوين المضاد؛ لصالح خطب إنسانية وحقوقية ساهمت في إكساب قضايا مناطق الهامش مؤيدين جدد. كما أن المقدرة الفارقة لوسائل الإعلام الجديدة على نقل صورة وصوت سكان مناطق الحرب، أزاح الحجاب الذي كانت تفرضه الحكومات بأدواتها الإعلامية على مناطق النزاع وقضاياها لفترات طويلة، مما أكسب قضايا الحرب تعاطفًا إضافيًا بإضفاء أبعاد إنسانية وقانونية ومطلبية مباشرة اليها.

نتاجًا لهذه العوامل توسعت دائرة أصحاب المصلحة في إنهاء الحرب، لتضم سكان مناطق النزاع بالإضافة إلى المتعاطفين والناشطين المهمومين بإنزال أحد أهم شعارات الثورة من على جدران اللافتات والجداريات إلى أرض الواقع.

اقرأ/ي أيضًا: كيف هزم السودانيون السيسي؟

تجد مع كل هذه العوامل التي مررنا بها، أن الثورات السابقة لم تستطع مخاطبة قضايا الحرب بجدية، ربما بسبب العجلة أو ربما هو تلهف الأحزاب السياسية للسلطة، أو عدم استيعاب الساسة السودانيين لطبيعة تعقيدات قضايا الحرب، فكان أن ظلت القضية متوارثة بين فترات الحكم الديمقراطية والديكتاتورية، دون أي بوادر للحل. بل إن بعض محاولات الحل كانت تعمد إلى صب مزيد من الوقود على النار، مثل محاولة عبود الفاشلة لفرض السلام بجنوب السودان في الستينات، وتجنيد القبائل الرعوية لتشكيل حزام دفاع ضد تقدم المتمردين في فترة الديموقراطية الثانية، وتحويل حرب الجنوب إلى صراع ديني مقدس في عهد الإنقاذ ما أفضى إلى انفصال الجنوب. لربما كانت الفرصة الآن مواتية لمناقشة قضايا الحرب والسلام بمخاطبة الأسباب الحقيقة للصراع، خاصة وأن الفترة الانتقالية الطويلة تعطي فرصة لتوفير مساحة اهتمام أكبر بقضية الحرب والسلام، في ظل وضع انتقالي لا تسيطر فيه قوى سياسية على السلطة بطريقة كاملة، وفي ظل إرادة شعبية وحكومية بالغة ورغبة في إحداث تغيير طال أمده، تغيير سيشكل نقطة تحول تاريخية في مسار العملية السياسية في السودان مستقبلًا.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

مباحثات السلام السودانية.. دعم لجوبا وتخوف من الثورة المضادة

اتفاق السلام.. هل ينجو جنوب السودان من الفوضى؟