ظلت الهجرة الجماعية المتواصلة للشباب تريح النظام السوداني من أعباء كثيرة. من ناحية هي طريقة تخلصهم من الشباب أصحاب الهمم والتطلعات الحياتية العالية، الذين هم دائماً أكثر قطاعات المجتمع تبرماً من بؤس الواقع وتوقاً لحياة أفضل، ومن ناحية أخرى تلعب تحويلات المغتربين دوراً أساسيًا في تكييف قطاعات واسعة جدًا من السودانيين مع حالة الانهيار الاقتصادي والإفقار الشامل، الذي سببه عقم سياسات النظام وفساده القياسي. وجود النظام -الذي وُضع السودان جراء سياساته الرعناء، في القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، حيث أصدرت محكمة الجنايات الدولية مذكرة قبض بحق رئيسه وعدد من كبار قادته- وجود هذا النظام المنبوذ دوليًا أسهم كثيرًا في تسهيل حصول كثير من الشباب على حق اللجوء السياسي في الغرب، خاصة السودانيين من مناطق الحروب الأهلية الواسعة. في الفترة بين توقيع اتفاقية نيفاشا للسلام في 2005 وانفصال جنوب السودان 2011، كانت معدلات هجرة الشباب أقل بكثير مقارنة بالفترات التي تليها؛ ليس فقط للاستقرار الاقتصادي النسبي الذي شهدته تلك الفترة، بل لأن آمال الشباب آنذاك كانت عالية في التغيير السياسي باستغلال هامش الحريات العامة المناسب حينها لإسقاط النظام بالانتخابات في 2010.
أدى صعود اليمين المتطرف المناهض للهجرة في أميركا وأوروبا، لتضاؤل آمال شباب السودان في ضوء يلتمع آخر نفق المتوسط
بانفصال الجنوب وفقدان موارد النفط التي لم يوظفها النظام في تطوير موارد البلاد الأخرى، شهدت البلاد هزة اقتصادية عنيفة للغاية، لم تتعاف منها حتى الآن. دفع تردي الأوضاع المعيشية بعد الانفصال لموجات من الاحتجاجات الشعبية بلغت ذروتها القصوى في انتفاضة أيلول/سبتمبر 2013 المجيدة التي كادت تطيح بنظام البشير، والذي استمات في الدفاع عن سلطته باستخدامه درجة غير مسبوقة من القمع، راح ضحيتها العشرات من المحتجين، فأطفأت رياح البطش العاتية، آخر شموع الأمل في الإصلاح السياسي في السودان، وقد جاء ذلك بالتزامن مع احتواء الثورات المضادة للربيع العربي. بعدها وصل كثير من الشباب السوداني لقناعة مفادها استحالة إسقاط نظام الإنقاذ بالطرق السلمية. بعد انكسار ثورة سبتمبر بدأت موجة غير مسبوقة من الهجرة المنتظمة وغير المنتظمة للشباب السودانيين، بشعار "لينج منكم من يستطيع النجاة"، وأصبح المقيم منهم بالسودان يعتبر إقامته مرحلة كمون مؤقتة ريثما يكمل إجراءات سفره الوشيك. قل الاهتمام بالعمل العام عمومًا والسياسي خصوصًا، كانت المبادرات والحركات الشبابية تتعرض للشلل تلقائياً بتوالي هجرات المبادرين، وعمت البلاد حالة من اليأس واللامبالاة والعزوف عن السياسة، عدا مناسبات محدودة مثل العصيان المدني 2016 ومواكب الأحزاب في 2018.
اقرأ/ي أيضًا: جدل الوصل والانقطاع في الثورة السودانية
حركة الهجرة الكثيفة بعد صدمة انكسار أيلول/سبتمبر كان محركها الأول اليأس من الإصلاح السياسي، وليس فقط الأزمة الاقتصادية، الوضع السياسي والاقتصادي آنذاك كانا يبعثان على القنوط، ولكن ثمة أمل بعيد؛ هنالك آمال اقتصادية على الأقل وراء البحر الأحمر في الخليج وهنالك الأمل الأوروبي العريض وراء المتوسط لمن استطاع إليه سبيلا.
أدى صعود اليمين المتطرف المناهض للهجرة في أميركا وأوروبا، لتضاؤل آمال شباب السودان في ضوء يلتمع آخر نفق المتوسط، خاصة أن الفترة التي سبقت الثورة مباشرة شهدت تصاعد الاضطرابات في ليبيا، وظهور مقاطع فيديو بشعة لتعذيب مهاجرين غير نظاميين سودانيين. بنى ترامب- وأستخدمه هنا كناية عن كل الحكومات الغربية المناهضة للهجرة وإجراءاتها- جدارًا سميكًا في وجه الهاربين من جحيم السودان الذي لم يعد يطاق. إن لحظة انتشار مقاطع تعذيب المهاجرين السودانيين غير النظاميين في ليبيا، كانت هي اللحظة التي أصبح فيها سقوط نظام البشير حتميًا، فقد انسدت آخر شبابيك الخلاص الفردي. قبلها بفترة وجيزة أدت السياسات المشددة التي اتبعتها الإدارة السعودية الجديدة، في عهد الأمير محمد بن سلمان بخصوص الهجرة، إلى عودة عشرات المئات من الشباب والمراهقين من الجنسين من السعودية، وهم الذين اعتادوا فيها على نمط حياة يعتبر ممتازاً إن قيس بحياة سودانيي الداخل، الغارقين في أزمات الخبز والوقود والنقد والدواء وبؤس البنية التحتية. هؤلاء كانو أكثر انفتاحًا على العالم من أقرانهم المحليين، وأمهر بكثير في استخدام وسائط التواصل الاجتماعي المختلفة، وقد لعبوا دوراً حاسماً في صناعة التفوق الإعلامي والتقني المشهود للثوار على النظام.
هذا ليس حصراً لأسباب نجاح الثورة السودانية طبعاً، بل ولا حتى حصر لإسهام أي فئة من فئات الشعب السوداني في الثورة. إلا أنني قد قررت تناول كل العوامل التي ساهمت في إذكاء ثورة السودانيين، وإن كنت قد بدأتها بتناول هذين العاملين، فإنني سأخصص كتاباتي القادمة للتفصيل في أسباب قيام وأسباب نجاح الثورة، أما في هذا المقال فجل ما أصبو إليه هو إبراز أثر كيف أن حالة انعدام الأمل في التغيير السياسي وتحسن الأوضاع الاقتصادية بصورة جماعية أو فردية، قد جعل خيار الثورة حتميًا بالكامل.
حالة انعدام الأمل في التغيير السياسي وتحسن الأوضاع الاقتصادية بصورة جماعية أو فردية، قد جعل خيار الثورة حتميًا بالكامل
قبل الثورة بأسابيع قليلة انتشر حديث عن تعديلات دستورية، بغية تمديد حكم البشير وسط معارضة علنية من داخل حزبه. كان عدم ترشح البشير هو آخر نسمة أمل تداعب خيال السودانيين، وهو كذلك المبادرة الإصلاحية الوحيدة التي بقيت في يد النظام بعد فشل مناورة الحوار الوطني، التي استخدمها النظام واستنزف طاقتها، في الفترة بين ثورتي أيلول/سبتمبر 2013 وكانون أول/ديسمبر2018. وقد عاد البشير بعد نفاد صبر السودانيين، للتلويح بعدم الترشح فيما يشبه حالة الصلاة يوم القيامة، وسعى لتنفيس احتقان الشباب بانتقاده العلني لقوانين شرطة الآداب الشريعية التي كان يتباهى بها، ووعده بإصلاحات للشباب تشبه إصلاحات هيئة الترفيه السعودية، مع تجاهل تام للأسباب السياسية والاقتصادية التي أوصلت غبن الشباب لمنتهاه، فأصموا آذانهم عن كل وعوده التي فات أوانها وأشاحوا بوجوههم عن مناوراته المجربة، ويمموا شطر ثورتهم، مقررين فتح بوابات الأمل السياسي التي سدها القمع المفرط في أيلول/سبتمبر 2013، فكسروا حاجز الخوف، وانقضوا على النظام حتى أنزلوه منزله المناسب من مزبلة التاريخ، وقد تم كل ذلك بقيادة الذين أوصد ترامب واليمين المتشدد في وجوههم نافذة الخلاص بالهجرة (الراغبون في الارتقاء)، والذين أعادتهم سياسات ابن سلمان لمستويات من شظف العيش لم يعتادوا عليها. ومن المعروف أن الذين ساءت أوضاعهم فجأة وأصحاب التطلعات العالية هم دائماً أكثر فئات المجتمع توقًا للتغيير الجذري.
اقرأ/ي أيضًا:
أي إعلام يريد السودان بعد ثورته؟
سؤال الأمل وأزمة القيادة في زمن الثورة