ما من شك أن الفترة الانتقالية التي يمر بها السودان في هذه الأيام هي من أصعب الفترات، ولربما اختلف البعض في أنها ربما تكون أصعب من فترة إسقاط النظام ونزف الدماء ورهق المعتقلات والسجون، إن لم تكن مساوية لها في الشدة. ولربما كان هؤلاء محقين فيما ذهبوا إليه، إلا أن ما يمكن أن يتفق عليه الغالبية، هو أنها فترة لا يمكن مقارنتها ألبتة إلا مع فترة إنجاز الثورة إسقاط النظام، لأن الثورة لا معنى لها من دون نجاح هذه الفترة الحساسة من عمر الأوطان التي يتوق بنوها للحرية.
الإعلام الذي يرغب فيه الناس في الفترة الانتقالية، هو الإعلام الذي يمنح صوتًا لأولئك الذين لا تصل أصواتهم للناس، ولا يسمع بمعاناتهم أحد، ولا يدرك الناس أوجاعهم
هدم لأجهزة الإعلام وتغييب متعمد لصوت الشعب
شهد السودان طيلة ثلاثة عقود حكمًا شموليًا تسلطيًا مقيتًا، عاث في البلاد فسادًا لم تشهد مثله في تاريخها القديم والحديث، وكعادة كل النظم التسلطية فإن الكلمة تصبح جريمة تستحق عليها أن تكتم أنفاسك إلى الأبد. والبشير كغيره من الديكتاتوريين كان أول ما فعله هو إغلاق الصحف ومصادرتها، واحتلال مباني الإذاعة والتلفزيون السودانيين، ووكالة السودان الرسمية للأنباء. جميع هذه المؤسسات وجد من لا ينتمون لحزب البشير/الترابي أنفسهم خارجها في ليلة وضحاها، لتبدأ حملة شعواء من التغييرات في مهامها ومؤسساتها ووجبات عملها، لم يسلم منها أي شيء. كل شيء مسخ إلى ضده تمامًا، فالتلفزيون الذي كان ينقل ما يحتاج المواطن إلى معرفته من أخبار، ويقوم بدور تثقيفي وتنموي، صار أداة لاستعراض النظام عضلاته أمام مواطنيه، والإذاعة التي كانت تبث أخبارًا ينتظرها الناس ليديروا موجة أجهزة الراديو عليها دون أن تفوتهم عبارتها الافتتاحية "هنا أمدرمان" صارت منبرًا يسمعهم منه خلاله النظام السباب والشتائم، ويذكرهم أنه ما أتى إلا ليصحح إسلامهم الفاسد، لتبدأ بعده موجة من المحتوى الرديء والركيك والمرتجع تردده ألسنة مذيعي ومقدمي البرامج، وتستضيف فيه رموز النظام وحدهم ليرقصوا في مسرح الرجل الواحد.
تدجين كامل يصعب الخلاص منه
على مدى ثلاثة عقود كانت المؤسسات الإعلامية والصحف السودانية قد أفرغت تمامًا من كوادرها المؤهلة إلا القلة، صار لا يسمعها أحد، ولا يحفل بها إلا ضجرًا من لا يملك وسيلة غيرها لمعرفة ما يجري في العالم. ولا أدل على حالة الخواء والبوقية المنتنة التي كانت تلعبها أجهزة إعلامنا، من موجة السخط التي ما تزال حتى الآن تعتري كل سوداني مع كل ذكر لمؤسسة تلفزيون السودان. فحتى بعد سقوط النظام، وذهابه إلى مزابل التاريخ، لم يتمكن التلفزيون السوداني من التخلص من تركة النظام البائد، في الاهتمام بسفاسف الأمور وصغائرها بينما كبائرها حية تسعى بين الناس. حالةٌ من التدجين الكامل هي أقل ما يمكننا أن نصف به تلفزيون السودان، وحتى حينما تمت إقالة مديره السابق "إسماعيل عيساوي" لم يستشعر الناس أثرًا لذلك التغيير، مما يوضح فداحة الكارثة التي يعاني منها السودان في هذا الجانب.
الشائعات تفيض على جنبات الطريق، تمامًا مثلما كان الحال في عهد النظام البائد، تختلق القصص ويتم ترويجها بكثافة، دون أن ينقل تلفزيون السودان أو صحفه، ما عدا القلة التي تحررت بعد سقوط النظام، الحقيقة للناس.
إن ثورة كانون الأول/ديسمبر المجيدة كانت تمامًا ثورة ضد العهد الذي سيطر عليه التزييف والتطبيل للأنظمة والأشخاص، ثورة من أجل "الحرية والسلام والعدالة"، ولا حرية دون إعلام حر، يمارس رقابته على أجهزة الحكومة ويملك المواطن الحقائق كما هي دون تزييف أو تذويق. فبدون الإعلام الحر الذي يسعى وراء الحقيقة بينه وبين الناس شرف مهنة الصحافة المقدس، لا يمكن لأكبر إنجازات الثورة "الحكومة المدنية الانتقالية" إلا أن يتقزم، لا وبل يمكن أن يجهض، وبأيدي من حققوا الثورة أنفسهم، فقط اتركهم لهذه المؤسسات الإعلامية الشائهة الموجودة الآن وفي غضون أيام لن تجد شيئًا يسمى حكومة مدنية انتقالية.
أي إعلام نريد؟
الإعلام الذي يرغب فيه الناس في الفترة الانتقالية، هو الإعلام الذي يمنح صوتًا لأولئك الذين لا تصل أصواتهم للناس، ولا يسمع بمعاناتهم أحد، ولا يدرك الناس أوجاعهم، إعلام يصل للذين ظلت صرخاتهم مكتومة في داخل حناجرهم دون أن تخرج للناس، إعلام يذهب ليسمعنا قضايا الفئات المحرومة ويروي لنا قصصها، إعلام ينقل للمواطن ما يحتاج لمعرفته عن خطط حكومته للتنمية والتعليم والخدمات وكل ما يسهل معاش الناس، إعلام يتعامل مع المسؤولين الحكوميين كأشخاص مكلفين يجب أن يحاسبهم ويصبح صوتًا للمواطن الذي تُدفع من الضرائب المفروضة عليه رواتب موظفي الحكومة ويشتري خدمة الأخبار من الإنترنت كما يشتري الصحيفة ليعلم الحقيقة.
الإعلام الذي نطمح إليه في السودان هو إعلام يقوم على تعاقد مقدس بين الإعلامي وبين المواطن لا الحكومة، إعلام يكون في خدمة المواطن أولًا وأخيرًا
إذًا فالإعلام الذي نطمح إليه في السودان هو إعلام يقوم على تعاقد مقدس بين الإعلامي وبين المواطن لا الحكومة، إعلام يكون في خدمة المواطن أولًا وأخيرًا، يفرد مساحاته للأصوات الحرة التي لا تقيدها أي ولاءات سوى الولاء لثورة هذا الشعب وأهدافها السامية، ويتيح منصاته ومنابره لجيل الثورة الذي ضحى بكل ما يملك، من أجل هذا الوطن، لرفاق الشهداء، شهداء ثورة ديسمبر حتى يحيوا فينا ذكراهم وتضحياتهم، لأسرهم التي ستظل تذكرنا بوصاياهم، ولوصاياهم التي ما تجاوزت حدود الوطن. هذا هو الإعلام الذي يطمح إليه السودان لينهض، وهو ما نحاول أن نكرس له تجربتنا هذه بإطلاق موقع "الترا سودان" لينضم إلى قائمة المشاعل الجديدة التي سبقته "الترا تونس"، و"الترا فلسطين"، و"الترا عراق"، و"الترا جزائر" التي أشرقت جميعها من مشروع "الترا صوت" الإعلامي الشبابي، والذي نطمح أن يكون إضافة نوعية للمشهد الإعلامي في سودان ما بعد الثورة.
اقرأ/ي أيضًا:
المؤسسات الإعلامية والصحفية.. مهام المرحلة وصلاحيات الوزير
"خفافيش الظلام" تنقلب على عيساوي.. إقالة مدير التلفزيون السوداني