ما أن وصل التيار الإسلاموي إلى السلطة في السودان بمساندة من الجيش في حزيران/ يونيو 1989، مضى مباشرة إلى تأسيس دولة موازية أصبحت اليوم تشكل عبئًا ثقيلًا على الحكومة الانتقالية، التي جاءت بعد الثورة الشعبية التي أطاحت بنظام الرئيس المعزول عمر البشير، والقابع في السجن المركزي بمنطقة كوبر شمال العاصمة السودانية، ويحاكم في قضايا الاحتفاظ بالنقد الأجنبي مخبأً داخل مقر إقامته.
قضية البشير لدى المحكمة تعكس أيضًا امتداد الدولة الموازية من أعلى هرم السلطة إلى أدناه، فالمخلوع أدلى بمعلومات للقاضي أثناء محاكمته الجارية الآن، عن احتفاظه بالنقد الأجنبي في منزله لإدارة شؤون إنسانية. هذا الإجراء يعتبره قانونيون مخالفًا ولا يمكن تبريره، كما إنه يعكس تمامًا "الدولة الموازية " التي ورثها السودانيون من المؤسسات العسكرية، مرورًا بالاقتصاد والمؤسسات الاجتماعية وحتى السياسية لم تنج من فكرة تكوين أحزاب موازية ظل النظام البائد يدفع بها للواجهة كمعارضة مقربة من السلطة الحاكمة.
واحدة من الأسباب التي أدت إلى إضعاف سلطة المؤتمر الوطني الحزب الحاكم السابق، أنه عمل على تأسيس مؤسسات موازية لمؤسسات الدولة، بدلًا من تقوية المؤسسات الرسمية
واحدة من الأسباب التي أدت إلى إضعاف سلطة المؤتمر الوطني الحزب الحاكم السابق، أنه عمل على تأسيس مؤسسات موازية لمؤسسات الدولة، بدلًا من تقوية المؤسسات الرسمية. فمثلًا، لم يعترض من يطلقون على أنفسهم "عقلاء الحزب الحاكم" سابقًا على تشكيل مليشيات موازية للمؤسسة العسكرية، نالت نصيبًا من ميزانية الدولة، تقارب سنويًا ملايين الدولارات، ثم تطورت العملية لاحقًا إلى تشكيل قوات عسكرية وضعت لها تشريعات ومؤسسات وبنود وتسليح، حتى وجد الحزب الحاكم نفسه خارج معادلة الحكم بإعلان تلك القوات حيادها تجاه الثورة الشعبية.
اقرأ/ي أيضًا: رِفقًا بـ"حمدوك": ساحر بلا عصاة أو معجزات (1-4)
الدولة الموازية لم تقف عند حد المؤسسات العسكرية، فالاقتصاد أيضًا لم ينج من أنيابها المغروسة بقوة في جسد بلاد منهكة بالحرب الأهلية، حيث أسس النظام البائد مئات الشركات الخاصة المملوكة للمؤسسات العسكرية والأمنية والشرطية، وتحولت إلى إمبراطوريات لا يمكن الاقتراب منها، ولا تصل إيراداتها للخزانة العامة، ناهيك عن تبعيتها لوزارة المالية الاتحادية أو وقوعها تحت قائمة الجهات التي يحق للمراجع العام النظر في ميزانياتها، والأدهى أنها امتلكت السلطة والمعلومة والحماية والتشريعات، بالتالي توارى القطاع الخاص خلف هذه الشركات العملاقة، وارتضى بـ"الفتافيت" كما يطلقون على الأرباح الصغيرة في المرويات السودانية الدارجة.
لم تضع الوثيقة الدستورية الموقعة بين قادة الجيش وقوى الحرية والتغيير، حدًا لهذه الدولة الموازية وخلت النقاشات التي جربت خلف الأبواب المغلقة، بين المفاوضين من قوى التغيير والعسكريين، من الإشارة إلى وجوب إصلاحات واسترداد للدولة الموازية، التي تتوزع بين الاقتصاد والمؤسسة العسكرية.
ربما فضل مفاوضو قوى التغيير عدم التصدي لهذه المهمة العسيرة في ذلك القوت الحساس من عمر الثورة، وهي مهمة إلغاء الاقتصاد الموازي والقوات العسكرية الموازية، ودمجها إلى الجيش الوطني، رغم أن قادة الجيش بين الفينة والأخرى يدلون بتصريحات عن إصلاحات ستطال المؤسسة العسكرية برمتها، وليس واضحًا بعد ما إذا كانت تشمل وعودهم "المطالب الملحة" أو وضع خطة وطنية مستقلة، حول كيفية تذويب تلك القوات التي تتشكل من آلاف الجنود، أي خطة لا تعتريها "التكتيكات السياسية والأيديولوجية".
اكتفى عضو مجلس السيادة الفريق أول "شمس الدين الكباشي" بتصريح مقتضب ومختصر عن اعتزام العسكريين إجراء تغييرات جذرية على المؤسسة العسكرية، دون أن يوضح ما إذا كان الجيش السوداني سيعود جيشًا واحدًا في بلاد تضم خمسة جيوش كما صرح مدير المخابرات السابق صلاح قوش، بالتزامن مع الاحتجاجات الشعبية في كانون الثاني/يناير الماضي.
ويرى عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي صديق يوسف في حديث لـ"ألترا سودان" أن الدولة الموازية لاتزال تسيطر على الاقتصاد، بالتالي لا يمكن أن يتحسن الوضع الاقتصادي دون تبعية تلك الشركات الحكومية إلى وزارة المالية فورًا، وتوظيفها لاستيراد السلع الأساسية استباقًا لإجراء إصلاحات اقتصادية تشمل هيكلة ودمج تلك الشركات ومؤسسات الحكومة.
ويضيف يوسف "من يسيطرون على سوق الاستيراد هم رموز النظام، إذا قررت تفكيكهم ستحدث ندرة في السلع الأساسية، بالتالي لا بد من استيراد الشركات الحكومة للسلع لتوفيرها وقبل أيلولتها إلى وزارة المالية، بدلًا من تبعيتها الحالية للمؤسسات العسكرية والأمنية".
اقرأ/ي أيضًا: السودانيون وعبء الحرية الثقيل
يظل إنهاء الحرب الأهلية مرتبطًا أيضًا بمصير تلك المؤسسات الموازية، فبخصوص المؤسسة العسكرية، يريد قادة الحركات المسلحة التي قاتلت الدولة المركزية، بقبضتها العسكرية والأمنية لسنوات، رؤية تلك المؤسسة وهي تعبر عن وتمثل جميع قطاعات الشعب السوداني واقاليمه، كما كانوا يطالبون باستمرار في المحادثات المتعثرة خلال السنوات الماضية.
لم تضع قوى التغيير التي تقود الحراك الشعبي في السودان، خطة شاملة لتفكيك الدولة الموازية، لكن متحدثها الإعلامي وجدي صالح قال للصحفيين الثلاثاء الماضي، أن الحكومة الانتقالية تمضي في تفكيك دولة المؤتمر الوطني في هدوء.
انتهى تصريح صالح عند هذا الحد المقتضب، لكن عندما تأتي الأسئلة الكبرى حول كيفية عمل الحكومة الانتقالية المنزوع عنها سلطاتها المتعلقة بوجود هيئة قضائية مستقلة، وقدرتها على تفكيك الدولة الموازية، تبدو قوى التغيير في غاية الحرج، إذ لا تملك أي إجابة على هذه الأسئلة، كونها أيضًا تعاني من الترهل والتباين السياسي وأن ما يجمعها هو تحالف من الحد الأدنى فقط.
المشهد الماثل الآن في السودان يوحي بأن هناك من هم داخل التحالف القائد للثورة الشعبية، من يريد التناغم مع هذه الأوضاع الموازية، لكن هناك أيضًا من يدعو إلى الحلول الراديكالية والتي يصعب تحقيقها أيضًا في ظل تركة النظام البائد التي خلفها في مؤسسات صنع القرار، وورثتها الحكومة الانتقالية، فهي أشبه بمن يمشي في حقل من الألغام، هذا كما أن صناع القرار في الوقت الراهن (الحكومة الانتقالية) ينقسمون بين الشق العسكري الذي يحمل رؤيته الخاصة للحل، والشق المدني الذي يسعى إلى تطبيق نموذج ثوري تجنبًا لسخط قواعده الجماهيرية التي تحلم بإنهاء الدولة الموازية .
لم تضع قوى التغيير التي تقود الحراك الشعبي في السودان، خطة شاملة لتفكيك الدولة الموازية
كان العديد من النشطاء السياسيين والمشتغلين بالشأن العام السوداني، يريدون معرفة تفاصيل أكثر عن كيفية تفكيك الدولة الموازية، المتحكمة في الشقين الاقتصادي والعسكري، لأن البنود المدرجة في الوثيقة الدستورية الانتقالية فضفاضة أكثر من كونها واقعية ودقيقة في التفاصيل، فعلى سبيل المثال حينما يأتي النقاش عن وضعية الشركات المملوكة للمؤسسات العسكرية والأمنية، فإن الوثيقة الدستورية خلت من أي الإشارة إليها، وربما فضلت القوى الحزبية والمهنية القائدة للثورة الشعبية، تمرير الوثيقة دون التطرق إليها جملة أو تفصيلًا، ما يعني أن تشوهات الاقتصاد ستظل مستمرة، وحتى إن اضطر وزير المالية الحالي القادم من أروقة البنك الدولي، لتطبيق "روشتة" جذرية لمعالجة الاقتصاد سيصطدم آجلا أم عاجلًا بمؤسسات الدولة الموازية.
اقرأ/ي أيضًا:
جدل الوصل والانقطاع في الثورة السودانية
"اصحى يا ترس".. حين يعجز الموت أمام عظمة الواجب