أطلقت منظمة ذا سنتري (The Sentry) الأمريكية قبل نحو أسبوعين تقريرًا جديدًا كشفت فيه النقاب عن فساد النخبة الحاكمة من تنظيم الحركة الشعبية بجنوب السودان، ورصد التقرير الذي حمل عنوان "نهب جنوب السودان" (The Taking of South Sudan) توثيقًا لحالات فساد مؤسسي وتبييض أموال وتلاعب بمقدرات الدولة حديثة العهد بالاستقلال، ودور الشركات العاملة بالجنوب والابعاد الاقليمية والدولية وأثرها في إطالة أمد الحرب الأهلية المندلعة منذ العام ٢٠١٣، اعتمادًا على معلومات ووثائق واتصالات أجراها معدو التقرير.
وجاء التقرير المُذكور في (60) صفحة، بمقدمة وملخص تنفيذي، ومجموعة توصيات لصناع القرار في واشنطن والدول المهتمة بجنوب السودان.
واستند التقرير على مراسلات وقائمة بالمصادر والمراجع مثبتة في نهاية التقرير.
خلص التقرير من خلال رصده لحالات الفساد وغسيل الأموال وفساد نخب الحركة الشعبية وعلاقاتها الخارجية، لدور هذه النخبة في إطالة أمد الحرب الأهلية بالجنوب
وخلص التقرير من خلال رصده لحالات الفساد وغسيل الأموال وفساد نخب الحركة الشعبية وعلاقاتها الخارجية، لدور هذه النخبة في إطالة أمد الحرب الأهلية بالجنوب، وهي الحرب التي أودت بحياة نحو (400) ألف شخص بحسب دراسة صدرت عن كلية الطب بجامعة لندن أيلول/سبتمبر ٢٠١٨، فضلا عن نزوح آلاف، إضافة لثلاثة ملايين لاجئ في دول الجوار.
اقرأ/ي أيضًا: اتفاق السلام.. هل ينجو جنوب السودان من الفوضى؟
ولذا لم يكن من المفاجئ للمتابعين ومن بينهم كاتب هذه السطور، احتواء التقرير على أوجه الفساد في الدولة، فهناك العديد من التقارير التي أشارت سابقًا إلى حالات فساد نخب الحركة الشعبية وسوء إدارتهم للحكم، ما أدّى لاندلاع المواجهات فيما بينهم منذ كانون أول/ديسمبر ٢٠١٣. ولكن الجدير بالذكر هنا أن التقرير المشار إليه أبرز جوانب ظلت مخفية، إلى جانب رفع الغطاء عن سرية علاقات هذه النخب بشركائهم إقليميًا ودوليًا، فعلى سبيل المثال، ظل دور الشركات الأجنبية مثل مؤسسة البترول الوطنية الصينية وشركة بتروناس الماليزية، العاملتين في صناعة النفط في جنوب السودان، طي الكتمان، فأبرز التقرير هذا الدور وعلاقة الشركتين بتمويل الحرب وتسليح وإمداد المليشيات المساندة للنظام في حربها ضد المعارضة. وهو ما يفسر علاقة الصين بالنظام.
فقد أعلن العام الماضي خلال زيارة سلفا كير للصين، إبرامه لاتفاقية مع الحكومة الصينية لتنفيذ طرق سريعة بهدف ربط العاصمة جوبا بالولايات، مقابل تحصيل الصين أموالها عن طريق أخذ 10 آلاف برميل في اليوم الواحد من البترول المنتج، ولم يتضح تفاصيل هذا الاتفاق، وكذلك الكثير من الأسئلة المتعلقة به.
ويكشف هذا الاتفاق عدم ثقة الرئيس سلفا كير في حكومته، كما يعكس مدى استفحال الفساد في مؤسسات الدولة العامة، فلا توجد إحصائيات أو أرقام دقيقة لحجم الأموال المنهوبة منذ توقيع اتفاقية السلام الشامل عام ٢٠٠٥، هي كانت ولا تزال من أسرار الدولة التي لا يجب الاقتراب منها، وإلا فمصير من يتحدث عنها السجن والتشريد والقتل.
ولكن يكفي الاطلاع على مؤشر منظمة الشفافية الدولية وتذيل جنوب السودان لتصنيفها منذ إعلان قيام الدولة قبل ثماني سنوات.
وفي السياق ذاته، أورد تقرير سابق أعدته جماعة صحفية كينية استقصائية تدعى (The Profiteers) تورط مجموعة من المتنفذين بالحكومة وآخرين من المعارضة المسلحة فصيل رياك مشار، في قضايا تهريب وغسيل أموال مع شركاء إقليميين في دولتي أوغندا وكينيا الجارتين، كما توجد حالات فساد أخرى في الدولة، أشهرها فضيحة استيراد الذرة ومشروع استيراد ماكينات الزراعة الآلية لتأمين الأمن الغذائي، وغيرها من المشاريع، التي لم يتم إنجازها، ولعلهم ذكروا ضمن إبداعهم كمرتكبي فساد، بأنهم قاموا بكامل واجبهم أمام المسؤول الكبير.
إن قضية الفساد في ظل النظام الريعي القائم على كسب موارد مالية ضخمة، دون إنتاج حقيقي للاقتصاد، ساهم بشكل مباشر في خلق ثقافة جديدة وسط نخب الحركة الشعبية المتنفذة، فعائدات البترول أضحت موضع تنافس بين هذه النخب، كما هدفت النخب للسيطرة على مداخيل الدولة الأخرى أيضًا، فعلى الرغم من اعتماد الدولة على عائدات البترول بما يناهز 90% من الميزانية العامة، إلا أن الدول الصديقة لجنوب السودان قدمت دعومات مالية بمئات الملايين من الدولارات، كما تتملك البلاد ثروات طبيعية أخرى كالذهب والأخشاب وغيرها، أصبحت ميدانًا للنهب والسرقة.
وتلقت قيادة الحركة الشعبية منذ توقيع اتفاقية نيفاشا، نصائح من أصدقائها للحيلولة دون وقوعها في براثن الفساد، والاعتماد على النفط فقط، كونه لا يجلب المنفعة لعامة الشعب، بل سيتسبب في مزيد من الاقتتال الداخلي.
وبلا شك، لم تكن تلك النصائح رجما بالغيب، وإنما كانت وفق قراءة تجارب دول أخرى، ولذلك نادوا بتفادي أخطاء تلك الدول التي شهدت نزاعات على الموارد وقضايا فساد وإفساد المجتمع السياسي، فالقضية إذًا، لم تكن مجرد نصح، بل تقديم دروس لعبور الفترة الانتقالية، ومن ثم تأسيس نظام يقوم على المحاسبة المالية وترشيد الصرف الحكومي، على غرار دول كثيرة نجحت في تنظيم مواردها الأولوية، كما في الحالة النرويجية، ودول الخليج التي أنشأت صناديق ثروة سيادية لإدارة عائداتها المالية والاستثمار في هذه الموارد.
وبالتأكيد، لا نُطالب بحدوث معجزة الآن أو اجتثاث جذور الفساد بتعدد مستوياته في مؤسسات الدولة العامة والخاصة، فضلا عن علاقات القربى والعشائرية السائدة المساندة للفساد، ولكن هناك خطوات وآليات يجب الاعتماد عليها، إذا أردنا تجاوز عثرات البدايات، والشروع في رسم خارطة طريق بناءً على رؤى وإستراتيجيات واضحة، والتقيد الصارم بها، وإعمال مبدأ المحاسبة وتطبيقه على الكل، دون استثناء. وفي المقابل، إذا استمرت النخب الحاكمة بجنوب السودان في فسادها، فسنبقى في فلك الدائرة الشريرة من الحروب والقتل والتشريد مثل دول كثيرة، امتلكت مقومات البناء والنهوض ولكنها فشلت بفعل الفساد وضعف نظامها القضائي وغياب الإرادة السياسية مثل الكنغو وفنزويلا وغيرهما من الدول.
وتعتبر منظمة (ذا سنتري) التي أسّسها الناشطان الممثل الأمريكي المعروف جورج كلوني وجون بريندرقاست مؤسّس منظمة كفاية، من المنظمات المؤثرة على الرأي العام ومتخذي القرار داخل الولايات المتحدة، وقد قادت المنظمة واحدة من أكبر الحملات الإعلامية ضد انتهاكات حقوق الإنسان في إقليم دارفور بدولة السودان، في عهد الرئيس المخلوع عمر البشير.
التقرير ليس الأول من نوعه فقد سبق للمنظمة نشر تقارير مشابهة، أكدت فيها تورط قادة الحزب الحاكم بجنوب السودان وحلفائهم في دول الجوار الإقليمي، في قضايا فساد ونهب لثروات البلاد، في نطاق نشاط المنظمة واهتمامها بدول المنطقة منذ سنوات.
اقرأ/ي أيضًا:
8 سنوات على استقلال جنوب السودان.. فشل تجربة بناء الدولة في مهدها
جنوب السودان.. صراع متجدد في دولة هشة