04-نوفمبر-2019

شباب سودانيون ناجون من قوارب الموت (Getty)

من أكبر الأخطاء التي يمكن أن يتم ارتكابها في أي عملية سلام، هو أن يكون الغرض منها فقط إيقاف العدائيات ووضع بنى سياسية جديدة. أن يتم ذلك دون الوضع في عين الاعتبار تصميم إستراتيجيات شاملة تضمن تحقيق السلام العادل واستدامته على الأرض وانعكاسه بشكل واضح على المواطنين، سواء في مناطق النزاعات أو غيرها من المناطق التي قد تحوي الشروط اللازمة لاندلاع الحرب والنزاعات المسلحة مجددًا. وربما من أهم الأسباب التي قد تؤدي إلى هذا الخطأ الفادح والمتكرر في اتفاقيات السلام في السودان، هو انفراد أطراف النزاع السياسية والعسكرية، بوضع بنود الاتفاقيات والإجراءات المترتبة عليها، دون توسيع نطاق المشاركة العامة في جميع مراحل عملية السلام لضمان شموليتها ومصداقيتها. فمن البداهة أن السلام الحقيقي هو السلام الذي يمثل المواطنين ويخاطب الجذور الحقيقية للمشاكل المؤدية للحرب، وذلك أمر ذاتي الإثبات في الحالة السودانية؛ فما أن يتم توقيع اتفاقية سلام حتى تندلع الحرب مجددًا، بسبب توقف عملية السلام على توقيع الاتفاقيات وتقسيم المناصب، دون إحلاله على الأرض وانعكاسه على معاش الناس.

يستدعي توسيع نطاق المشاركة العامة، إشراك أطراف أخرى في جميع مراحل عملية السلام قبل وأثناء وبعد التوقيع على الاتفاقيات

وتوسيع نطاق المشاركة العامة يستدعى إشراك أطراف أخرى في جميع مراحل عملية السلام قبل وأثناء وبعد التوقيع على الاتفاقيات. أطراف تضمن أن تتم عملية سلام جادة وحقيقية، تزيل المظالم وتؤسس لسلام مستدام. ولربما من أهم هذه الأطراف هي منظمات المجتمع المدني، والتي أثبتت تجارب السلام حول العالم أن مشاركاتها كانت دائمًا تنعكس بشكل إيجابي على تحقيق سلام شامل، عادل ومستدام.

اقرأ/ي أيضًا:"مدنياااااااااو".. مقدمة لمرجعية أكاديمية

ومنظمات المجتمع المدني هي المنظمات غير الحكومية، وغير الربحية، الحاضرة في الحياة العامة للناس والمعبرة عن مصالح وقيم أعضائها، أو قيم أشخاص آخرين بناءً على اعتبارات أخلاقية أو سياسية أو ثقافية أو علمية أو دينية أو إنسانية. وهي تشمل جملة واسعة من المنظمات مثل المنظمات السكانية ونقابات العمال ومجموعات السكان الأصليين والمنظمات الخيرية، والمنظمات المبنية على المعتقدات والروابط والمؤسسات. وهي بطبيعة الحال تمارس أنشطة تهدف إلى تخفيف المعاناة عن الناس وتمثيل مصالح الفقراء وحماية البيئة وتوفير الخدمات الاجتماعية الأساسية والقيام بالتنمية. وهي دومًا تسعى لتحقيق المصلحة العامة.

ويمكن تقسيم منظمات المجتمع المدني إلى نوعين بناءً على طبيعة عملها؛ فبعضها منظمات تنفيذية يتعلق عملها بتصميم وتنفيذ المشاريع التنموية. والبعض الآخر منظمات دعائية تقوم بالدعاية والضغط والدفاع عن قضايا معينة، سواء كانت قضايا تتعلق بشرائح مستضعفة أو مظلومة أو مهمشة، أو قضايا تتعلق بالبيئة والثقافة والفنون.

ولربما من هذا التعريف يمكننا التكهن بالأدوار المهمة والمحورية التي يمكن أن تقوم بها منظمات المجتمع المدني في عملية السلام، في كل مراحلها ومستوياتها. بالإضافة لأهميتها في توسيع نطاق المشاركة العامة.

اقرأ/ي أيضًا: أي إعلام يريد السودان بعد ثورته؟

لا يقتصر دور منظمات المجتمع المدني في بناء وإحلال السلام فقط، وإنما يمكنها أن تشارك في التمهيد لعملية السلام نفسها على مستوييها السياسي والقاعدي. ويكون ذلك عن طريق تقديم المشورة للأطراف السياسية والمدنية، وإقامة الورش الحوارية التي تساعد على تقريب وجهات النظر بين الأطراف المتنازعة، وبناء شبكات العمل القاعدي الأكثر معرفة وخبرة بتمظهرات النزاعات والمظالم والمرارات. كما أنها يمكن أن تشارك في فتح الطريق لمبادرات التفاهم وبناء العلاقات بين جميع الأطراف على كل المستويات. وأن تقوم بالضغط بالأساليب المدنية والقانونية، للدفع باتجاه الحل السلمي للنزاعات المسلحة. وأيضًا فضح التجاوزات والخروقات لحسن النوايا بين الأطراف، وتقصي الحقائق، ومراقبة أوضاع حقوق الإنسان.

وبالنسبة لاتفاقيات السلام نفسها؛ فإن منظمات المجتمع المدني وبطبيعة اختصاصاتها المتنوعة، يمكنها أن تلفت النظر لمسائل تتعلق بالفئات الخاصة والقضايا التي قد يتم إغفالها في الاتفاقات الثنائية الفوقية. تلك القضايا الجوهرية والتي عادة ما تتجاهلها الأطراف السياسية المتعجلة، مثل قضايا المرأة والبيئة وغيرها من القضايا المهمة لتحقيق سلام عادل ودائم. فمنظمات المجتمع المدني يمكنها الضغط لوضع هذه القضايا في عين الاعتبار ضمن بنود الاتفاقيات والمعاهدات الخاصة بالسلام. وهو الأمر الذي سينعكس بكل تأكيد على إحلال السلام و شمول العملية.

وفي إحلال وبناء السلام؛ فبعد تحليل العوامل المسببة للنزاعات، يمكن لمنظمات المجتمع المدني بالتعاون مع أصحاب المصلحة والأطراف الموقعة على الاتفاقيات، يمكنها تنمية الإستراتيجيات والحلول الممكنة لمعالجة تلك العوامل، قبل أن تتفاقم التوترات والمظالم على الأرض، مما يهدد عملية إحلال السلام برمتها. ذلك بالإضافة لتكوين ودعم القنوات بين المواطنين والمؤسسات الحكومية، والضغط عليها باعتبارها أجسامًا رقابية تقوم على مراقبة أداء المؤسسات الحكومية والمفوضيات المختلفة حسب توجهات كل منظمة والقضايا التي تعالجها. كما أنها في الاتجاه الآخر، يمكنها أن تتعاون مع الحكومات على تنزيل برامج السلام التنموية في جميع المجالات، ضمن عمليات بناء السلام وترسيخه.

اقرأ/ي أيضًا: السلام الشامل.. بوابة الخروج من الدائرة الجهنمية

أما على المستوى القاعدي؛ فأدوارها يمكن أن تتمثل في بناء الشراكات مع المجموعات المحلية وتطوير برامج تهدف لمعالجة النزاعات وبناء السلام. كما أنها يمكن أن تعمل على التثقيف في مجال القضايا المتعلقة بالسلم الاجتماعي ونشر ثقافة الحلول السلمية والمدنية للمشاكل الاجتماعية، وذلك عبر وسائلها المختلفة المتمثلة في الإعلام البديل والفنون والفعاليات الثقافية وغيرها. كما أنها يمكن أن تعمل على مخاطبة المرارات التاريخية بشكل بنَّاء والمشاركة في مبادرات المصالحة. كما أنها يمكن أن تنخرط في حماية الأفراد والشرائح المعرضة والمهددة، وتبني قضاياها، وتمكين وتعزيز دور المرأة في المجتمعات المحلية، والمشاركة في تنسيق ودعم برامج إعادة الدمج والتسريح للمقاتلين، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي لضحايا الحرب والنازحين.

لا يمكن حصر جميع الأدوار التي يمكن أن تقوم بها منظمات المجتمع المدني بأشكالها وتخصصاتها المختلفة وأساليب عملها الإبداعية والمتجددة

على أي حال، لا يمكن حصر جميع الأدوار التي يمكن أن تقوم بها منظمات المجتمع المدني بأشكالها وتخصصاتها المختلفة وأساليب عملها الإبداعية والمتجددة. ولكن وباعتبار دورها التعويضي والتكميلي للبرامج الحكومية، بالإضافة لطبيعتها المدنية؛ فإن أهميتها بالنسبة لبناء وإحلال السلام لا يمكن التقليل من شأنها. خصوصًا في واقع معقد وشائك مثل الواقع السياسي والاجتماعي السوداني. كما أنها لو لم يكن لمشاركتها فضيلة سوى توسيع وشمول السلام وإشراك الأطراف المدنية والأجسام القاعدية وأصحاب المصلحة في صياغة وتنفيذ بنود الاتفاقيات، وتمثيل مصالح الفئات الخاصة والمهمشة، الأمر الذي يحافظ على استدامة السلام؛ فهذه الفضيلة لوحدها تكفيها. وهو الأمر الذي لاحظته وأوصت به عدد من المنظمات الدولية وبينته تجارب السلام السابقة المحلية والعالمية، والتي أظهرت أهمية إشراك منظمات المجتمع المدني في عمليات السلام الناجحة وتحقيق سلام مستدام، وهو الأمر الذي نتمنى أن ينتبه له صانعو القرار من جميع الأطراف في عملية السلام الجارية في بلادنا، والتي نتمنى أن تكون الأخيرة.

 

اقرأ/ي أيضًا

قوى الحرية والتغيير.. أداء مخيب للآمال

عن وجوه السودان الأخرى