تلقفت وسائل الإعلام العالمية، تصريحات وزيرة الخارجية السودانية مريم الصادق المهدي، بموافقة مجلس الوزراء على تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية -تلقفتها بحماس زائد، خصوصًا أنها تزامنت مع زيارة المدعي العام للمحكمة الجنائية كريم أسد خان للخرطوم، والذي أعلن أنه سيتناول خلال زيارته التي تستمر لسبعة أيام، "المسائل المتعلقة بالتعاون بين المحكمة والسودان".
تتلقف وسائل الإعلام الأنباء عن الموافقة على تسليم المطلوبين بحماس زائد، ولكن هل من جديد يذكر في تصريحات وزيرة الخارجية الأخيرة؟
قلت تلقفت وسائل الإعلام التصريحات بـ"حماس زائد"، لأن لا جديد فيها يذكر، سوى الإعلان عن إجازة مجلس الوزراء لمشروع قانون الانضمام لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وحتى هذا الإعلان ليس بالجديد، فقد سبق وأن كشف مجلس الوزراء عن إجازته لمشروع القانون في اجتماعه الدوري في الثالث من آب/أغسطس الجاري، وذلك بغرض عرضه على الاجتماع المشترك بين مجلس الوزراء ومجلس السيادة. وهو الاجتماع الذي صار يعرف باسم "الجسم التشريعي المؤقت" منذ دخول الوثيقة الدستورية حيز التنفيذ في العام 2019.
اقرأ/ي أيضًا: السياسات الاقتصادية للحكومة وأسئلة معاش الناس
ومن الطبيعي أن تتلقف وسائل الإعلام مثل هذه الأخبار بحماس زائد، فتعقيدات المشهد السياسي في السودان مربكة حتى للمتابعين والفاعلين في العملية السياسية بالداخل. ولكن ليس هنالك جديد يذكر في الإعلان، فقد سبق وأن أعلن عن ذلك مسؤولون بالحكومة الانتقالية وقياديون بقوى الحرية والتغيير "الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية" وحتى حركات الكفاح المسلح الموقعة على اتفاق سلام السودان، حيث عدّت تسليم البشير وبقية المطلوبين ضمن أهم استحقاقات العملية السلمية.
ولكن، تظل موافقة مجلس السيادة الانتقالي أكثر أهمية من إجازة مجلس الوزراء لتسليم المطلوبين للجنائية الدولية، فموافقة مجلس الوزراء على تسليم المطلوبين ليست هي الخطوة الأخيرة والحاسمة في هذه القضية، ولكنها تمهيد لعرض المسألة على الاجتماع المشترك، في ظل شكوك مدعومة بمواقف سابقة بأن مجلس السيادة وبالذات المكون العسكري بالمجلس، سيعارض تسليم البشير "القيادي السابق بالقوات المسلحة"، للمحكمة، خاصة وأن قائمة المطلوبين قد تشمل قياديين حاليين بالقوات المسلحة وقوات الدعم السريع، إلى جانب آخرين لم يتم الإعلان عنهم بعد، خصوصًا وأن الأعضاء العسكريون بالمجلس والذين كانوا ضمن "المجلس العسكري الانتقالي" الذي حكم البلاد لعدة أشهر عقب فض اعتصام القيادة العامة، كانوا قد أعلنوا باسم المجلس إبان فترة حكمهم، بأنه لن يتم تسليم أي مطلوبين لجهة خارجية. ويظل الاجتماع المشترك وموافقة السيادي، هي العقبة التي تتوقف عندها كثير من قرارات مجلس الوزراء.
وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمرين باعتقال البشير عامي 2009 و2010، بتهم تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية بدارفور. فيما ينفي البشير صحة الاتهامات ويتهم المحكمة بأنها مُسيسة.
وشهد إقليم دارفور منذ 2003، نزاعًا مسلحًا بين القوات الحكومية وحركات مسلحة أودى بحياة حوالي (300) ألف شخص وشرد نحو (2.5) مليون آخرين، بحسب إحصائيات الأمم المتحدة.
ويرفض أنصار حزب المؤتمر الوطني المحلول تسليم المطلوبين للمحكمة الدولية، معتبرين أن ذلك يمثل انتهاكًا لسيادة السودان، لأن البشير كان رئيسًا للبلاد والقائد العام للجيش، ويعولون على القوات المسلحة في عدم الموافقة على التسليم.
وفي نهاية العام الماضي اعترف النائب العام السابق تاج السر علي حبر، بأن صعوبات تواجه تسليم مطلوبي الجنائية، لجهة أن الملف يعتبر سياديًا، دون أن يدلي بالمزيد من التفاصيل.
وفي العام 2012 أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق وزير الدفاع السوداني عبدالرحيم محمد حسين بتهمة ارتكاب جرائم ضد مدنيين في إقليم دارفور.
اقرأ/ي أيضًا: مبادرة حمدوك وتحديات الانتقال
وفي أيار/مايو 2007 أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق وزير الدولة الأسبق للشؤون الإنسانية أحمد هارون، وعلي كوشيب أحد قادة مليشيا "الجنجويد"، وهي جماعات تتُهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور.
أول تصريح رسمي من الحكومة الانتقالية بالاتفاق على تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية ورد على لسان عضو مجلس السيادة محمد حسن التعايشي
وكان أول تصريح رسمي من الحكومة الانتقالية بالاتفاق على تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، قد ورد على لسان عضو مجلس السيادة الانتقالي من المكون المدني، الناطق الرسمي باسم وفد الحكومة الانتقالية لمباحثات السلام، محمد حسن التعايشي، حيث صرح التعايشي في شباط/فبراير 2020 من جوبا، بأنهم قد اتفقوا على "مثول الذين صدرت بحقهم أوامر قبض أمام المحكمة الجنائية الدولية".
ثم في حزيران/يونيو من نفس العام، وعقب إعلان المحكمة الجنائية إلقاء القبض على "علي كوشيب"، أعلن مجلس الوزراء على لسان وزير الإعلام السابق والناطق الرسمي باسم الحكومة الانتقالية حينها، فيصل محمد صالح، عن استعداد السودان لمناقشة تسليم بقية المتهمين المطلوبين من المحكمة الجنائية الدولية.
أعقب ذلك زيارة المدعية العامة السابقة للمحكمة الجنائية، فاتو بنسودا، إلى السودان في تشرين الأول/أكتوبر 2020، والتي وصفتها بـ"التاريخية جدًا"، حيث التقت مجموعة من كبار المسؤولين بالحكومة الانتقالية، وبحثت سبل التعاون بين المحكمة الجنائية الدولية والسودان بخصوص المتهمين الذين أصدرت المحكمة بحقهم أوامر قبض، بحسب ما أعلنت وزارة الثقافة والإعلام حينها.
تلا ذلك زيارة وفد آخر من المحكمة الجنائية الدولية في شباط/فبراير من العام الجاري، ومرة أخرى لـ"بحث سبل التعاون مع المحكمة في المحاكمات المتعلقة بنزاع دارفور"، حيث نقلت وكالة "أسوشيتد برس" عن وزير العدل نصرالدين عبدالباري قوله، إن السلطات السودانية تجري "مداولات داخلية" حول "أفضل سبل التعاون" مع المحكمة الجنائية الدولية.
وذكر مصدر مطلع من النيابة العامة حينها لـ"الترا سودان"، أن وفد المحكمة الجنائية الذي يزور البلاد، يُجري مباحثات مع الجانب السوداني للوصول إلى تفاهمات مشتركة حول "كيفية محاكمة متهمي المحكمة الجنائية".
وأشار المصدر في حديثه لـ"الترا سودان"، إلى أن المدعية السابقة للمحكمة الجنائية التي زارت السودان نهاية العام الماضي؛ تحدثت مع المسؤولين السودانيين حول "خيارات مثول مطلوبي الجنائية أمام محكمة هجين، أو تشكيل محاكم وطنية مؤهلة لمحاكمتهم، أو نقلهم إلى مقار المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي"، وهي الخيارات المعنية عندما تصرح الحكومة بـ"تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية".
اقرأ/ي أيضًا: مواكب العدالة.. الانتصار للقضية
ثم أعلن عضو مجلس السيادة محمد حسن التعايشي مرة أخرى في ذات الشهر، أن الحكومة الانتقالية ستسلم المطلوبين للعدالة إلى محكمة الجنايات الدولية، موضحًا أن الحكومة اتخذت القرار بالإجماع، وزاد بالقول: "أوكد أن هذا الأمر لا تراجع فيه، وأقول ذلك وأنا على ثقة أن الحكومة الانتقالية وافقت بالإجماع على تسليم مطلوبي المحكمة الجنائية".
تظل كيفية تسليم المطلوبين وحتى "سُبُل التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية" التي يتم ترديدها في كل مرة يطرق الأمر مجهولة وغامضة
ومن الواضح من كل ما ذكر، أن مسألة موافقة الحكومة على تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، أو على الأقل موافقة أجزاء من مراكز القوى المتعددة التي تشكل السلطة الانتقالية في السودان، ليست بالخبر الجديد، ودائمًا ما يتزامن مع زيارات المسؤولين من المحكمة الجنائية للسودان، ولكن، تظل كيفية التسليم وحتى "سُبُل التعاون مع المحكمة" التي يتم ترديدها في كل مرة يطرق الأمر، مجهولة وغامضة، وتدور في فلك التكهنات، بالذات في ظل "توازن الضعف" الذي يحكم ديناميكيات العلاقات بين مكونات السلطة الانتقالية المتعددة والمتباعدة، والهشاشة الشديدة التي يعاني منها النسيج السياسي في السودان، والذي يُصعب أي تحركات كبيرة من قبيل تسليم المطلوبين للجنائية.
وربما يكشف المستقبل القريب عن تحركات من قبيل محاكمة المطلوبين في محكمة هجين أو بإشراف مباشر من المحكمة الجنائية الدولية داخل السودان، ولكن ترحيلهم إلى "لاهاي" قد يجلب المزيد من عدم الاستقرار للحكومة الانتقالية، خصوصًا مع مخاوف من كشف المطلوبين عن تورط قيادات حالية بالحكومة الانتقالية والقوات المسلحة والدعم السريع، في الانتهاكات التي تلاحقهم بسببها المحكمة الجنائية الدولية.
اقرأ/ي أيضًا