الزيارة الحالية للوفد الإريتري رفيع المستوى المكون من رئيس الأركان الإريتري ومدير جهاز الأمن والمخابرات وقائد القوات البحرية الإريترية للسودان؛ زيارة فريدة من نوعها ومثيرة للعديد من الأسئلة والاستفهامات، خصوصًا أنها أتت في وقتٍ كان فيه رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في زيارة مطولة نوعًا ما لإريتريا، حيث زار معسكر ساوا الشهير وأجرى مباحثات مع الرئيس الإريتري إسياس أفورقي، والذي هو نفسه قام بجولة إقليمية قبل أيام كان السودان إحدى محطاتها، حيث التقى مسؤولي الحكومة الانتقالية، ثم مصر والتي التقى برئيسها وعددًا من مسؤوليها.
إسياس أفورقي لا يمكن أن يفوت فرصة للتحرك والمناورة لتحقيق مصالحه الشخصية ومصالح حلفائه، ولكن المؤشرات تقول إن ملف سد النهضة ليس هو كل ما في الأمر
من الواضح من هذه الزيارات المتكررة، أن إريتريا تريد أن تلعب دورًا في مسألة سد النهضة، فالرئيس الإريتري وهو لاعب إقليمي قديم في المنطقة والأقدم بين مسؤولي الدول التي زارها في جولته الأخيرة؛ لا يمكن أن يفوت فرصة مثل هذه للتحرك والمناورة لتحقيق مصالحه الشخصية ومصالح حلفائه الجدد في السعودية والإمارات، ولكن هناك مؤشرات قوية أن ملف سد النهضة ليس هو كل ما في الأمر، فالاضطرابات الداخلية الشديدة التي تشهدها إثيوبيا في الداخل سبب من أسباب هذه الزيارة، وبالأخص مع التطورات الأخيرة في إقليم تيغراي، والذي تحكمه إدارة قوية بمواقف مضادة للمركز الإثيوبي والحكومة في إريتريا المتاخمة للإقليم المتماسك خلف إدارته. كما أنه بالتأكيد الاضطرابات التي شهدها شرق السودان في الفترة الأخيرة كانت على طاولة المباحثات، فكل ما يؤثر على شرق السودان له تبعاته القوية على العمق الإريتري.
اقرأ/ي أيضًا: من المستفيد من إقصاء حركة لام أكول؟
إذًا؛ في ظل أزمة سد النهضة وتواجد آبي أحمد في إريتريا وزيارته لمعسكرات ساوا، بالإضافة للاضطرابات الداخلية الشديدة التي شهدتها إثيوبيا وشرق السودان، ماذا يمكن أن تكون دلالات زيارة الوفد العسكري والأمني الإريتري رفيع المستوى للسودان في هذا الوقت بالذات، خصوصًا بعد جولة إسياس أفورقي الإقليمية الأخيرة والتي لم يمض عليها وقت طويل؟
مكتب عدي هالو
طرح "ألترا سودان" السؤال أعلاه على الصحافي ومحرر موقع عدوليس، جمال همد، والذي أجاب قائلًا:
"أولًا يجب أن ننتبه أن عددًا كبيرًا من الملفات ذات الصلة بدول الجوار والشؤون الأمنية والعسكرية، يمسك بها إسياس أفورقي شخصيًا ويديرها من مكتبه الخاص، هذه الملفات تشمل دول الخليج وخاصة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والسودان ومصر، يدير إسياس هذه الملفات بعددٍ قليل من العاملين في مكتبه بـ"عدي هالو"، وهو المكتب الذي يتكوّن من عدد من المستشارين والفنيين ذوي العلاقة بطبيعة الملف، وبقية الذين يقومون بعمل فني تكميلي. أهم الشخصيات التي تلعب دورًا مع الرئيس أفورقي، هما مستشار الرئيس يماني قبرآب، ووزير الإعلام يماني قبري مسقل، بالإضافة لعددٍ قليل من ضباط الأمن، بجانب طاقم مكتبه الخاص وجزء كبير ممن يحملون رتب عسكرية وأمنية وغير معروفين لوسائل الإعلام.
وزير هيئة الأركان الذي يزور الخرطوم هذه الأيام فيليبوس يوهنس، هو من الشخصيات العسكرية القديمة، وتربطه علاقة خاصة مع إسياس؛ وهي السبب في وصوله لهذا المركز وليس تميزه العسكري، واحدٌ من أسباب هذه العلاقة يرجع لانحدارهم من نفس القرية في إريتريا، وكان يفترض أن يصبح وزيرًا للدفاع؛ إذ أن إريتريا بلا وزير دفاع بعد وزير الدفاع السابق سبحت أفريم، وهو الآن يقوم بمهام وزير الدفاع، وأعتقد هو الآن في زيارة لمتابعة ما تم الاتفاق عليه بين إسياس أفورقي والمكون العسكري في المجلس السيادي، وكل ما اتفق عليه الرئيس مع القيادة العسكرية".
وأضاف همد في الحديث عن طبيعة الزيارة أن: "ليس من مهام فيليبوس يوهنس، بحث قضايا استراتيجية أو مناقشتها مع العسكريين السودانيين، فقط هو منفذ لما تم الاتفاق عليه، ودائمًا إريتريا مجمل علاقاتها ذات طبيعة سرية وخاصة العسكرية والأمنية منها، وليست مكتوبة وتكون غير معلنة في العادة، ولو لاحظنا بعد زيارة إسياس الأخيرة لم يصدر أي بيانٍ رسمي، سواء من الحكومة السودانية أو الإريترية بخصوص الزيارة، ويرجع هذا لطبيعة التعامل الأمني لحكومة أسمرة".
اقرأ/ي أيضًا: ما هي خطة الحكومة لحل أزمة حجب المعلومات عن الصحافة؟
ويوضح محرر عدوليس: "تأتي هذه الزيارة بعد الزيارة التي قام بها فيليبوس إلى أديس أبابا، وأعتقد أن الزيارة تتعلق بترتيب الوضع في حالة انفجار الأوضاع ما بين الحكومة المركزية في أديس أبابا وإقليم تيغراي في إثيوبيا؛ ولذا هي محاولة وضع القيادة العسكرية في السودان ضمن هذه الصورة والاستفادة منها في دعم آبي أحمد".
جمال همد: "الأوضاع داخل إثيوبيا مقلقة لأفورقي بكون إقليم تيغراي يجاور إريتريا جغرافيًا، ويعتبر الإقليم الأكثر ترتيبًا وتوافقًا، وقيادته هي الوحيدة القادرة على لجم تطلعات آبي أحمد"
ويشدد همد على أن: "الأوضاع داخل إثيوبيا مقلقة لأفورقي بكون إقليم تيغراي يجاور إريتريا جغرافيًا، ويعتبر الإقليم الأكثر ترتيبًا وتوافقًا، وقيادته هي الوحيدة القادرة على لجم تطلعات آبي أحمد لمركزة السلطة وتحجيم الحكم الفيدرالي الذي يسعى إليه رئيس الوزراء".
مصالح مشتركة
كان ذلك رأي الصحافي ومحرر موقع عدوليس المهتم بالشأن الإريتري جمال همد، أما الناشط الحقوقي والسياسي الإريتري الشاب، صابر رباط، فأجاب على سؤال "ألترا سودان" أعلاه قائلًا:
"ليست هذه الزيارة فحسب بل جل الزيارات الأخيرة للسودان سواء كانت من رأس النظام الإريتري أو قيادات نظامه، لا تذهب في مراميها بعيدًا عن الأجندة الأولى في قائمة أولويات أفورقي، ألا وهي صراعه مع الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي الحاكمة في إقليم تيغراي الإثيوبي".
ويسترسل رباط: "هذا العداء الذي ظهر للعلن في الحرب الحدودية بين البلدين في العام 1998، أنتج قطيعة بين البلدين دامت لعقدين من الزمان، ولم ينهها إلا صعود آبي أحمد لرأس السلطة في إثيوبيا، وزيارته الشهيرة للعاصمة أسمرة. آبي أحمد ضابط المخابرات العسكرية السابق، والذي ينحدر من قومية الأورومو، تلاقت مصالحه مع أفورقي في الرغبة المشتركة بينهما لتقزيم وتحجيم الدور السياسي لحكام التيغراي".
ويوضح الناشط الحقوقي والسياسي أن "الزيارات الإريترية المتكررة للسودان تأتي في إطار محاولات الضغط على المجلس السيادي الحاكم في السودان، وخصوصًا الشق العسكرى منه، لاتخاذ إجراءات أمنية وسياسية تضيق الخناق على حكام إقليم تيغراي، ولعلنا نتذكر جيدًا الاستفزازات الأثيوبية التي تسببت في عدة مناوشات في منطقة الفشقة السودانية على الحدود مع إثيوبيا، ثم زيارة أفورقي للسودان والتي تلتها عدة إجراءات أمنية في هذا الاتجاه.
اقرأ/ي أيضًا: أهداف ثورية للبيع.. الحكومة الانتقالية في مجلس حقوق الإنسان
ويضيف رباط: "هناك أيضًا ملف الحركات السودانية المعارضة التي تتخذ من إريتريا مقرًا لها وتحظى بدعم ورعاية أفورقي، والذي يستخدمها أيضًا ككرت ضغط للتأثير في التحول الديمقراطي في سودان ما بعد الثورة، وخصوصًا شرق السودان، والذي تقطنه قبائل حدودية مشتركة لها امتداداتها في غرب إريتريا الأكثر معارضة لنظامه، والتي يحاول أفورقي إضعاف حضورها وتأثيرها السياسي في السودان، ويعمل جاهدًا لإجهاض وتعطيل مسارات الاستقرار والسلم المجتمعي في هذا الإقليم بشكلٍ عام خشيةً من تأثيراته الإيجابية على مجتمع الضفة الأخرى من الحدود".
صابر رباط: الزيارة ضمت قيادات عسكرية رفيعة مثل رئيس جهاز الأمن الذي قلما تكون له زيارات خارجية، الأمر الذي يبين أهمية هذه الزيارة على المستوى الأمني والاستخباراتي
ويؤكد رباط على أهمية الزيارة قائلًا: "هذه الزيارة ضمت قيادات عسكرية رفيعة المستوى، أهمها رئيس هيئة أركان الجيش الإريتري فيليبوس ولد يوهانس المقرب جدًا من رأس النظام، وكذلك رئيس جهاز الأمن والاستخبارات أبرها كاسا، والذي يعتبر الذراع الأيمن لأفورقي التي تلاحق معارضيه في الداخل والخارج، وقلما تكون له زيارات خارجية، الأمر الذي يبين أهمية هذه الزيارة على المستوى الأمني والاستخباراتي".
أما الباحث والمحلل السياسي ياسين محمد، فيرى أن العالم قد أبدى اهتمامًا بأزمة سد النهضة لأن ثلاث دول كبيرة في المنطقة طرفٌ فيها، ويضيف: "لكن هناك أزمة لا يعيرها العالم ولا دول المنطقة ما تستحق من اهتمام، ألا وهي الصراع الداخلي في إثيوبيا؛ خصوصًا الأزمة بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم تيغراي، الأزمة التي يعد النظام الإريتري طرفًا فيها".
اقرأ/ي أيضًا: إثيوبيا تتراجع عن تصريحاتها بملء سد النهضة ومجلس الأمن مستعد للنظر في الخلاف
ويستشهد ياسين محمد بأن: "الأسبوع الماضي دخل الصراع بين المركز والحكومة الإقليمية لإقليم تيغراي طورًا جديدًا، وذلك بعد تعيين الأخير للجنة تشرف على الانتخابات الإقليمية، وهي الخطوة التي اعتبرها البعض خطوة في اتجاه الانفصال، إذ أن الجهة المركزية المسؤولة عن الانتخابات في إثيوبيا لا تقر بحق الإقليم في إجراء هذه الانتخابات".
النظام في إريتريا وجد وضعًا مواتيًا للغاية في المنطقة للتحرك لصالح أجندته الخاصة
وفي سياق متصل، كانت قد أوردت صفحة دام نيوز الإخبارية على فيسبوك، تصريحًا ناريًا على لسان حاكم إقليم تيغراي، والذي قال إن حرب الحكومة المركزية مع الإقليم قد ابتدأت بالفعل، وأنه لم يتبق سوى إطلاق الرصاص.
إذًا من الواضح أن النظام في إريتريا قد وجد وضعًا مواتيًا للغاية في المنطقة للتحرك لصالح أجندته الخاصة، والزيارة النادرة للوفد العسكري والأمني الإريتري رفيع المستوى للسودان لا تخرج من هذا الإطار، فالحكومة المركزية في إثيوبيا تحتاج النظام الإريتري للوساطة في أزمة سد النهضة بالإضافة للاستقواء على إقليم تيغراي، وهي نقطة التقاء نادرة لم يكن ليحلم بها إسياس، وعسكريو السودان يرون في التعاون العسكري والأمني مع إريتريا جزءًا من الحلول لأزمات شرق السودان، وهي المنطقة التي بها حضورٌ طاغٍٍ لامتدادات قبلية وشعوب حدودية تعارض إسياس وحكومته منذ التسعينات، أما الحلفاء في الخليج فيجيدون بل ويفضلون -حسب الباحث الفرنسي بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية جان بابتيست غالوبين- التعامل مع الديكتاتوريين، خصوصًا مع ديكتاتور مخضرم من عيار إسياس أفورقي، ذلك بالإضافة لإطلالة إريتريا المميزة على البحر الأحمر، والتي يسيل لها لعاب الإمارات.
اقرأ/ي أيضًا