في الأيام القليلة الفائتة، حلت مناسبة مرور عامين على اتفاق السلام بين إرتريا وإثيوبيا؛ السلام الذي فكَّ عزلة الرئيس الإرتري إسياس أفورقي، وذهب بآبي أحمد إلى جائزة نوبل للسلامِ منفردًا بها دون أن يناصفها مع من وقّع معه وثيقة السلام، لأن الأول سجله مليئ بجرائم وانتهاكات حقوق المواطن الإرتري؛ إذ يحكم إسياس أفورقي إرتريا منذ (29) عامًا، وفي سجونه ومعتقلاته أكثر من (10) آلاف معتقل من بينهم وزراء وصحفيون.
وعلى الرغم من أن إرتريا ليست من الدول المعنية بالصراع الثلاثي الحاصل حول سد النهضة بين إثيوبيا ومصر والسودان؛ فأن إسياس أفورقي قام بزيارات متتالية في الآونة الأخيرة لكل من أديس أبابا والخرطوم وختمها بالقاهرة، مدعيًا أنه يقرب المسافات بين الفرقاء الثلاثة فيما يتعلق بملء سد النهضة في مرحلته الأولى، في حين لا إسياس أفورقي شخصيًا ولا الدولة الإرترية لديهما الثقل الذي يضطلع بحلول جديدة للخلاف حول سد النهضة.
مختص بالقرن الأفريقي: الرئيس الإرتري لا يملك من الأدوات ما يؤهله لدور الوسيط في أزمة سد النهضة والوساطة في أزمة سد النهضة ليست من أولوياته ولا هو معني بها
أسباب الجولة الأخيرة
إذن لماذا يطير أفورقي بين هذه العواصم؟ يجيب علينا الصحافي الإرتري المختص بشأن القرن الأفريقي، عبد القادر محمد علي:
"أعتقد أن الرئيس الإرتري لا يملك من الأدوات ما يؤهله لدور الوسيط في أزمة سد النهضة، بل أمضي إلى أبعد من ذلك وأرى أن الوساطة التي ثار الحديث عنها مع زيارات أسياس أفورقي إلى الخرطوم والقاهرة ليست من أولوياته ولا هو معني بها، لعدد من الأسباب:
أولها أن النشاط الملحوظ لأفورقي ووزير خارجيته ضمن الإقليم؛ سابق للانسداد الأخير في مفاوضات سد النهضة.
ثانيها أن السياسيين من نوعية أفورقي يعيشون على الأزمات ويزدهرون فيها، ولا سيما أن أزمة سد النهضة تزيد من القيمة الجيوستراتيجية لإرتريا في كل من القاهرة وأديس أبابا، فاستمرار الأزمة لا حلها مصلحة للرئيس الإرتري.
ثالثها: وفقًا لمسار المفاوضات حول السد، فإن الحل الوحيد لهذا الانسداد هو بتراجع إثيوبي بمعنى أو بآخر، ونظرًا لحساسية السد وكل ما يرتبط به في الشارع الإثيوبي، فإن مثل هذه الخطوة ستعد خصمًا من رصيد حليف أفورقي آبي أحمد، والذي يعاني هو نفسه من أزمات داخلية عميقة.
اقرأ/ي أيضًا: أزمة جونقلي.. لجان رئاسية وحلول مؤقتة لا تحقق الاستقرار والسلام بين المجتمعات
ويضيف محمد علي فيما يتعلق بزيارة أفورقي الأخيرة للقاهرة: "وفيما يخص زيارته إلى مصر بالتحديد فبين البلدين ملفات مشتركة متعددة مرتبطة بالمحور الإقليمي المنخرطة فيه كل من أسمرة والقاهرة مع أبوظبي والرياض، وزيارة أفورقي في تصوري كان من أولوياتها العمل على ترميم التحالف المصري الإرتري، بالنظر إلى التهديدات الجدية التي تواجه آبي أحمد في إثيوبيا، والاحتمالات المفتوحة لتغير توازنات القوة في إثيوبيا بما يفتح البلاد على متغيرات قد تطال السلطة ومن فيها، وقد تأتي بلاعبين جدد إلى أعلى هرمها في أديس.
أما الضجة الإعلامية حول دور ما للوساطة يقوم به الرئيس الإرتري فهو مصلحة صرفة لأسمرة، توافق طموحات الرئيس الذي يحاول دومًا أن يسبغ على نفسه هالة اللاعب الإقليمي الهام والمؤثر.
موقف سلبي من سد النهضة
ولدى الرئيس الإرتري موقف سلبي من سد النهضة، منذ سنوات بعيدة، ودائما ما كان يشير إليه بكثير من السخرية، وخاصةً في الفترة التي كانت القطيعة بين إرتريا وإثيوبيا قائمة، والتي امتدت لعشرين عامًا.
الصحافي والمهتم والمنشغل بموضوعات القرن الأفريقي عبد الله محمود، يسترجع هذه الذاكرة فيحكي عنها:
العنوان البارز لزيارة أفورقي لإثيوبيا والسودان ومصر، هو ملف سد النهضة الذي تعثرت المفاوضات فيه لشهور عدة سواء في واشنطن أو أديس أبابا وقبلها السودان.
السلطات المصرية صرحت أن أفورقي تباحث مع السيسي حول ملف سد النهضة إلى جانب ملفات أخرى، أما زيارتيْ أفورقي للسودان وإثيوبيا فلم يصدر تصريح رسمي حول طبيعة الملفات التي تم التباحث حولها، إلا أن وجود وزير الري السوداني خلال اللقاء الذي ضم أفورقي مع رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني، يكشف بوضوح حضور ملف سد النهضة على طاولة اللقاء.
اقرأ/ي أيضًا: جوبا.. ناشطات يناشدن كير بمراعاة تمثيل النساء في الحكومة الانتقالية
المعروف أن رؤية افورقي للمفاوضات الجارية بشأن سد النهضة، بأنها مجرد إهدار للوقت، وتنفرج في إطار العلاقات العامة ولا يناقش فحوى قضية السد وتأثيره على الشعب الإثيوبي.
يرى أفورقي أن الهدف من إنشاء سد النهضة سياسي، وبدون دراسات كافية، ولم يراع مصلحة الشعب الإثيوبي أو مصالح الإقليم
ويرى أفورقي بحسب مقابلة أجرتها معه الفضائية الارترية العام الماضي بعد وصول أبي أحمد إلى السلطة، أن الهدف من إنشاء سد النهضة سياسي وبدون دراسات كافية، ولم يراع مصلحة الشعب الإثيوبي أو مصالح الإقليم. ويرى أيضًا أن التعامل مع سد النهضة كأمر واقع، ينطوي على مخاطر كبيرة، يمكن أن تؤثر سلبًا على إثيوبيا ودول الإقليم.
وكان قد روى خلال ذات المقابلة، أن فكرة السد نشأت عقب مقابلة بين رئيس وزراء إثيوبيا الأسبق ملس زيناوي، ورئيس المخابرات المصري في وقتها عمر سليمان، حيث تعامل فيها الأخير بطريقة فظة مع الأول عندما طرحت قضية مياه النيل، فكانت إجابة عمر سليمان لزيناوي: من أنت حتى تطرح هذه القضية. وقال أفورقي إن زيناوي أخبره بهذه الحادثة.
وحسب ما عرف عنه، فإنه يرى أن الحكومات الإثيوبية المتساقطة، ظلت تستخدم النيل كسلاحٍ سياسي. والواضح من كل ما سبق، أن موقف أفورقي مطابق للموقف المصري.
إثيوبيا بعد التغيير الذي حدث وتوقيع اتفاقية السلام بين البلدين، حاولت استمالة إرتريا ودعوتها إلى مبادرة حوض النيل والاصطفاف مع دول المنبع والتخلي عن مساندة دول المصب، ولكن الدعوات الإثيوبية تحطمت على حائط الرفض الإرتري.
خلاصة القول هي إن انحياز أفورقي للطرف المصري في قضية سد النهضة وموقفه السلبي من إنشاء السد، لا يؤهله للعب دور الوسيط، ويقلل من فرص نجاح وساطته. وربما تؤدي إلى أزمة بين إرتريا وإثيوبيا، خاصةً في ظل الاضطرابات التي تشهدها الأخيرة، ووقوف عدد من الفصائل الإثيوبية المعارضة، التي كانت تتخذ من إرتريا مقرًا لها، في الطرف المناهض لأفورقي.
تعتيم إعلامي
في العام 2001 قامت السلطات الإرترية بإغلاق ومصادرة كل الصحف المستقلة، واعتقال كل الصحفيين الذين يعملون بها، ولم تتبق إلا صحيفة واحدة، وإذاعة واحدة، وتلفزيون وحيد؛ وكلهم ناطقون باسم الحكومة، لذا يجد الإرتريون صعوبة في الحصول على المعلومة، وعادةً ما يتلقون خبر زيارة الرئيس أفورقي من وسائل إعلام الدول التي زارها، كل هذا يجعل أسباب وعناوين زياراته متضاربة وغير مفهومة في أحايين كثيرة.
الكاتب والصحافي الإرتري المقيم في القاهرة محمود أبوبكر، يضيئ لنا هذه الزاوية، ويذهب بنا بعيدًا عن مصلحة إسياس أفورقي من هذه الزيارات المتتالية:
في تصوري الجولات المكوكية التي قادت أفورقي للعواصم الثلاث، (أديس أبابا - الخرطوم -القاهرة) وإن حملت في وقتها عناوين مختلفة، فإنها تتعلق بالاساس بلعب دورٍ ما، فيما يخص التوتر القائم بين الدول الثلاث بسبب إجراءات تعبئة وإدارة سد النهضة الإثيوبي.
اقرأ/ي أيضًا: مأساة العشرات من الشباب السودانيين المحتجزين في سجن السلوم المصري
من الواضح أن التصريحات الرسمية حملت وقتذاك عناوين أخرى كما هو الحال بالنسبة لزيارة أديس التي قالت التصريحات الرسمية الإريترية أنها سترتكز حول وباء كورونا وكذلك أزمة الجراد، ذلك لأن ثمة محاولات دولية كبرى (كمسار واشنطن) كانت لا تزال تعمل للوصول إلى اتفاقات ثلاثية، كما أتت مباحثات الخرطوم لاحقًا، في محاولة لتدارك تدهور الوضع سيما بعد انسحاب إثيوبيا من مسار واشنطن.
التقى أفورقي في القاهرة بمسؤولين مصريين وذكرت البيانات الرسمية المصرية، تباحث الرئيسين حول ملف سد النهضة الإثيوبي والوضع الأمني في منطقة حوض البحر الأحمر بالاضافة إلى الملفات الثنائية
ثم أتت الجولة الثانية لأفورقي أكثر وضوحًا حين حط في العاصمة السودانية، بعد أيام قليلة من فشل مباحثات الخرطوم وإصرار أديس أبابا على الملء الأحادي للسد دون الالتزام بأي اتفاقيات ملزمة مع دول المصب. ولجوء دولتي المصب الى مجلس الأمن الدولي، للنظر في القضية باعتبارها تؤثر على الأمن والسلم الدوليين.
وأثناء وجود أفورقي في الخرطوم قدمت إثيوبيا ما يمكن اعتباره بادرة حسن نية، ولربما دعمًا لمساعي حليفها الحالي، حيث أعلنت أديس أبابا أنها لن تبدأ عملية التعبئة دون التوصل إلى اتفاقٍ ثلاثي، وهي الخطوة التي كانت كل من القاهرة والخرطوم تسعى إليها.
الضلع الأخير من مثلت مفاوضات أفورقي كانت القاهرة، حيث التقى المسؤولين المصريين وذكرت البيانات الرسمية المصرية، تباحث الرئيسين حول ملف سد النهضة الإثيوبي والوضع الأمني في منطقة حوض البحر الأحمر بالاضافة إلى الملفات الثنائية.
اقرأ/ي أيضًا: جوبا: مخاوف من انهيار الترتيبات الأمنية لغياب التمويل والإرادة السياسية
لعل جولة أفورقي في القاهرة، والتي أتت بعد بادرة حسن النية الإثيوبية الأخيرة، وتدخلات الاتحاد الأفريقي بقيادة جمهورية جنوب أفريقيا، بدت أكثر وضوحًا عن دور أفورقي في أزمة السد، والذي لا يمثل بديلًا عن الجهود الدولية القائمة، ولا يمكن وصفها بمبادرة فعلية ومعلنة، لكن لا شك أن لها تاثيرًا كبيرًا على القيادة الحالية في أديس أبابا، كما يتمتع بعلاقات قوية مع كل من الخرطوم والقاهرة، وقد يكون بإمكانه لعب دور ما في التقريب بين الدول الثلاث، بما يخدم مصالحه بالأساس.
أفورقي يستثمر أزمة سد النهضة للترويج لنفسه ويستغل الظروف الجديدة ليضع نفسه تحت دائرة الضوء
فالمعروف عن أفورقي قدرته الفائقة على "الاستثمار في الأزمات" واستغلالها لتحقيق مصالح نظامه، كما أن دولتي المصب بحاجة ربما إلى مساعيه نظرًا لعلاقته القوية مع القيادة الجديدة في أديس أبابا، ولعل رئيس الوزراء الإثيوبي أيضًا يتعمد استغلال ملف السد في تحقيق مكاسب سياسية ما، داخليًا وخارجيًا، بعيدًا عن الأهداف التنموية المباشرة، ولعل إحدى تلك الأهداف "تخليق دورٍ ما " لحليفه أفورقي، من أجل العودة للعب أدوار إقليمية.
ولكن بلا شك، فإن الديكتاتور إسياس أفورقي، يستثمر هذه الأزمة للترويج لنفسه، واستغلال ظروف جديدة تضعه تحت دائرة الضوء، كما أنه يفضل أن يتواجد في أجواء مليئة بالمشكلات، كحال كل الديكتاتوريين.
اقرأ/ي أيضًا
بعد أكثر من عام على الثورة.. لماذا تأخرت محاكمات رموز الإنقاذ؟
قاعدة مصرية في جنوب السودان أم بالونة اختبار تهدد مستقبل "الحلف الثلاثي"؟