24-يوليو-2022
تشارلي تشابلن

تشارلي تشابلن

لا يوجد دليل قاطع يشير إلى أول آلة تم اختراعها في التاريخ، لكن موقع "ويكيبيديا" يقول إن الساقية التي شُيدت في الإمبراطورية الفارسية في القرن الرابع قبل ميلاد المسيح هي أولى الآلات على الإطلاق. هذه الساقية التي مهدت الطريق لما بعدها تشير في حد ذاتها إلى علاقة الإنسان بالآلة؛ صعود وهبوط، من أعلى قدرات الإنتاج و الجودة إلى أقرب نقطة في الأرض حيث سلب هذا الاختراع الفريد تفاصيل ضخمة من الحياة اليومية.

في عام 1940 أسقط تشارلي تشابلن قناعه الفكاهي لخمس دقائق في مشهد أيقوني من فيلم الديكتاتور العظيم (The Great Dictator) وجه من خلال ذلك المشهد رسالة عاطفية بضرورة التعاضد، والتكاتف وعدم الاستسلام لرمال هذا العصر المتحركة، بمعنًى آخر؛ التكنولوجيا. 

تشارلي تشابلن في الديكتاتور العظيم: لقد دخلنا عصر السرعة ولكننا أغلقنا على أنفسنا فيه

"لقد سمم الطمع أرواح البشر، وأحاط العالم بالكراهية، ودفعنا نحو البؤس وسفك الدماء. لقد دخلنا عصر السرعة ولكننا أغلقنا على أنفسنا فيه. تلك الآلات التي توفر احتياجاتنا قد تركتنا في احتياج. المعرفة جعلتنا متشائمين، وذكاؤنا صار وحشيًا وقاسيًا". 

شرح هذا الخطاب علاقة الإنسان مع الآلة في ذلك الحين، أي ذلك الوقت الذي شرعت فيه الآلات في النهوض بالبشرية بسرعة الصوت، هذه العلاقة التي مرت بعدة مراحل مختلفة بداية من الانبهار والإنتاج الكثيف إلى خوف الاستبدال بعد الثورة الصناعية الثانية التي هددت فيما بعد بارتفاع مستويات البطالة.

وعند العام 2004 أي بعد (64) عامًا على فيلم الدكتاتور العظيم، استيقظ العالم على خوف جديد، ربما مسلٍ، عندما صدر فيلم (I Robot) ببطولة ويل سميث، وهو فيلم خيال علمي تدور أحداثه في المستقبل حيث تنصهر الروبوتات في قلب المجتمع بصورة عميقة و تساعد الإنسان في كل شيء. 

إلا أن هنالك روبوت انقلب على الإنسان وتمكن من قتل أحد البشر. لم يكن الأمر هكذا فحسب بل طوّر الروبوت قدرته على الإحساس والشعور بطريقةٍ جعلته نصف آدمي.

هذا الاختلاط الروبوتيّ في الفيلم كان نبوءة تحققت فيما بعد بمجرد قفز تلك الفكرة على الأذهان؛ فكرة استبدال الإنسان مرة أخرى وتضاعف هذا الهاجس بصورة مضاعفة في السنوات المنصرمة. 

حيث أكدت دراسة أجرتها شركة (PwC) المتخصصة في علوم الاقتصاد أن نسبة (30)% من المواطنين الإنجليز و(38)% من الأمريكان معرضون على الدوام لخطر فقدان وظائفهم نتيجة لتدخل التكنولوجيا أو ما يعرف بـ"الأتمتة"، وهي استبدال العمالة البشرية بالآلات القادرة على العطاء بنفس الجودة المطلوبة، وبالطبع بإنتاجية أضخم.

لم ينتهِ الأمر عند هذا الحد، حيث أكدت دراسات أجراها مجتمع التمريض الكوري في العام 2017، أن هنالك تناسبًا طرديًا بين الإكتئاب وحدة إدمان الهواتف الذكية. وفي مقال على صحيفة (The Atlantic) ذكر بروفيسور جين توينج المحاضر في كلية علم النفس بجامعة سان دييغو، أن هذه الهواتف بمجرد وجودها عند المراهقين تؤدي إلى تغيرات قوية وسريعة في السلوكيات النفسية.

 أردف بروفيسور توينج فيما بعد: "لن يكون حديثي مبالغة أن جيل (Igen) -الجيل الذي نشأ على التكنولوجيا الحديثة- على شفا جرف للمرور بأسوأ أزمة صحة عقلية منذ عقود؛ يمكن تقفي هذا الأمر من على هواتفهم فقط".

اقرأ/ي أيضًا:
شيءٌ من حياة

"غرفنا هي السجون التي ندخلها طوعًا لنجد الحرية" هكذا كتب بول اوستر في كتابه "اختراع العزلة" ظنًا منه أن الغرف تمثل فرصة ليلتقي المرء بنفسه والجدران دون الحاجة لسماع شخص آخر، هذه العزلة الاختيارية التي كان يقصدها ليست تشبه التي تحدث الآن وفي السنوات المنصرمة منذ اقتحام الهواتف لحياة الإنسان. كما يؤكد إتحاد علماء النفس الأمريكي (APA) في دراسة أجراها المركز مؤخرًا أنه لم يعد هنالك وقت كافٍ أو براح ليجلس المرء ليحاور نفسه، مواقع التواصل الاجتماعي قتلت كل هذه الفرص و تزداد فرص الإصابة بالأمراض النفسية بزيادة الوقت الذي يمضيه المرء وهو يحملق في هاتفه.

تحولت الحرية إلى عزلة شاحبة وانفصال عن الواقع يطغى ظله على العالم رويدًا رويدًا

 لكنها بالطبع تغيرت، تحولت الحرية التي يقصدها إلى عزلة شاحبة وانفصال عن الواقع يطغى ظله على العالم رويدًا رويدًا حتى تحققت مقولة بوكوفسكي: "ثمة وحدة في هذا العالم هائلةٌ جدًا"، والمفارقة الغريبة أن هذه الوحدة قد طغت في أكثر حقب التاريخ مرونة في الاتصال.

علينا أن نقّر بأن البشر لم يعودوا بنفس الصلابة، وأصبحنا في احتياج بالضرورة؛ احتياج إلى الأحضان، إلى الرفقة، احتياج إلى الجلوس على مائدة الغداء وإلقاء نظرة في عيون أسرتنا، نظرة عن كثب وليس لمحة سريعة لأن العيون منشغلة بالهواتف، بالآلات وباللذين يهتمون بنا حتى أصبحنا لا نهتم بأحد. 

لكن ما تزال هنالك فرصة، إذا ما حققنا قولك يا تشارلي، بأننا من نمتلك القوة، القوة التي تصنع الآلات، القوة التي تصنع السعادة. نحن نمتلك القوة لأن نجعل هذه الحياة حرة ورائعة، ولأن نجعل من هذه الحياة مغامرة رائعة.