نحنُ لا ننجو حين نفرُ إلى دواخلنا، بحثًا عن ملاذٍ أو ملجأ، بل نغرق، هُناك حيثُ تختبيء آلاف القصص، الوجوه، الأطياف، يحاصرنا العالم الخارجي وننسى حين ضيقٍ وعثرة أننا كُنا نُلقي بأثقالنا مرةً تلو أخرى، وعثرةً تلو عثرة، هناك حيثُ لا يسمع للأنين صوت، حيثُ لا يشهدُ أحدٌ هزائم الجسد، ولا انكسارات الروح ولا قطرات الدمع، الهاربةُ من غسل الندوب، فتتوارى خشية أن تعانق خدنا فتذوب في عوالمنا الخارجية، حيثُ تشرق الشمس وتغيب.
ولكن هذه المدينة تبدو كأنها جسدٌ خرج من تابوت، حتى النور يبدو كأمواجٍ من الضباب.
وجوهٌ كادحة، وصمتٌ مطبق، ثرثرةٌ لا تنتهي، أصواتٌ كقرع الطبول، بعضُ فرحٍ وحزنٍ، بعض انكسارات، وقليلٌ من الأحضان واتكاءاتٌ يتيمة، الأمل قابعٌ في ركنٍ قصي، كالأسطورة الخالدة، تقول أن ثمة ضوء في نهاية النفق، لكن ها هنا كل العالم نفق، لا الطريق هو الطريق، ولا الخُطى هي الخُطى، وحدها السماءُ تحتفظ ببريقها ورونقها، وحدها التي لم يغشاها الضباب، ولم تتسلل إليها أوراحٌ تعجز الأرض أحيانًا عن ضم وعائها، لكنها الأرض كتب في السماء أن تضم بين طياتها أو على سطحها الأجساد التي تغدو بلا أرواح.
نظنُ أحيانًا أن القلب دليل نسترشد به ونتوه، ثم نظنُ أن العقل دليلٌ نسترشد به ثم نتوه
نظنُ أحيانًا أن القلب دليل نسترشد به ونتوه، ثم نظنُ أن العقل دليلٌ نسترشد به ثم نتوه، ننسى أن الطريق، الحياة، وخياراتنا كساحة حرب، نتعلم بعد الضربة الأولى، والسهم الأول أين نضع أقدامنا، أيّ الطرق نسلك، متى ننحني ومتى نقف، بل ومتى نبكي فرحًا أو شوقًا، حبًا أو حزنًا وشغفًا.
حين يضيق عالمنا الخارجي على اتساعه، وتضيق دواخلنا، وتبدو أرواحنا كملاذٍ أخير حتى وإن مستها خطوب الحياة، لكنها الروح حيثُ لا شيء مرئي ومكمن الحياة ونبضها، ولكن أيّ الطرق تدل إلى هناك؟ أيّ الطرق تمضي بنا نحو السماء، لا طريق سوى المحراب.
مدينةٌ غارقةٌ في الهدوء والصخب، الحياة والموت، الحزن والفرح، تبدو أحيانًا كراقصةٍ خرجت لتوها من مقبرة، أو كفرعونٍ غادر التابوت، فلا اكتملت الحياة، ولا اكتمل الموت أو الغياب، وفي حينٍ آخر تبدو كرداءٍ أبيض علقت به بعض ذرات الغُبار، فتصيبنا بتناقضاتها، بوجودها، وأحيانًا لا نغدو سوى الوجه الآخر للمدينة ولعلها ليست سوى انعكاسٍ لصورتنا حين تحطمت مرآتنا.
تخيفنا النهايات، ترعبنا الخطوة الأولى، ننكسر يقوى عودنا ولكن لكل ألمٍ وكسرٍ، دمعةٌ، إما عانقت الحياة، أو بقيت في محجرها وتوارت خلف جدار لا يتسرب منهُ أو إليه ضوء. تبقى هناك كجرس إنذار، وحين يوشك القلب أن يحترق تهطل لتطفئ ما تبقى من نبضٍ قبل أن تستحيل الدواخل إلى رماد.
ربما لا ننجو حين نفرُ إلى دواخلنا، لكن بوسعنا أن نطفيء الحريق.