21-يوليو-2022
مشهد من فيلم دالاس بايرز كلب

مشهد من فيلم دالاس بايرز كلب

مشاهدة السينما ليست أداة تسلية لكسر الزمن، وبالطبع ليست فعلًا تقوم به متعجلًا. قد يختلف الناس في قياس الأشياء، لكن من يتذوق الأفلام والمسلسلات يعلم تمامًا أن هناك أفلامًا لا يمكن المرور عليها من دون النظر إليها مطولًا، إلى مضمونها، رسالتها وقيمتها.

فيلم "دالاس بايرز كلب" هو رسالة واضحة لضرورة الأمل في الحياة، فبلا أمل لا يوجد طعم للحياة وبلا تغيير مفاجئ لن نجد دافعًا للمضي قدمًا في الحياة

هنالك ممثلون يجعلون الفيلم جيدًا، وهنالك فئة تجعله قابلًا للمشاهدة، وآخرون يذهبون بعيدًا للغاية ويحققون ما قاله المخرج الشهير ومدرس التمثيل سانفورد ميسنر: "تمثيلك لن يكون جيدًا ما لم يكن خاصًا بك وحدك، إن التمثيل هو القدرة على التعامل بصدق تام في ظل ظروف تخيلية".

في حفل الأوسكار للعام 2013، ربما لم يكن ماثيو ماكنهاي ليقف على المنصة لاستلام الجائزة بعدما تم إعلانه فائزًا كأفضل ممثل عن فيلمه العبقري، لو لم ينجح في تطبيق مقولة سانفورد السابقة. فيلم "دالاس بايرز كلب" هو رسالة واضحة لضرورة الأمل في الحياة، فبلا أمل لا يوجد طعم للحياة وبلا تغيير مفاجئ لن نجد دافعًا للمضي قدمًا في الحياة. نجح ماثيو وفريق الإعداد في تسليط الضوء على عدة نقاط من خلال شخصية رون وودروف التي لا تعرف الهدوء.

 

امتاز الفيلم بحركية سريعة لا تدع المشاهد يفكر كثيرًا أو تمنح ذهنه فسحةً للشرود. وبحلول الدقيقة العاشرة اتضحت ملامح شخصية البطل المبدئية للجميع. والأشخاص الذين يدققون في المشاهدة تمكنوا من التعرف على الشخصية عن كثب. عشر دقائق دسمة عكست وظيفة رون -بطل الفيلم- كعامل كهربائي وحياته كـأعزب بلا قيود، وكذلك عشقه الكبير لرياضة الروديو (مصارعة الثيران) وولعه بممارسة الجنس ولعب القمار طوال الليل.

https://t.me/ultrasudan

في المجمل، كان رون يعيش حياةً جامحةً جدًا، الحياة الروتينية الكلاسيكية لرجل يعيش في تكساس بثمانينات القرن المنصرم. ونتيجةً لهذا الجموح المشتعل، التقط رون فايروس الإيدز (HIV) في مرحلة ما من حياته المتخمة بالجنس. وبتقدم أحداث الفيلم التي تشهد تراجع صحته الجسدية، نجد رفضه لحقيقة الموت حين نصل إلى المشهد الذي عرف فيه من الطبيب إنه مصاب بالإيدز.

فيلم
بطل الفيلم مع الطبيب لدى تشخيصه بالإيدز

 

هنا تبدأ أزهار الغطرسة في التفتح ونرى كيف يجعلنا القدر بطرفة عين عاجزين ومكشوفين عندما يحترق خيط أمل، وكيف تتحول شخصية رون المنيعة المعربدة من مئة إلى الصفر بسرعة فائقة. ولكن بنفس المنطق، عندما تتجذر روح الغطرسة بداخل صاحبها وتبتلعه، يصبح شخصًا قادرًا على إنكار كل شيء قد يؤدي إلى فنائه، ويتفجر هذا الإنكار بعدائية، وهو ما شاهدناه عندما وجد رون نفسه أمام الطبيب الذي أخبره أنه سيموت خلال (30) يومًا ليخرج من الغرفة وهو يصرخ: "لا شيء يمكنه قتلي في ظرف (30) يومًا".
 

في كتابه فن العيش الحكيم يرى المفكر آرثر شوبنهاور أن السبب الذي يجعل الشباب مندفعين بأعين متقدة نحو الحياة هو قصور إدراكهم للموت. هذا الإحساس الدفين بأن النهاية ما زالت بعيدة، يجعل صغار السن أكثر حيوية، وعلى النقيض تمامًا يحمل الأكبر سنًا قدرًا لا بأس به من الهدوء وانعدام الاشتهاء. يتابع الفيلسوف الألماني حديثه: "الموت لا يظهر لهم في الأفق المنظور وهم يتسلقون تلة الحياة لأنه يوجد على الضفة الأخرى عند النزول من التلة. الشاب لا يدرك الموت إلا عندما يتخطى قمة هذه التلة بعد أن يكون قد سمع الكثير من أقاويل الناس وحكاياتهم عنه".

ربما أراد المخرج مارك جين ڤيليه التنديد بهذه الفكرة بالتطور الرهيب الذي شهدته شخصية رون بطل الفيلم الذي مر بمرحلة الجموح والحرية إلى مرحلة اليأس والإحباط، ثم محاولة الاستفادة من تجربته وجعلها ثريةً -معنويًا وماديًا- بافتتاحه لنادي دالاس الذي يساعد فيه مريضي الإيدز عن طريق بيع أدوية لهم يجلبها من المكسيك، هذه الأدوية الفعالة غير مصرح بها من منظمة إدارة الغذاء والدواء لذلك يصطدم فيما بعد بالحكومة والنقابات.

من الأفكار الجميلة التي استعرضها الفيلم بطريقة سلسة هي التعامل مع موعد قطار الموت المعلوم، وكيف يتصرف الإنسان عند هذا المنعطف الأخير، عندما يعلم أنه على وشك الرحيل. نفس السيناريو الذي عاشه والتر وايت بطل مسلسل بريكنج باد الشهير، كلاهما اشتما رائحة الموت القريب، وكلاهما قرر عدم الالتفات إليه وجعله دافعًا لكسر الاعتيادية والرتابة التي أحاطت بحياتيهما.

فيلم

تمكن رون من استغلال السبب الذي سيجعله يموت عما قريب وجعله حافزًا ليعيش اليوم وغدًا. وبعد سنوات قضاها معربدًا بلا حياة ملموسة تمكن من إيجاد معنى لحياته وهو على شفير قبره، بين صحة كاملة وجسد منهك بنقص المناعة كان هنالك منعطف خطير. في الحياة عانى الكثيرون من الأمراض ومات أغلبهم، لكن يبقى السؤال: هل دائمًا ينجح المرض في إيقاد شعلة ما؟

على كل حال لم يكتفِ الفيلم بالمتعة التي عرضها على الشاشات بل امتد إلى حفل الأوسكار حين فاز ماثيو ماكنهاي بجائزة أفضل ممثل ليلقي خطابًا تحفيزيًا يعتبره الكثيرون أجمل كلمة ألقيت في هذا العرس السينمائي الضخم.