ما لذي تفعله بنا السينما؟
في أحد أيام عام 2003 في سينما في وسط البلد بالقاهرة اجتمعت عائلة كبيرة نسبيًا تبحث عن فيلم يصلح للمشاهدة العائلية -وكل الأفلام المعروضة حينها كانت تصلح للمشاهدة العائلية- فقط معاير هذه الأسرة كانت أشد قسوة بقليل من معايير الرقابة. وقع الاختيار أخيرًا على فيلم لكريم عبد العزيز وحنان ترك ليكون أول فيلم يشاهده أعضاء العائلة الأصغر سنًا على شاشة السينما، وبالرغم من أن الفيلم يمكن تصنيفه بسهولة ضمن أفلام السينما النظيفة؛ إلا أن هذا لم يمنع من الحرج في مشاهد سريعة لا تخلو من البراءة.
فتاة في الثالثة عشرة تراقب الشاشة وانفعالات العائلة تتعرف على الحب، المصلحة، التضحية، الفقر، الصداقة والسفر. وأكثر من ذلك تتعرف على معنى أن تتجسد هذه الانفعالات في قصة مكتوبة وممثلة. بعدها بأيام قليلة تدعى ذات العائلة لحفل صغير على مركب على النيل، يلبون الدعوة ليكتشفوا عند دخولهم ذلك الملصق الإعلاني الذي يرونه في الأفلام عن الراقصة التي ستحيي الحفل. يتبادلون النظرات المتسائلة، ولكن لم يعد هنالك مفر ولا طريقة للعودة، خاصة بعد أن رآهم مضيفهم. تتحول النظرات المتسائلة إلى نظرات متواطئة "حندفنو هنا"! بعد قليل من دخولهم تدخل الراقصة محمولة على المحفة يحملها أربعة رجال يرتدون زيًا تقليديًا مرتجلًا، يبدأ الـ"خواجات" بالتقاط الصور، ودائمًا ما يكون هناك خواجات يلتقطون الصور. كاميرا العائلة كان مسموحًا لها بالتقاط كل تفاصيل الحفل عدا الراقصة، تدور التساؤلات في عقل الصغيرة.
السينما ليست نظيفة فقط؛ ولكنها أيضًا مفرحة ونزيهة وصادقة وحقيقية. حتى عندما تجنح للخيال فخيالها ليس إلا محاولة لمجاراة هول الواقع
بعد أعوام عديدة ستبدأ الفتاة بالتعرف على الأفلام وعلى سينما ليست نظيفة لتعرف لماذا نختبئ خلف أقنعة هي ليست نحن وليس لها أن تكون. تتعرف على سينما يوسف شاهين ومحمد خان ورضوان الكاشف وداؤود عبد السيد ويسري نصر الله لتعرف أن السينما ليست نظيفة فقط؛ ولكنها أيضًا مفرحة ونزيهة وصادقة وحقيقية. حتى عندما تجنح للخيال فخيالها ليس إلا محاولة لمجاراة هول الواقع، لتجد نفسها تضع قائمة للأفلام لا يجمع بين هذه الأفلام أي رابط سوى أنها أثرت على الفتاة بذات الطريقة.
لمزيد من المواضيع المشابهة على "الترا سودان":
"الكتابة النسائية".. أداة تغيير وصوت مقاومة
سينما السودان تحت الأنقاض.. اصطراع الدولة والفن على المساحة الشخصية
تتناول هذه الأفلام موضوعات العزلة والخوف والانصياع للمجتمع أو إجباره على تقبل شخصيات مختلفة بطرق مقاومة -يمكن أن يقال أنها مقاومة الضعفاء- ولكنها أيضًا مقاومة الشجعان، مقاومة من يملك حقًا لا يرى أنه يفترض به أن ينتزعه، بل أن يأخذه بكل كبرياء، أو هكذا خيل لها. الأفلام في هذه القائمة ليس لها ترتيب معين لا على اعتبار تاريخ الإنتاج ولا أي اعتبار آخر سوى ما تراه الفتاة مناسبًا.
أسماء، 2011 "يمكن لما الخوف يروح..."
إذا كانت الصغيرة قد كبرت لترى أفلام يوسف شاهين: الأفلام الناضجة والناضحة بالحياة، فعمرو سلامة هو المخرج الذي نضجت أفلامه وأفكاره أمام ناظريها وبالتزامن مع نضجها هي كمشاهدة ومتذوقة، سواء انتبهت أم لم تنتبه، بداية من دوره ككمبارس في "السلم والثعبان"، ثم إخراجه للأفلام القصيرة و الفيديوهات التشويقية للأفلام ثم الأفلام الروائية الطويلة، ليكون فيلم "أسماء" و"لا مؤاخذة" البدايات القوية لهذا النضج الفكري و الجمالي. الترتيب هنا ترتيب زماني فليست الأفلام القصيرة عمومًا بأقل قيمة من الأفلام الروائية الطويلة، كما أنها ليست مرحلة تسبق الأفلام الطويلة.
من هم أؤلئك الذين نراهم على الشاشة تغطي أعينهم العصابات السوداء؟ الموصومون بالحق والباطل، المرضى والمظلومون الذين لحكاياهم دومًا جانب لن نعرفه ما لم ننزع تلك العصابة السوداء عن نوافذ أرواحهم، لنتعرف فيهم على بشر مثلنا، هذا هو ما فعله عمرو سلامة مع "أسماء"، أرانا إياها دون قناع: إمراة قوية و"خوافة" في ذات الوقت، وإن كان أضفى عليها شيئًا من الملائكية؛ إلا أن هذا لم يقلل للحظة من تعاطف المشاهد معها.
وتمامًا كما عهدنا الواقع، فإنه أكثر قسوة بكثير من خيالاتنا. فمحسن الحقيقي لم يدفع شيئًا من جيبه، وأسماء الحقيقية لم تبدِ وجهها وماتت دون أن تجري العملية. ماتت من مرضنا ومن خوفنا الكامن جوانا.
اقرأ/ي أيضًا: "قوة الكلب".. غوص في تخليع الذكورة
يمكن أن نتعاطف مع أسماء ونبكي معها ونفرح معها، ولكن الاختبار الحقيقي لخوفنا الغبي ذاك هو اختبار صغير قامت به مجموعة من مجموعات دعم مرضى الأيدز، بأن دعت مجموعة عشوائية لاجتماع تنويري عن الـيدز ووزعت حاملين للفيروس بين المدعويين الذين لم يتجرأوا على شرب الماء الموجود أمامهم، ومنهم من غادر الاجتماع حال معرفته بالأمر -مع العلم أنهم يعرفون مسبقًا ان الاجتماع لدعم مرضى الايدز!
دنيا، 2005 "بلاش تبوسني في عينيا"
تدور دنيا كما ينبغي لها، وفي دورانها السؤال وفي دورانها ألم الأنثى وأملها وخوفها وحكيها. هل تصمت شهرزاد وتكف عن الحكي الذي لم يعد مباحًا؟
تطل دنيا على جسدها من باب الفضول الذي أغلقه المجتمع "بالضبة والمفتاح"، لتصطدم بحقيقة أن جسدها أرض نزاع بينها وبين مجتمعها، فتعلنها "من هنا لهنا دا ملكي أنا بس" وبها تعلن دنيا ملكيتها لعقلها وإرادتها وما تبقى لها من كرامة إنسانية.
أخرج فيلم دنيا وليد عوني من الكواليس "كواليس افلام شاهين"، وأمتعنا بحواره عن الرقص والصوفية
تبدع جوسلين صعب في تصوير معاناة فتيات الريف مع عادة حتى بداية انحسارها الآن لم ينجح في إيقاف القناعات الكامنة خلفها، قناعات العار والعرض.
أجمل ما في الفيلم سوى قصائد الحلاج وابن برد وابن بشار، أنه أخرج وليد عوني من الكواليس "كواليس افلام شاهين"، وأمتعنا بحواره عن الرقص والصوفية. وأيضًا نجح الفيلم في إقناعنا أن منير ليس ممثلًا وليس له أن يكون. في المقابل لم يحتج خالد الصاوي إلى كثير عناء ولا كثير مشاهد لإقناعنا بتمكنه.
678، 2010 "دياب في حقل النسوية"
للعقاد رأي قوي وحاد في المرأة، خلاصته أنها لا تستطيع أن تتفوق على الرجال حتى في الأمور التي يفترض بها أنها أمور تخص النساء كالطبخ والتطريز مثلًا، وبالرغم من عدم دقة هذه المقولة جملة وتفصيلًا؛ إلا أنني سأستعين بها في هذه الحالة بالذات، ففي رأيي الشخصي أن الحكي -وليس الثرثرة- هي فعل أنثوي بامتياز، ومع ذلك فقد تفوق فيه الرجال، وهنا بالذات يتفوق محمد دياب ليس فقط في الحكي؛ بل في الحكي عنّا بالذات.
ينجح دياب باستخدام لقطاته الواقعية -باستثناء مشهد الكرسي الدوار الذي يؤخذ من الأعلى- ينجح في إخراج قضية التحرش من كتب الاجتماع وتقارير المنظمات الدولية وحكايا الفتيات في جلسات سمرهن، إلى منصات النقاش الجاد، وإلى منصة حقوقية حقيقية. وأن يحول التحرش من فعل بديهي وسهل التبرير، إلى تساؤل يستحق الوقوف أمامه. فيلماذا يتحرش الرجل؟ -والمتحرشون والمتحرش بهن من خلفيات اجتماعية مختلفة- ولماذا تصمت المرأة؟ ما الذي سيحدث حقًا إذا تكلمت؟ وما هو دور الرجل؟ متحرشًا كان أو قريبًا من الضحية أو حارسًا للقانون؟ بطريقة ذكية ولماحة، وفي نفس الوقت صريحة وواضحة، يضعنا دياب في مواجهة حياتنا اليومية بأدق تفاصيلها لنكون نحن القضاة والجناة والضحايا والجلادون فما نحن فاعلون؟
لايمكنني أن أذكر "678" و"أسماء" دون أن أشير ولو إشارة إلى أداء ماجد الكدواني الفنان المتمكن القادر على الإمساك بخيوط الشخصية بكل بساطتها وتعيقيداتها.
لا مؤاخذة، 2014 "اللامنتمي أو عمرو سلامة مرة أخرى"
هاني بيتر عبد الله، الطفل الذي ينهار عالمه الهش بوفاة والده لينتقل من قوقعته المزينة بأكاذيب الدعة والرفاهية إلى العالم المزدان بأكاذيبه القبيحة، أكاذيب المدارس الحكومية والمناهج الحكومية، يجرب هاني كل شيء في محاولاته للتأقلم والتكيف مع المدرسة الجديدة، كل شيء بدءًا من إلقاء النكات وحتى التظاهر بدين غير دينه، فالدين ليس لله كما أن المدرسة /الوطن ليست للجميع.
لا يمكننا أن نجزم أن "لا مؤاخذة" هو فيلم عن الاضطهاد الديني -فهو قطعًا ليس كذلك- كما أنه لا يحكي عن الصراع الطبقي والاجتماعي "وإن كان مترعًا بوصفه"؛ الفيلم ببساطة عن حرف وحيد عن "90" مليون مختلف كما يقول عمرو سلامة في إهداء تراجع عن كتابته، وهم أكثر من ذلك بكثير.
اقرأ/ي أيضًا: بروفايل| رحلة فنية مع فائزة عمسيب
المميز والممتع في الفيلم هو العمل داخل المدرسة والعمل مع فئة عمرية يصعب العمل معها -خصوصا في جماعات- وتصوير شكل الحياة داخل مجتمع المدرسة والعلاقات المتداخلة فيه، ذكرياتنا مع المعلمين، تصنيفات الطلاب وشللياتهم، الجمعيات الأدبية والعلمية المعطلة، طوابير الصباح المملة.. الفيلم جميل جدًا ويحمل قدرًا لا بأس به من روح الدعابة. وموسيقى هاني عادل وأغانيه من العناصر الجمالية المهمة في معظم أفلام عمرو سلامة.
إحكي يا شهرزاد، 2009 "أن تحكي المرأة عن المرأة"
أو أن يحكي نصر الله عن المرأة. الفيلم من إخراج يسري نصر الله وسيناريو وحيد حامد "مات الكلام". المرأة هنا تقف في وجه السلطة تارة والاستغلال الجنسي تارة وتوقعات المجتمع تارات عديدة، بين سوسن بدر ومنى زكي ورحاب الجمل وسناء عكرود، وبين حسن الرداد وحسين إمام ومحمود حميدة ومحمد رمضان، وبالتأكيد سلوى محمد علي؛ تدور منى زكي كمستكشفة "ساردة" للقصص، ليغوص المشاهد في قصتها هي الشخصية أيضًا كقصة رئيسية وحلقة وصل بين القصص المختلفة؛ تمامًا كما الشهرزاد.
عرق البلح، 1998 "كترنيمة حلم"
في مكان يبدو واقعيًا حينًا وفلكلوريًا حينًا نرى العائد إلى الواحة، الباحث عن مصير أجداده، تقوده أمة الجد الكبير "فايزة عمسيب" زاد الخير محاولة، أن تزيل عنه الرائحة، رائحة الاغتراب التي علقت به، وتدله على أصلها حين غادر الرجال وراء نداهة الحلم بحياة أفضل، فالغربة هنا غربة بالمعنى الحقيقي، تاركين نسائهم مع الجد الكبير وفتى بالكاد بلغ الحلم وبلغ النخلة "العالية" لتمارس النساء طقوسهن، طقوس الفقد والرثاء والحرمان، كترنيمة حلم تبلغ ذروتها برحيل الجد، وتمضي الأحداث لتعود إلى الواقع بعودة الرجال والسؤال والقلق، فلا شيء يعود كما كان، وكترانيم أحزان النساء الطقوسية يرددن كلمات الأبنودي، وموسيقى ياسر عبد الرحمن.
بيبا عمي حمادة
بيبا جاب لي طابق
بيبا قالي كوليه
بيبا قولت ليه ما كلش
بيبا وديه لأمك
بيبا أمي بعيد
بيبا عند الصعيد
بيبا والصعيد مات
بيبا خلف بنات
بيبا خلف بنية
بيبا قد القطية
بيبا.....بيبا ..... بيبا
مرة أخرى مالذي تفعله بنا السينما!
بالتأكيد يمكن إضافة مئات الأفلام الى هذه القائمة، أفلام من السينما العالمية والمصرية وحتى السودانية، فموضوعات الخوف والاغتراب من أكثر الموضوعات المتداولة في السينما، وليس بالضرورة أبدًا أن أبطالها نساء فقط، فالخوف ليس أنثويًا إلا داخل هذه القائمة، فلا يميز هذه القائمة حقيقة سوى تأثيرها على صاحبتنا لا غير، فالسينما ككل الفنون تجريد وتكثيف للواقع، وهي مرآة لأرواحنا ونافذة على الآخر ولغة تواصل ثقافي وقصة وقصيدة ولحن وأمنية، السينما ببساطة تكشف عنا وتجعلنا نحن.
اقرأ/ي أيضًا