لو قُدّر للمسرحي الأيرلندي صمويل بيكيت، أحد رواد مدرسة العبث في المسرح العالمي، أنْ يُتابع تفاصيل جلسات محاكمة رموز النظام السابق، التي تنعقد منذ فترة؛ لخصص جزءًا من كتابة مدرسته المسرحية "مسرح العبث"، وأضاف فصولًا، خصصها بمتعةٍ مسرحيةٍ لا تضاهى لما يدور في جلسات هذه المحاكمات. وهي مشاهد عبثية تجلت بسفور في الجلسة الإجرائية الأخيرة، التي انعقدت أمس الثلاثاء، وتم تخصيص الجزء الأخير منها لسماع أولي لمعلومات شخصية عن المتهمين: الاسم، العمر، الوظيفة ومكان السكن.
هذه المحاكمات مقصود منها تحقيق العدالة ومحاسبة من أجرموا في حق الشعب السوداني، لكن جلساتها لم تخلُ من فصولٍ عبثيةٍ في غاية الامتياز
أبرز ما يميز مسرح العبث، أو اللامعقول، والذي تمثل مسرحية "في انتظار غودو"، واحدة من أبرز محطاته وتجلياته، أنه غامضٌ ومبتور الحوار، تعوزه الموضوعية، والترابط والتجانس، ومن الممكن أن تتحدث جميع الشخصيات في مسرح العبث، دون أن يتمكن أحدٌ منهم من فهم الآخر، ولا توصيل رسالته له. وهكذا تنخرط خشبة المسرح على أشدها في الأسئلة المعلقة، والإجابات الجوفاء البلهاء، عديمة المعنى والفهم.
اقرأ/ي أيضًا: زيارة بومبيو.. التطبيع وقضايا أخرى
صحيح أن جانبًا مهمًا في المحاكمات التي تنعقد لمنسوبي النظام السابق، وللمشاركين والمنفذين للانقلاب العسكري الذي أتى بالإسلاميين للحكم في حزيران/يونيو 1989؛ يحقق العدالة التي خرج لأجلها السودانيون في ثورة كانون الأول/ديسمبر 2018، ورفعوها شعارًا أوحدًا لثورتهم: حرية سلام وعدالة.
وصحيحٌ أيضًا أن هذه المحاكمات المقصود منها تحقيق العدالة، ومحاسبة من أجرموا في حق الشعب السوداني طوال فترة حكم الإسلاميين السودانيين في العقود الثلاثة الأخيرة. لكن في الجانب الآخر، فإن هذه المحاكمات لم تخلُ جلساتها من فصولٍ عبثيةٍ في غاية الامتياز.
فصول عديدةٌ من مسرح العبث ضجت بها مواقع التواصل الاجتماعي أثناء المحاكمة، وما تزال تضج حتى وقت الكتابة هذه. وتبدت هذه الفصول في ردود المتهمين، بدءًا من الرئيس المعزول عمر البشير، الذي أجاب عندما سئل عن محل سكنه، أجاب: سجن كوبر، وهو السجن الذي يقبع فيه منذ السادس من نيسان/أبريل من العام الماضي. وكذلك إجابته عن وظيفته، حيث رد وابتسامة واسعة ممتلئة البله ترتسم عليه: رئيس جمهورية سابق. قال البشير جملته الأخيرة، فيما تحولت ابتسامته البلهاء، إلى ضحكةٍ بلهاء وهو يعود إلى مقعده في قفص المتهمين.
اقرأ/ي أيضًا: القضية الفلسطينية كما يجب أن نفهمها
الفصل العبثي الثاني، كان في رد، المتهم الآخر، علي الحاج، طبيب النساء والتوليد، وأحد قيادات الحركة الإسلامية، الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي، الذي أسسه حسن الترابي، عقب مفاصلة الإسلاميين في العام 1999. علي الحاج، رد على سؤال جنسيته، بأنه: ألماني من أصول سودانية. في الوقت الذي يترأس فيه حزبًا سودانيًا. وهي إجابةٌ عديمة الحساسية الوطنية، حتى ولو أنه استمع إلى آراء محاميه، بأن يقول ذلك، في محاولة لإيجاد ثغراتٍ قانونية في قضية اتهامه مستقبلًا، بالرغم من أنه عندما شارك في التخطيط للانقلاب العسكري، لم يكن قد نال الجنسية الألمانية بعد، بل نالها عقب المفاصلة، ومغادرته لألمانيا.
رد "الطيب سيخة" على القاضي قائلًا: متزوج من أربع زوجات، ثم استدرك سريعًا: ثلاثة، وعند سؤاله عن عمله أجاب بعد صمت طويل "باحث"
الفصل العبثي الثالث صدر من المتهم إبراهيم نايل إيدام، ضابط القوات المسلحة، وأول وزير للشباب والرياضة عقب الانقلاب العسكري. سئل إيدام عن اسمه، فأجاب حتى جده الثالث. ثم سئل عن ديانته، فأجاب: مسلم وتجاني. حيث لم يكتفٍ بكونه مسلم أو غيره، لكنه أضاف إليها طريقته الصوفية التجانية. والتجانية طريقة صوفية منتشرة في السودان، كما في غيرها من البلدان العربية والإفريقية.
فصل المحاكمة العبثي الرابع، صدر من الطيب إبراهيم محمد خير، الطبيب وضابط القوات المسلحة، والمشهور بلقب "الطيب سيخة". رد الطيب على سؤال القاضي عن حالته الاجتماعية، فقال: متزوج من أربع زوجات، واستدرك سريعًا وقال: ثلاثة. ثم سأله قاضي المحكمة عن عمله، فأجاب بعد صمتٍ لأكثر من ست ثواني: باحث. وكأنه يتذكر مهنته. ردوده الغارقة في العبث على السؤالين؛ أغرقا قاعة المحكمة في فاصلٍ من الضحك.
فهل اقتصرت فصول العبث في جلسات محاكمات متهمي مدبري انقلاب الإنقاذ عند هذا الحد؟ وتوقفت عند هذه الردود. أو على إصرار هيئة الدفاع على تقديم مبرر نقل المحاكمات إلى أمكنةٍ أخرى تراعي الظروف الصحية المرتبطة بجائحة كورونا؟ أو على منسوبي النظام السابق، قليلي العدد، وهم يهتفون خارج قاعة المحكمة، ويقل عددهم كل مرةٍ وأخرى؟ أو على بعض السيدات اللائي تنطلق تكبيراتهن عند ظهور المتهمين وهم في طريقهم للمحاكمة؟ بالطبع لا.
اقرأ/ي أيضًا: تقاسم مقاعد الحكم الولائي.. نهش جسد الوطن المنهك
ففي الجلسة السابقة، قدم عضو هيئة الدفاع عن المتهمين فاصلًا من المرافعة، ضمنها ضرورة اهتمام القاضي بالدفاع عن القضاء، وأن ينتبه إلى استقلالية القضاء، حتى لا يكون مصيره كالقضاة الذين تم فصلهم من الخدمة الأسبوعين الماضيين، بتهمة الانتماء للنظام السابق.
فصول العبث والملهاة في جلسات محاكمات منسوبي النظام السابق ابتدأت وليس مستبعد أن تتواصل، فالإنقاذ ممتلئةٌ بالعجائب
كان رد القاضي على أبوبكر عبدالرازق، مقتضبًا: "ما عندك شغلة بي". وتعني لا دخل لك بي، ولا يعنيك أمري. وما هي إلا لحظات حتى انتشر مقطع الرد المقتضب والحاسم على وسائل التواصل الاجتماعي، مذيّلًا بالسخرية والتنكيت.
وعلى أي حال، فالشاهد أن فصول العبث والملهاة، في جلسات محاكمات منسوبي النظام السابق، ابتدأت، وليس مستبعد أن تتواصل، فالإنقاذ ممتلئةٌ بالعجائب، ولا تنقضي عجائبها.
اقرأ/ي أيضًا