18-ديسمبر-2019

محمد حمدان دقلو (Getty)

نشر موقع غولبال ويتنس تحقيقًا عن مليشيا الدعم السريع يكشف فيه عن مصادر تمويلها الداخلية والخارجية، وارتباطاتها الإقليمية، إلى جانب معلومات هامة عن أنشطة قائدها حميدتي التجارية في تعدين وتهريب الذهب مع افراد أسرته، وكيفية إدارته للمليشيات التي يقودها في حرب اقليمية باليمن، وكيفية تحصيله لهذا الكم الهائل من السلطة والثروة حتى أصبح خطرًا يهدد التحول الديمقراطي بالسودان. ينشر الموقع هنا الترجمة الكاملة للتقرير.


في نيسان/أبريل 2019 أطاحت الانتفاضة التي اندلعت في السودان، بالبشير من سدة الحكم بعد (30) عامًا قضاها رئيسًا للبلاد. ودخلت البلاد مرحلة جديدة يتقاسم فيها المدنيون السلطة مع الجيش السوداني في المجلس السيادي الحاكم.

وبالقرب من رأس المجلس السيادي يقف محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي" والذي يرأس أقوى مليشيا مسلحة غير نظامية في السودان، وهي قوات الدعم السريع.

مؤخرًا أتهم عددًا كبيرًا من الشهود قوات الدعم السريع والشرطة السودانية بارتكاب مجزرة ضد المتظاهرين الداعين للديمقراطية في اعتصام القيادة العامة بالخرطوم

ظهر حميدتي لأول مرة على الساحة السودانية بصفته واحدًا من قادة الجنجويد، وهي ميليشيا عسكرية عملت في دارفور وكانت مسؤولة عن قتل عددٍ كبير من المدنيين.

اقرأ/ي أيضًا: انعقاد مؤتمر أصدقاء السودان والتزام بالمساهمة لتحقيق انتقال ديمقراطي ناجح

ومؤخرًا اتهم عدد كبير من الشهود قوات الدعم السريع والشرطة السودانية بارتكاب مجزرة ضد المتظاهرين الداعين للديمقراطية في اعتصام القيادة العامة بالخرطوم في الثالث من حزيران/يونيو 2019، والتي قتل فيها أكثر من (100) قتيل بحسب تقارير مجموعات حقوق الإنسان. لكن حميدتي أنكر تورط قوات الدعم السريع في المجزرة.

واليوم تكشف شبكة غلوبال ويتنس Global Witness عن عددٍ من الوثائق الأصلية، ترسم ملامح شبكة التمويل التي تدعم حميدتي وقوات الدعم السريع. لم تستولِ هذه القوات على جزءٍ كبيرٍ من صناعة الذهب في البلاد عبر شركة مرتبطة بها وحسب، بل تظهر بيانات البنوك المسربة استخدامهم لعدد من الشركات كواجهة، والبنوك في السودان والإمارات العربية المتحدة لتسيير أعمالهم وإتمام صفقات مشترياتهم.

بعض وثائق الشركات والبنوك نشرت أول مرة من قبل قناة "البعشوم" السودانية الساخرة على الإنترنت، في حين حصلت شبكة غلوبال ويتنس على بقية الوثائق خلال تحقيقها الذي أجرته.

استوثقت الشبكة من صحة الوثائق عبر المقابلات الشخصية وسجلات الشركات وأساليب التحقيق مفتوحة المصدر ومنها تحليل معلومات البنية التحتية للمواقع. وبناء عليها استقر في يقينها صحة الوثائق.

تظهر الوثائق التي نشرتها قناة البشعوم شراء قوات الدعم السريع لما يقارب (1000) شاحنة تويوتا بيك أب، يتم تحويلها بسهولة إلى عربات قتالية تحمل مدافع رشاشة، استخدمتها المليشيا لقمع الانتفاضات في جميع أرجاء البلاد خلال العقد الماضي.

اقرأ/ي أيضًا: مصادر خاصة: قوش والمهدي اتفقا على استلام السلطة وتقاسما ملايين الدولارات

وتظهر الصور الملتقطة قبل ساعات من مجزرة 3 حزيران/يونيو، وصول عددٍ كبير من قوات الشرطة ومليشيا الدعم السريع إلى المكان في سيارات تويوتا لاند كروزر وهايلوكس. لا نستطيع التأكيد على أن السيارات الواردة في الصفقة الموصوفة هي نفسها المستخدمة في قمع الاعتصام، لكن الشبكة وجدت عشرات مقاطع الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي تظهر مركبات مشابهة استخدمت في قمع التظاهرات وضرب واعتقال المتظاهرين وإطلاق النار عشوائيًا في المناطق المدنية.

صعود نجم حميدتي

نشأ حميدتي في قبيلة ترعى الإبل في دارفور، وبرز على الساحة في 2003 بوصفه واحدًا من قادة مليشيا الجنجويد التي استخدمها عمر البشير لقمع التمرد في دارفور غربي البلاد. هجرت الجنجويد ملايين البشر ولعبت دورًا أساسيًا في الصراع الذي قتل فيه ما يقارب 300 ألف مدني. وكان اسم حميدتي من الشهرة بمكان، لدرجة وروده في مذكرة اعتقال عمر البشير التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية، لجرائمه ضد الإنسانية وارتكابه جرائم حرب.

وحين اندلعت الحرب مجددًا في دارفور عام 2013، قاد حميدتي قوات الدعم السريع حديثة التشكل في قتالها ضد متمردي دارفور ومجددًا شابت حملتها اتهامات بانتهاك حقوق الإنسان ضد المدنيين. تضم قوات الدعم السريع آلافًا من مقاتلي الجنجويد السابقين وكانت تتبع مباشرة للبشير باعتبارها قوة موازية للجيش النظامي.

تربح حميدتي وقوات الدعم السريع من سيطرتهم على مناجم الذهب في جبل عامر في دارفور. ودفعت أتعاب مرتزقة قوات الدعم السريع الذين يقاتلون في اليمن من قبل الإمارات، وهو ما يمثل مصدر دخلٍ آخر بالنسبة للمليشيا. قوات الدعم السريع غنية بما يكفي ليتعهد حميدتي بتقديم أكثر من مليار دولار للبنك المركزي في السودان في أعقاب الأزمة الاقتصادية والمظاهرات التي أطاحت بالبشير في نيسان/أبريل 2019.

اقرأ/ي أيضًا: رئيس الوزراء في واشنطن.. مساران إيجابيان أمام السودان لتجاوز العقوبات

حينها أدعى حميدتي بأنهم وضعوا 1.027 مليار دولار في بنك السودان المركزي لدعم الدولة في شراء الموارد الأساسية من بترول وقمح ودواء في بداية الأزمة. وصرح قائلًا "يسأل الناس من أين حصلت قوات الدعم السريع على هذه الأموال؟ نحن لدينا رواتب قواتنا التي تقاتل في الخارج واستثماراتنا في الذهب واستثمارات أخرى".

شبكة شركات الواجهة والبنوك التي تدعم حميدتي

يكشف تحقيق الشبكة لأول مرة عن آليات تمويل قوات الدعم السريع وقبضة حميدي وعائلته المقربة المحكمة على مقاليد التمويل في المليشيا.

أحد مصادر الدخل الرئيسي لقوات الدعم السريع هي إحدى شركات تجارة الذهب الكبرى تسمى الجنيد لتجارة المعادن

إلى جانب مدفوعات المقاتلين السودانيين في اليمن، أحد مصادر الدخل الرئيسي لقوات الدعم السريع هي إحدى شركات تجارة الذهب الكبرى تسمى الجنيد لتجارة المعادن. ويبدو أنه بواسطة هذين المصدرين تمكن حميدتي من السيطرة على جزء كبير من سوق تجارة الذهب في السودان، وتستخدم المليشيا أيضًا شركات وحسابات بنكية في الإمارات العربية المتحدة والسودان لتلقي التمويل.

نشر موقع البشعوم على صفحته بفيسبوك سجلات تحويلات بنكية لشركات وصفها بأنها تابعة لقوات الدعم السريع. تظهر الوثائق المسربة وسجلات الشركات الرسمية بالإضافة إلى النسخ المؤرشفة من مواقع الشركات، اثنتين من شركات الواجهة هما GSK وهي شركة تقنية وأمنية صغيرة في السودان، وأخرى تسمى تراديف للتجارة العامة في الإمارات العربية المتحدة، وكلاهما مملوكتان لأشقاء حميدتي.

يبدو أن تراديف حولت الأموال إلى قوات الدعم السريع، في حين كان بعض الأشخاص المرتبطين بشركة GSK منخرطين في عمليات الشراء التي قامت بها قوات الدعم السريع. ويبدو أن قوات الدعم السريع لها علاقات مالية وثيقة مع شركة الجنيد، وهي شركة لتجارة الذهب والمقاولات يمتلكها شقيق لحميدتي، الذي يشغل منصب نائب رئيس قوات الدعم السريع.

اقرأ/ي أيضًا: مفاوضات سد النهضة وحرب الوسطاء.. هل يبقى السودان على الحياد؟

لا يخضع تمويل قوات الدعم السريع لا للجيش السوداني ولا للعناصر المدنية في حكومة البلاد. تظهر الوثائق المسربة امتلاك قوات الدعم السريع لحساب باسمها في بنك أبو ظبي الوطني (يمثل الآن جزءًا من بنك أبو ظبي الأول). ويمثل هذا الأمر دليلًا على الاستقلال المالي لقوات الدعم السريع. لكن المتحدث الرسمي للجيش السوداني أنكر امتلاك قوات الدعم السريع ميزانية منفصلة عن ميزانية القوات المسلحة السودانية.

ينص القانون الغامض المشرعن لوضع قوات الدعم السريع الذي صدر في 2016، على أن هذه المليشيا تتبع مباشرة لرئيس الجمهورية باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة، مما يشير إلى أنها ليست خاضعة ماليًا للقوات المسلحة، ناهيك عن العناصر المدنية في المجلس السيادي.

النتيجة الثانية التي وصل إليها التحقيق هي أن شركة واجهة محتملة هي تراديف للتجارة العامة التي يمتلكها شقيق حميدتي، تسرب الأموال إلى قوات الدعم السريع. تظهر الوثائق المسربة انتقال الأموال جيئة وذهابًا بين حساب الشركة وحساب قوات الدعم السريع، فقد تلقت الشركة ما يقرب من 50 مليون درهم (11 مليون دولار) من قوات الدعم السريع، على أربع دفعات بين نيسان/أبريل وتموز/يوليو من هذا العام. وورد في تقرير آخر تلقي حساب قوات الدعم السريع لمبلغ (48) مليون درهم (11 مليون دولار) من شركة تراديف. واطلعت شبكة غلوبال ويتنس على معلومات من وزارة التنمية الاقتصادية في دبي تؤكد امتلاك القوني حمدان دقلو، شقيق حميدتي للشركة وأنه المنتفع الأول منها. وتذكر إحدى الوثائق سبب تحويل الأموال من حساب تراديف إلى قوات الدعم السريع بأنه تحويل "إلى شركة شقيقة". مما يرجح كفة القول بأن تراديف هي شركة واجهة لقوات الدعم السريع تسرب الأموال إلى حساب هذه المليشيا ومنها لإتمام المعاملات التجارية دون تورط المليشيا بشكل مباشر وصريح.

اقرأ/ي أيضًا: السودان.. "الانقلاب" ممنوع بأمر "الشعب" و"الديمقراطية" محروسة بإرادة الجماهير

أما النتيجة الثالثة التي وصل إليها التحقيق، هي استيلاء حميدتي وعائلته على جزء كبير من سوق الذهب السواني واستخدامهم لأرباح هذه التجارة في تمويل قوات الدعم السريع. يفسر الكثيرون صعود حميدتي إلى السلطة باستيلائه وبالقوة على مناجم الذهب في جبل عامر بإقليم دارفور، وارتبط اسمه باسم شركة لتجارة الذهب تسمى الجنيد. تكشف وثيقة حصلت عليها الشبكة أن الشركة مملوكة لثلاثة من عائلة دقلو، هم عبد الرحيم حمدان دقلو، شقيق حميدتي واثنين من أبنائه، ووفقًا للوثيقة، حميدتي نفسه عضو في مجلس إدارة الشركة.

تشير تقارير صحفية إلى أن عبد الرحيم دقلو مالك الشركة هو نائب قائد قوات الدعم السريع، وفي محاكمة البشير قال مدير مكتبه إن عبد الرحيم تلقى خمسة ملايين يورو من البشير بحضور أخيه حميدتي. ويزعم أن عبد الرحيم كان مسؤولًا عن مجزرة الثالث من حزيران/يونيو، وذلك وفقًا لما نقلته بي بي سي عن ضابط من قوات الدعم السريع لم تذكر اسمه، قال إن عبد الرحيم أصدر أمر فض اعتصام الخرطوم. في وثيقة مسربة أطلعت عليها شبكة غلوبال ويتنس، تظهر قيام قوات الدعم السريع بتحويل (186) ألف دولار نيابة عن شركة الجنيد، في وقتٍ كانت فيه الشركة مدينة بحسب رجال أعمال سودانيين مطلعين على الموقف.

تنفي الشركة أي علاقة لها بقوات الدعم السريع، لكن خريطة خاصة بشركة الموارد المعدية السودانية المملوكة للدولة تظهر امتلاك شركة الجنيد لحق التعدين في جبل عامر وهي المنطقة التي سيطرت عليها قوات الدعم السريع بالقوة في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2017، وتحتوي على واحدٍ من أكبر احتياطيات الذهب والمعادن في البلاد وفقًا لوزارة التعدين. وتعمل الشركة كذلك في مناطق أخرى غير دارفور منها جنوب كردفان، ولها حضور في أسواق الذهب في الشمال في مناطق أبو حمد والعبيدية.

ووفقًا لوكالة أنباء محلية سودانية، اندلعت مظاهرات في جنوب كردفان ضد الاستخدام الزائد للزئبق في مناطق التعدين التابعة لشركة الجنيد، ووصلت قوات الدعم السريع محمولة على عربات اللاند كروزر والهايلوكس لقمع التظاهرات مما أدى إلى إصابة عدد من المتظاهرين.

صفقة شراء سيارات للدعم السريع تمت في دبي

تظهر وثيقة الحسابات المسربة من قوات الدعم السريع أن المليشيا تلقت أكثر من (40) مليون دولار للدعم الفني من جهة مجهولة واستخدمت منها (30) مليون دولار لشراء سيارات ومعدات اتصالات. وتظهر الوثيقة أن قوات الدعم السريع اشترت أكثر من ألف سيارة خلال النصف الأول من عام 2019، من تاجر في الإمارات. تضمنت الشحنات أكثر من (900) سيارة هايلوكس ولاند كروزر، وهي الطرازات التي تحولها قوات الدعم السريع عادة إلى عربات قتالية رباعية الدفع مزودة بمدافع رشاشة. ولم يرد دليل على أن شركة تويوتا كانت على علم بأغراض شراء هذه السيارات في وقت الصفقة.

ما لم يتزحزح حميدتي من موقعه هذا وتخضع كل القوات العسكرية السودانية لإشراف مالي واستراتيجي مدني، فسيظل الرجل وقواته عقبة أمام مسيرة التحول الديمقراطي في السودان

بحسب الوثيقة، قامت قوات الدعم السريع بدفع مبلغ مالي بالنيابة عن شركةGSK  لتكنولوجيا المعلومات والأمن، التي يديرها شقيق حميدتي الأصغر "القوني حمدان دقلو". قامت قوات الدعم السريع كذلك بإجراء عدة تحويلات إلى القوني أو بالنيابة عنه إلى شبكة الأصدقاء المحيطين بالقوني. في المجمل دفعت قوات الدعم السريع أكثر من (2.5) مليون دولار إلى شركات في الخارج عبر شبكة من مندوبي المشتريات في دول مثل الإمارات ورواندا وماليزيا والصين. وقام أشخاص من داخل هذه الشبكة بزيارات إلى ألمانيا وروسيا وهولندا، وتظهر الوثيقة قيام قوات الدعم السريع بتحويل أموال إلى هذه الدول.

في ختامه خلص تحقيق الشبكة إلى أن حميدتي يتربع على عرش إمبراطورية عسكرية ومالية كبيرة. فهو يسيطر على أكبر قوة عسكرية في البلاد، ولديه مصدر ثروة مستقل. وما لم يتزحزح من موقعه هذا وتخضع كل القوات العسكرية السودانية لإشراف مالي واستراتيجي مدني، فسيظل الرجل وقواته عقبة أمام مسيرة التحول الديمقراطي في السودان.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مليونية الوحدة.. هل تتحقق أمنيات الاتحاديين؟

هياكل الحكومة الانتقالية في السودان.. الصراع الخفي!