29-نوفمبر-2019

ثوار سودانيون (Getty)

الطابور المدرسي الصباحي الذي كان يضج بالهتافات يوم انفصال جنوب السودان، ما زلتُ أتذكره حتّى يومنا هذا. طلاب الثانوية تسرقُ الشمس من تحت أقدامهم ظلالهم التي كانت تنعكس، وهم يرفعون أيديهم كأنها أيدي مقاتلي "الدفاع الشعبي"، الذين تزينت بهم شاشات تلفاز السودان عشيات العقد الأول من الألفية كل مساء جمعة. خطاباتٌ، كانت الحركة الإسلامية تنشرها على مدى ثلاثة عقود قبل أن تنقلب على عقبيها تجاه مشروعها نفسه، الذي بدأ بنوازع دينية أُلغيتْ فيها الوطنية، وصوّر الآخر من جزء الوطن الجنوبي، كأنه مسخ يريد أن يشوّه أراضي الشمال، فضجت الخرطوم وبقية مدن السودان بهتافات "خيبر خيبر يا يهود" إلى "أمريكا روسيا قد دنى عذابها". كل هذه الشعارات لم تكن تستخدم إلا تجاه مواطني السودان أنفسهم. وبرع نظام الإنقاذ في استخدام القضية الفلسطينية، متاجرًا بها في وسط شعب يعتبرها إحدى قضاياه المركزية، ولا يتردد في نصرتها. ألغى النظام البائد البعد الإنساني لقضية فلسطين كلية، وصار تركيزه على البعد العقدي لها، فتقزمت معه أرض فلسطين المحتلة لتصير فقط المسجد الأقصى، فتلك أيديولوجيته وهذا فهمه لقضية الشعب الفلسطيني، كان قادة النظام يستخدمون مناصرتهم المدعاة للقضية الفلسطينية في مواجهة خصومهم السياسيين، ليظهروا أحقيتهم بالاستفراد بالحكم، فهم حماة الديار والمدافع عن شرف الأمة. لكن؛ من حاربت الحركة الإسلامية السودانية ومن الذي قاتلته بمشروعها الشمولي، هل قاتلت العدو الصهيوني المحتل؟

قاتل النظام البائد السودانيين أنفسهم، وحارب أجزاءً من الوطن بمشروعية دفاعه عن القضية الفلسطينية

لقد قاتلتْ السودانيين أنفسهم، وحاربت أجزاءً من الوطن بمشروعية دفاعها عن القضية الفلسطينية. فبينما كانت نساء السودان يتبرعن بحُليّهن لنصرة القضية الفلسطينية، كانت تذهب عائدات تلك المجوهرات إلى جيوب قادة النظام وإلى تمويل حربه المستمرة ضد أبناء الوطن، فنقل النظام حربه إلى جميع أطراف السودان، حرقًا وقتلًا وتنكيلًا واغتصابًا لمجموعات إثنية، رأى النظام أنها مهددة له فهجّرها ونكّل بأبنائها. فشكّل بذلك انفصالًا واضحًا في الوجدان الشعبي تجاه القضية الفلسطينية، التي مثّلت للنظام خطابًا دسمًا يقتات عليه كلما تململ الناس من معاناتهم.

اقرأ/ي أيضًا: "دهماء" الاقتصاد السوداني وفرص نجاح الانتقال

بصعود قضية دارفور إلى منصات الإعلام وبداية الحرب فيها، زاد عدد المهاجرين من الإقليم المنكوب إلى "الأراضي الفلسطينية المحتلة" أضعافًا مضاعفة، وشكّل ذلك خطابًا عكسيًا وسط العديد من شرائح المجتمع التي كانت تعاني من شمولية النظام الإسلاموي، حتّى أنّ عبد الواحد محمد نور قائد حركة تحرير السودان قدّمَ مباركته الكاملة لافتتاح مكتب لحركته في الأراضي المحتلة، وانعكس ذلك أيضًا على اليسار السوداني الذي يمكن أن نقول أنّه كان يدعم قضايا تحرر الشعوب ومن بينها القضية الفلسطينية. وصارت الجفوة للقضية الفلسطينية ومناصرتها واضحة للعيان أوساط الطلاب والمثقفين -الذين كانت تضج بهم سوح الجامعات السودانية- استخدموا مقولة "دارفور أقرب من فلسطين"، ووقعوا بذلك في ذات الفخ الذي سبق وأن وقع فيه النظام، حينما تغافل عن البعد الإنساني  للقضية الفلسطينية، فألغى اليسار بذلك أهم أجزاء مشروعه السياسي، ألا وهو مناهضة الاستعمار، والذي يُمثّل الكيان الصهيوني أعلى قمة هرمه الإمبريالي.

نجحَ النظام في شيطنة القضايا العادلة القائمة على الروح التي من أجلها حملت جميع أطراف السودان السلاح ضده. هذا الشرط العقائدي للقضية الفلسطينية الذي فصله نظام "الإنقاذ"، جعلَ من التضامن مع قضية الشعب الفلسطيني في الأوساط السودانية مدعاة للسخرية في مواقع التواصل الاجتماعي، مع أن ممارسات نظام الإنقاذ والكيان الصهيوني هي ممارسات من نفس النوع، فكلاهما يقوم على أساس الفصل العنصري واغتصاب الأرض والتهجير والقتل الممنهج، كما أن الدولتين، دولة المشروع الحضاري البائد ودولة الاحتلال والفصل العنصري تعرفان أنفسهما بالدين والعرق. قُصفت القرى في دارفور وفي جبال النوبة والنيل الأزرق كما قصفت غزة لذات الأسباب. لكن برغم كل ذلك لم يستطع اليسار السوداني النجاة من هذا الفخ أيضًا؛ فخ تلوين القضايا بصبغة أيديولوجية واحتكارها. ولا أعتقد أن نكبة الشعب الفلسطيني في عام 1948، تختلف عن مأساة التهجير الممنهج للمجموعات في شمال السودان وجنوبه وغربه، وهو ما يجب أن تعيد القوى السياسية السودانية النظر فيه، بمعنى أن تعيد تعريف القضية الفلسطينية من جديد في أذهان السودانيين، ففلسطين ليست المسجد الأقصى وحده، تلك المقولة التي كان النظام يستغلها لأغراضه السياسية مجهضًاعدالة القضية الفلسطينية وعدالة قضية القدس في وجدان السودانيين.

اقرأ/ي أيضًا: رفقاً بـ"حمدوك".. نُخب فاشلة أم بُناة دولة؟

علينا  أن نعيد تعريف مواقفنا تجاه القضية الفلسطينية وأن نعيد لها الاعتبار

في ثورة كانون الأول/ديسمبر المجيدة تزيّنت جدران الخرطوم بأشعار محمود درويش، في أقصى مناطق ومدن السودان؛ في أحياء العاصمة في الحاج يوسف، وأمبدة، وغيرها. فكان ذلك بمثابة إحياء لجانبٍ من القضية الفلسطينية ظل النظامُ يخفيه تحت الطاولة؛ الجانب الذي به تكتمل إنسانية القضية الفلسطينية وتنبعث روح المقاومة فيها كقضية كونية لكل الشعوب الحرة لا قضية للعرب والمسلمين فقط، ناهيك عن أن تصبح شماعة للأنظمة الشمولية الأيديولوجية والشوفينية لتعلق عليها قذاراتها وترفعها "قميص عثمان" في وجه شعوبها.

إن الثورة التي أعادت تعريف المجتمع السوداني على أسس ومعايير جديدة، حري بها أن تعيد تعريف قضايا الشعب السوداني ومواقفه من محيطه الإقليمي والدولي لتتسق مع مبادئ ثورته، وهذا الهم ملقى على عاتق المثقفين والنخب وغيرهم من الفئات التي عليها كشف الحجب لمن اختلطت عليهم الأمور، وأن فتح الأبواب لإعادة القضايا العادلة إلى موقعها الطبيعي.

لقد آن الأوان أن نواجه اختطاف القضايا وتولينها لنستعيدها ممن اختطفها كما استعدنا وطننا من بين أنيابه، مستعينين بذات الروح التي استعادت بها الثورة السودانية "كولومبيا"، تلك الرقعة التي مثّلت هاجسًا لكثير من الساسة في فكرة تقبلها كجزءٍ من محيط الاعتصام، علينا أيضًا وبذات الروح أن نعيد تعريف مواقفنا تجاه القضية الفلسطينية وأن نعيد لها الاعتبار، لكن هذه المرة بالروح الإنسانية التي حملتها أبيات شعر محمود درويش على جدران هوامش مدن السودان.

 

اقرأ/ي أيضًا

الحقّ في الفوضى

"مدنياااااااااو".. مقدمة لمرجعية أكاديمية