11-نوفمبر-2019

حمدوك أثناء الدورة 74 للجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك (Getty)

يبدو أن الجدل الذي كان سائدًا طوال الفترة الماضية حول طبيعة التمثيل السياسي لحكومة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك كان يختزل التكنوقراط في انتفاء الولاء السياسي والانتماء الحزبي. فتارة تتم الإشارة إليهم بوصفهم كفاءات مدنية فحسب، وتارة أخرى بوصفهم كفاءات مستقلة ومحايدة. فعندما يتحدث الناس عن تكنوقراط أو حكومة خبراء أو كفاءات مستقلة، فإنهم في الغالب يقصدون بذلك تلك الفئة من الكفاءات اللامنتمية سياسيًا لأي حزب من الأحزاب، وبالتالي ليس لديها أي ميل أيديولوجي لتمرير أجندتها السياسية من خلال أجهزة الحكم ومؤسسات الدولة. فوجود هذا الميل يجعل هذه الفئة تطمح من خلال ممارستها للسلطة وإمساكها السيادي بزمام الأمور إلى خلق مراكز قوى وهيمنة داخل البنية التداولية للسلطة. فهذه المراكز تضمن لها عدم فقدان جهاز الدولة حتى لو أصبحت لاحقًا خارج سُدة الحكم وأروقته، ومن ثم العودة مرة أخرى في أي مرحلة من المراحل. بهذه الكيفية تضمن هذه الفئة تثبيت مواقعها داخل جهاز الدولة، بحيث يُمهِّد لها ذلك مد جذور شبكات المصالح والامتيازات وخلق تحالفات طبقية مع أي قوى اجتماعية تتقاطع مطامحها ومصالحها معها لاحقًا. لكن هنالك أبعاد أخرى أعمق وأشمل من مسألة انتفاء الولاء الأيديولوجي والانتماء الحزبي لهذه الفئة من التكنوقراط التي تولَّت الآن إدارة الفترة الانتقالية وتُمسك بزمام إنفاذ حزمة من الإصلاحات الهيكلية تبعًا للمعطيات والمتغييرات والتحديات التي سيفرزها الواقع تباعًا.

هل السياق التاريخي والسياسي الراهن سيسهم إيجابًا في جعل طاقم الحكم الانتقالي قادرًا على إدارة هذه الفترة بشكل آمن وسلس وممرحل؟

في الواقع سننحو بالتفكير في اتجاه التركيز على السياق التاريخي والسياسي الراهن. لأن هذا السياق كفيل بتحديد إلى أي مدى ستكون آفاق الإصلاحات الهيكلية لجهاز الدولة مُشرعة وواعدة ووممكنة. إننا نتساءل: هل السياق التاريخي والسياسي الراهن سيسهم إيجابًا في جعل طاقم الحكم الانتقالي قادرًا على إدارة هذه الفترة بشكل آمن وسلس وممرحل، على ذلك النحو الذي سيخلق قاعدة بناء راسخة وقوية لمشروع إعادة بناء الدولة ومؤسساتها، أم على النقيض منذ ذلك سيؤدي إلى تعميق الاختلالات التي يعاني منها جهاز الدولة ويسد الآفاق أمام إيجاد حلول جذرية لقضايا النزاعات والحروب وللمشكلات الاجتماعية والثقافية الناجمة عن الفوارق الاقتصادية والتفاوتات التنموية بين الحضر والريف؟ فهذا التساؤل لا يستتبع أي افتراض إن كان طاقم الحكم الحالي يتمثَّل في حكومة تكنوقراط أو حكومة محاصصات حزبية أو حكومة خليط من ممثلين تكنوقراط وحزبيين أو حكومة خبراء. وذلك نظرًا للأهمية القصوى للسياق التاريخي والسياسي الراهن في تحديد ملامح الشكل الأنسب لإدارة الفترة الانتقالية بغض النظر عن المؤهلات الأكاديمية والتقنية والخلفيات الأيديولوجية والسياسية لطاقم الحكم والأطراف الأخرى الفاعلة في إدارة العملية السياسية خلال هذه الفترة.

اقرأ/ي أيضًا: رِفقًا بـ"حمدوك": ساحر بلا عصا أو معجزات (1-4)

لقد شكَّل انفصال جنوب السودان في العام 2011 حدثًا مفصليًا في تاريخ الحكم الوطني منذ الاستقلال. كما مثَّل تحديًا جسيمًا لنخبة حركات الكفاح المُسلَّح ولخطاب المظالم التاريخية وقضايا المركز والهامش. فانفصال الجنوب فتح أفق التسويات السياسية لقضايا النزاعات والحروب والسلام نحو خيارات أقل ما توصف به هو أنها خيارات السقوف المطلبية العادلة العالية، لتقع بين حدي حق تقرير المصير والانفصال، على وجه الخصوص بالنسبة لمناطق جنوب كردفان والنيل الأزرق. لكن يبدو أن التحديات الشائكة والمعقدة ستواجه الطرفين: الحكومة المركزية وحركات الكفاح المسلح. فكل طرف مطالب باجتراح أفق جديد تجاه الحقوق التاريخية والقضايا العادلة لكل مناطق النزاعات في السودان. فمن جهة، نجد أن هذا التحدي العاصف يفرض علي حكومة الفترة الانتقالية إنتاج خطاب وطني شامل يعالج قضايا النزاعات والحروب والسلام بعيدًا عن منطق التسويات التاريخية المنقوصة القائم على الكثير من الافتراضات المسبقة والتكتيكات الإجرائية والخيارات المسدودة الأفق. إن التحدي الأبرز الذي سيواجه حكومة الفترة الإنتقالية يتمَّثل في التحرر بقدر الإمكان من العقلية النخبوية المركزية القصيرة النظر والمحدودة الآفاق. فهذه العقلية تستمتد انحيازاتها السياسية والثقافية والتنموية للمناطق الحضرية على حساب نظيرتها الريفية من نمط السيطرة الكولنيالي المتوارث على جهاز الدولة منذ استقلال السودان. فهذا النمط أفرز حاضنة نخبوية أخذت تتناسل منها فئات صغيرة تعمل على توظيف هذا الجهاز كأداة لنهب الموارد والثروات، من جهة، وللحفاظ على  امتيازاتها ومصالحها وتكريسها للأوضاع القائمة المقاومة لأي تغيير يمكن أن تنعكس ثماره على كل السودانيين، من جهة أخرى. فحجر زاوية الإصلاحات الهيكلية التي سوف تشرع فيها الحكومة الانتقالية خلال الثلاث سنوات يتمثَّل في ربط هذه الإصلاحات لجهاز الدولة والاقتصاد الوطني بحل قضايا النزاعات والوصول إلى سلام وطني شامل، بحيث تتمحور هذه الإصلاحات بشكل استراتيجي حول كيفية إعادة توزيع الموارد والثروات بشكل عادل على كل مناطق السودان ومجتمعاته المحلية.

لذلك ينبغي أن تتمحور التسويات السياسية لقضايا النزاعات حول هذا التوجه الاستراتيجي والهيكلي الشامل القائم على إعادة بناء جهاز دولة يُمثِّل كل السودانيين وغير منحاز جهويًا  وثقافيًا وتنمويًا لمناطق ومجتمعات بعينها دون الأخريات. إن تحرُّر حكومة الفترة الانتقالية من سطوة العقلية النخبوية ــ المركزية يفرض في الاتجاه الآخر على حركات الكفاح المُسَّلح إعادة النظر في خطاب التهميش والمظالم التاريخية، وذلك بإنتاج خطاب بديل متجاوز لأي شكل من أشكال الإنغلاق الإقليمي و الجهوي والإثني، ومتحرر من أي شكل من أشكال الاقصاء التي تمارسه نخبة الكفاح المسلح على فئات محلية أخرى فاعلة. ناهيك عن جدل إشكالات التمثيل من عدمه لفئات  قاعدية واسعة من المجتمع المحلي. فالشكل الحالي للتمثيل يسقط من اعتباراته التعقيدات المحلية المُتعِّلقة بالتداخلات الإثنية وعلاقتها بأنماط النزاع الصغرى حول الموارد وآليات إدارة علاقات الأرض، مما يعني انعدام وجود حدود فاصلة على مستوى الأرض والمعايشات اليومية بين كل مجموعة إثنية وأخرى. فهذه التعقيدات والأنماط تفرض على الحركات النزول بخطابها النخبوي المطلبي إلى الأرض وإعادة اكتشاف خارطة التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تكشف إلى أي حد تخضع الصراعات القبلية لعوامل الهيمنة على الموارد أكثر من العوامل الإثنية والسياسية. ففي السنوات الأخيرة، فرضت التغييرات المناخية على المجتمعات المحلية تبني استراتيجيات تكيف قائمة على إحداث تغييرات جذرية في نمطها الرعوي والزراعي، مما نجم تبعًا لذلك تحولات في نمط العيش المشترك والسُكنى والجوار.

اقرأ/ي أيضًا: مواعيد السودانيين!

ففي الوقت الذي أخذ فيه خطاب المركز والهامش يعمل خلال العقدين الأخيرين على تشريح  آليات الهيمنة الإسلاموعروبية على جهاز الدولة الحديثة، أخذت الانقسامات داخل حركات الكفاح المسلح تأخذ طابعًا إثنيًا لا يقل ضراوة عن الهيمنة الإسلاموعروبية القابضة. فالصراعات الخطية بين الدينكا والنوير داخل الحركة الشعبية لتحرير السودان لم تكن تقل عن الصراع الخطي بين الشمال والجنوب، إلا من حيث آليات الصراع ومستوياته واتجاهاته. كما كشفت الصراعات داخل أجسام حركات دارفور إلى أي حد يلعب تقنيع الصراع بالطابع الإثني دورًا في تقويض منطق خطاب المطالب التاريخية من الداخل. فالتمركزات الإثنية أخذت تنمو وتستشري في الهوامش وتتغَّذى من الاستقطابات والصراعات الداخلية لحركات الكفاح المسلح الدارفورية. فلا تزال تجربة جنوب السودان ماثلة أمامنا، من فرط التدمير الذاتي الممنهج. فغداة الانفصال وإعلان الاستقلال في العام 2011، ولغ الجميع في حمامات الدم والاقتتال الذي أذكى ناره وغى التكتلات الإثنية. وكأن مارد التمرُّكز الإثني الذي قطع الانفصال رأسه في الشمال أخذت رؤوسه الأخرى النائمة تصحو وتفترس الكل في دولة الجنوب الوليدة، التي وحدت بين مجموعاتها الإثنية والقبلية قضايا الكفاح المشترك والحقوق التاريخية العادلة. إن من إسباب انهيار مشروع الدولة في جنوب السودان هو إعادة إنتاج الهيمنة وفرض خيارات النخبة الممسكة بزمام الأمور على خيارات الأغلبية، ناهيك عن غياب الحوار بين النخب الجنوبية والمجتمعات المحلية.

شرع شعار الثورة "يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور" أبوابًا أوسع وأرحب من الانتماءات الإثنية والجهوية والجغرافية والأيديولوجية الضيقة

تُمثل الفترة الانتقالية الحالية في السودان فرصةً تاريخية ربما لن تتكرر مرة أخرى لطاقم الحكم الحالي ولنخبة الكفاح المسح معًا. وهي فرصة تستمد إلهامها من أدبيات المد الشعبي الواسع لثورة كانون الأول/ديسمبر 2018. لقد شرع شعار الثورة "يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور" أبوابًا أوسع وأرحب من الانتماءات الإثنية والجهوية والجغرافية والأيديولوجية الضيقة. فهي ثورة كل السودانيين الذين وحّد بينهم الفشل التاريخي المتراكم للحكومات الوطنية السابقة. فهل نحن على أعتاب مرحلة جديدة من مراحل التحرر من أمراض وأوهام خطابات الهيمنة والهيمنة المضادة؟ حيث يرتقي الجميع لمشروع بناء الدولة، بعد أن يتجردوا من لبوس النخبوية والعمى الأيديولوجي فيتحولوا إلى "بُناة دولة" حقيقيين بدلًا من كونهم حفنة من النخب المتواطئة مع امتيازاتها ومكاسبها الرخيصة، والتي لا تجيد سوى الاختباء الجبان وراء الأقنعة والانقسامات والإقصاءات؟

اقرأ/ي أيضًا

عن وجوه السودان الأخرى

قوى الحرية والتغيير.. أداء مخيب للآمال