07-نوفمبر-2019

الاحتجاجات بالخرطوم على مقتل خمسة متظاهرين بمدينة الأبيض (Getty)

كانت التظاهرات المناهضة لنظام البشير– على أيامنا ومن قبلها– تُسمى ببساطة "مظاهرات". يتم قمعها بقسوة معتادة، تؤدي في كثير من المرات إلى سقوط قتلى في صفوف المتظاهرين. كان الأمر جليًا حينها، فلم يسأل أحد: "لمَ تقتلون المتظاهرين؟". الأمر بديهي: النظام لا يرغب في أن يحتج عليه أحد، إن أردت السلامة فابقَ في بيتك. لا أحد ناقش بجديَّة اتساق هذا الأمر مع حقوق الإنسان من عدمه، فالنظام كله كان خنجرًا في قلب تلك الحقوق، فما جدوى التدقيق في قطعة صغيرة منه؟

ضربات مطرقة الفشل الاقتصادي الثقيلة، وأعاصير السقوط اليومي للدولة؛ جعلت الموت احتمالًا راجحًا في كل حال

لاحقًا، عششت العلاقة بين المظاهرات المضادة للنظام وقتل من يجرؤ عليها، داخل النظام الاجتماعي للأسر السودانية، فصارت هي حائط الصد الأول لردع أعضائها من المشاركة في الأنشطة الاحتجاجية التي ستؤدي غالبًا إلى قتلهم، أو في أحسن الفروض تعرضهم للضرب أو الاعتقال بما يتبعه من تعذيب.

اقرأ/ي أيضًا: السلام الشامل.. بوابة الخروج من الدائرة الجهنمية

لكن هذا الحائط تداعى بفعل التردي اليومي للحياة في السودان. ضربات مطرقة الفشل الاقتصادي الثقيلة، وأعاصير السقوط اليومي للدولة؛ جعلت الموت احتمالًا راجحًا في كل حال. نعم، بقيت المعادلة القديمة المعروفة: الخروج على النظام يساوي الموت، إلا أنها لم تعد معادلة مخيفة مثلما كانت. الآن هناك أدوات لم تكن متوافرة من قبل، بيد أجيال توقها للحرية أكبر من أن تدهسه آلة القمع الصدئة بعد ثلاثين عامًا من الاستخدام المتكرر.

على حين غرة –بالنسبة لي– طفت عبارات من نوع "التظاهرات السلمية" و"المتظاهرين السلميين"، محمولة على ترددات القنوات الإخبارية. لم أشعر بالارتياح إلى هذا التعبير منذ سمعته أول مرة وحتى اليوم، فهو يعطي شرعية صريحة لعنف الدولة ضد مواطنيها. ظل دائمًا يترك سؤالين معلقين برأسي: كيف تحولت التظاهرات إلى "تظاهرات سلمية؟"، ولماذا؟

التقط نظام البشير –كما ينبغي له– السوط الذي أخفته هذه العبارات خلف ابتسامات المذيعات، واستخدمه كما يشاء. ذروة هذا الاستخدام كان في هبة أيلول/سبتمبر 2013 التي برَّر فيها النظام قتل مئات المتظاهرين بـ "لا سلميتهم" متبدِّيةً في حرق محطات الوقود. في ثورة كانون الأول/ديسمبر لم يجد النظام أيّ فرصة، مع الالتزام الفولاذي من المتظاهرين بالسلمية، فدبَّر حادثة مضحكة لكسر واقتحام صيدلية، إلا أن السخرية وعدم إتقان المسرحية جعلها حادثة كوميدية لا يمكن الاستناد عليها لتبرير القتل المفرط أيامها.

في عبارات مثل: "الشرطة تطلق الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين السلميين"، أو "النظام يستخدم العنف المفرط في مواجهة المتظاهرين السلميين"؛ أفكر: ماذا لو حذفنا كلمة "السلميين"، هل سيتلاشى "التعاطف" الذي تظن هذه القنوات أنها تستدرَّه بتأكيد سلمية المتظاهرين؟ فلتكن مظاهرة غير سلمية، أدت إلى تحطيم محلات وحرق محطات وقود... هل هذا مبرر كاف ليدير العالم "الحر!" ظهره للتعاطف مع المتظاهرين هؤلاء، ومن ثم يصبح قتلهم جائزًا وشرعيًا ولا غبار عليه؟

اقرأ/ي أيضًا: حتى لا يسرق شبح الطبقة الوسطى ثورتنا الجذرية

ألا يفكر أحد لماذا تظاهروا في الأصل؟ ما الذي أخرجهم من رتابة الحياة ليحطموا ويحرقوا ويهاجموا مؤسسات دولة يُفترض أنها موجودة لخدمتهم من الأساس؟ هكذا فقط: هم ليسوا سلميين، إذًا فليحدث لهم ما يحدث!!

ثم، ماذا تعني السلمية أصلًا؟ أهي النموذج الذي أصر عليه السودانيون في ثورتهم رغم ما تكبدوه من دماء، حتى لا يمنحوا فرصة لانحياز العالم إلى جلادهم؟ أم تعني أن يواجه العُزَّل  قواتٍ مسلحةً ومدربة على القمع؟ كيف يضع العالم الشعوب في مواجهة الأنظمة مُصرًا على ألا تكون المواجهة متكافئة؟ متظاهرون عزل يواجهون جنودًا عزلًا، إن كانوا مسلحين بالعصي فليكن الجنود مسلحين بالعصي، وهكذا.. لكن أن تجعل الأعزل يواجه من يحمل سلاحًا ناريًا وعصا وعبوة غاز مسيلة للدموع معًا، ثم تطالب الأعزل أن يكون سلميًا؟ أي عالم هذا؟

تكرار عبارة "متظاهرين سلميين" تخبر لا وعينا بأن هناك متظاهرين غير سلميين يستحقون ما سيحدث لهم من قتل وضرب وتعذيب، إذ كيف يجرؤون على المطالبة بحقوقهم بطريقة غير سلمية؟ كيف لهم أن يطالبوا بما يطالبون به أيًا كان، وهم يحطمون واجهات المحلات ويشعلون النار في الوقود، ويقذفون رجل الأمن المسكين بالحجارة وزجاجات المولوتوف؟

تقول جميع خطابات السلطة إنها "لن تسمح بالفوضى". إن كنت في السودان وسمعت أن التظاهر يجب أن يتم بتصديق مكتوب من الشرطة؛ ثم ذهبت كأي مواطن صالح لاستخراج هذا التصديق الخيالي؛ ثم واجهت ما هو معلوم بالضرورة: الرفض؛ فعليك أن تذهب إلى بيتك، فالسلطة لم تسمح لك بالاحتجاج عليها والتظاهر ضدها بعد.. هكذا تكون مواطنًا صالحًا حقًا!

ما الفوضى، إذًا؛ تلك التي لا تسمح بها أي حكومة؟ هل هي الفوضى في الاقتصاد؟ الفساد؟ المحسوبية؟ إهدار الكرامة؟ التغول على الحقوق الإنسانية البسيطة... الخ؟ لا، الفوضى هي أن تخرج إلى الشارع وتهتف ضد كل هذه الأشياء.

اقرأ/ي أيضًا: مواعيد السودانيين!

تمت إعادة تعريف الفوضى لتصبح كل نشاط مناوئ للسلطة، سلميًا أم نصف سلمي، أم مسلحًا. ثم تأتي قنوات الأخبار – أعمدة السلطات وعدوّ الشعوب، لتخبرك أنها تتعاطف معك، فقط كن سلميًا (تُقرأ سلبيًا) في احتجاجك. هذا ما تقوله لك: اجعل احتجاجك بلا "أكشن" حتى تكون فرصة النجاح الأكبر للسلطة، اجعله خفيف الوطء ولا تهدد مصالح الطبقة الحاكمة ولا الامتيازات عابرة القارات، اجعله احتجاجًا لطيفًا يعيد مكياج النظام ولا يغيره، إذا فعلت كل هذا فنحن نساندك، وسنوقظ ضمير العالم ليقف معك، وإلا فأنت متظاهر غير سلمي، ولن يحرك العالم ساكنًا وهو يراك تُسحل بيد من تدفع رواتبهم برغمك!

لكن، لأن الفوضى هي التعبير الأبعد غورًا عن بؤس العالم بالنسبة إلى الأغلبية المحرومة من التنفس، لأنها رد الفعل الكامل على القدم الثقيلة للرأسمالية وأبنائها من النخب خارج المشترك الإنساني وما تفعله في السواد الأعظم؛ لذلك فهي وجه الثورة، هي حقٌّ مثل أي حق.

الحق في الفوضى يوازي الحق في الحياة. بأي منطق تقتلني لأنني حطمت ما تقول إنه ملك لي في الأساس، وما أنت – كسلطة – إلا حارس، موظف لديَّ لإدارته

الحق في الفوضى يوازي الحق في الحياة. بأي منطق تقتلني لأنني حطمت ما تقول إنه ملك لي في الأساس، وما أنت – كسلطة – إلا حارس، موظف لديَّ لإدارته؟ وإن كنت تقتلني لأنه ليس لي، فإنني أريد عبور الكذبة لأعرف: لمن هو؟ وكيف حصل عليه؟.

 

اقرأ/ي أيضًا

السودان.. تاريخ السلطة ومستقبل الديمقراطية

عن وجوه السودان الأخرى