29-يوليو-2023
الحرب في الخرطوم

(Getty)

عندما تدرك محطة الحافلات في منطقة جاكسون وسط العاصمة الخرطوم، ستعرف كيف أن الحرب تنهي كل شيء في لمح البصر، فالمدينة التي كانت طالما يتشكل يومها من هذه المحطة الشديدة الازدحام قبيل الحرب "يكسر صمتها الآن دوي الرصاص والمدافع وحركة ناقلات الجنود".

أسفل جسر شيده الاستعمار البريطاني لعبور القطار والسماح للسيارات بالمرور أعلى الجسر، بدا كبري الحرية وكأنه اختار التوقف عن ضخ الحياة إلى قلب السوق العربي في حرب منتصف نيسان/أبريل.

نحو مليوني شخص فقدوا فرصة العمل في القطاع الخاص المتعلق بالخدمات والنقل والتوصيل والصيانة والتجارة العامة والتجزئة في عاصمة كان يقطنها نحو عشرة ملايين شخص

تقطع السكون في الجسر ومحيطه الفارغ من الباعة والمواطنين، رياح شهر تموز/يوليو العابرة من الجنوب إلى الشمال، أما في قاع المدينة الواقع غربًا لا تجد شيئًا سوى أبواب متاجر وأدوات متناثرة في حرب قد تجد فيها جثث متحللة من فرط الانهيار الإنساني.

اقرأ/ي أيضًا:
يوميات النازحين

في التقاطع المؤدي إلى شارع الجامعة ومقار جامعة النيلين ثم إلى المحلات التجارية في سوق جاكسون تلك التي أنشئت بالمواد البدائية، لم يتبق سوى آثارها، وإن نجت من القصف والمدافع لم تنج من أعمال النهب.

نحو مليوني شخص فقدوا فرصة العمل في القطاع الخاص المتعلق بالخدمات والنقل والتوصيل والصيانة والتجارة العامة والتجزئة في عاصمة كان يقطنها نحو عشرة ملايين شخص وغادرها ما لا يقل عن أربعة ملايين شخص.

إذا كانت الخرطوم لم تستطع استعادة أنفاسها بالسرعة الكافية عقب كل معركة صغيرة مثل حرب اليوم الواحد في أم درمان في أيار/مايو 2008، أو أحداث وفاة زعيم الحركة الشعبية ونائب رئيس الجمهورية جون قرنق في الأول من آب/أغسطس عام 2005، أو حتى الإطاحة بالرئيس المخلوع عمر البشير في 11 نيسان/أبريل 2019، فإن الخرطوم هذه المرة ربما لن تتمكن من استعادة حيويتها سريعًا، فالتداوي من آثار الحرب قد يحتاج إلى "مسؤولية سياسية ومدنية وعسكرية" عظيمة قد لا تتوفر في الوقت الراهن، كما أن المجتمع الدولي الذي جلس متفرجًا على السودانيين في حربهم التي يخوضونها نزوحًا وجوعًا وعنفًا، لا يمكنه أن يمد أياديه الفارغة التي اعتاد مدها في هذا البلد.

في الخرطوم 2 الحي الراقي الذي يقع وسط العاصمة بالقرب إلى حد كبير من القيادة العامة للجيش والقصر الرئاسي ومؤسسات الدولة، ستشاهد كيف فعلت الحرب الأفاعيل بالمتاجر والمنازل حيث لا ضرورة لإحكام إغلاق الأبواب جيدًا طالما أن الممتلكات ستنتهي إلى النهب عنفًا بالسلاح أو المطرقة الحديدية التي تستخدمها عصابات النهب.

https://t.me/ultrasudan

بيوت شبه مهجورة لا حاجة ولا رغبة لسكانها في البقاء أو النظر إلى الوراء في أخبار مفجعة عن النهب والقتل والتدمير الذي طال حتى السيارات التي تركت في الشوارع بأبوابها المحطمة أو ذات الهياكل المحترقة في حرب لم تفرق بين الأعيان المدنية والعسكرية.

من الناحية الإستراتيجية فإن الحرب إذا طالت في بلد مثل السودان متعدد الأعراق والمظالم التاريخية فإنها لن تكون على "معادلتها القديمة"، وقد تفرز معادلات جديدة تتسبب في دخول أطراف جديدة محلية أو خارجية، لذلك هناك سؤال يطرح في مجالس القوى السياسية: إلى أين تتجه حرب السودان؟ والإجابة تكمن في الجهود السلمية لإيقاف الحرب واستعادة المسار المدني لتدارك ما يمكن تداركه في مدن دمرتها الحرب التي بدأت من الخرطوم مرورًا بالأبيض والجنينة وزالنجي والفاشر ونيالا وكاس.

الغالبية من سكان العاصمة الخرطوم ممن تركوا منازلهم بحثًا عن الأمان يتساءلون باستمرار: هل سنجدها كما كانت قبيل النزاع المسلح؟ لكن الحقيقة الصادمة يرويها من لم يبارحوا العاصمة خلال مائة يوم من القتال، وكيف أنهم اضطروا إلى دفن الجثث في داخل المنازل وفي المساجد وحتى الميادين في الأحياء حتى لا تنهشها الكلاب الضالة، كما أن العاصمة التي تعاني من ضعف البنية التحتية بحاجة إلى معجزة لاستعادة نفسها أو قلبها المتوقف منذ ثلاثة أشهر أو يزيد.

ثم يأتيك السؤال التالي: ماذا إذا لم تتوقف الحرب؟ البعض يفكر في مغادرة البلاد مقتديًا بتجارب بعض اللاجئين من دول عربية وأفريقية عانت بلدانهم ويلات الحرب لسنوات طويلة، وآخرون يجدون هذا الحل صعبًا كونهم لا يملكون المال أو حتى أوراق السفر مع قيود الفقر التي تكبلهم. والخبر السيئ أيضًا أن العالم لم يعد مرحبًا بالفارين من الحروب، وستلاحظ ذلك عندما تسمع محادثات الغربيين مع زعماء دول الجوار التي تدور حول عبارة واحدة: "أوقفوا الحرب وتحملوا من يتدفقون إلى حدود بلدانكم".

الإجابة على حرب منتصف نيسان/أبريل 2023 قد تكون في إقرار السلام وعملية سياسية واسعة النطاق تشمل جميع السودانيين والسودانيات

لا يمكن بالطبع في نظر ملايين النازحين بالولايات مجرد التفكير في أن هذه الولايات قد تكون البدائل المناسبة لمدنهم وأحيائهم أو أعمالهم في العاصمة في ظل نقص  البنية التحتية، وعدم وجود خطط حكومية طموحة تضع الولايات على منصة الانطلاق كتجربة فريدة وفرتها حرب منتصف نيسان/أبريل التي أوقفت العاصمة تمامًا.

إن الإجابة على حرب منتصف نيسان/أبريل 2023 قد تكون في إقرار السلام وعملية سياسية واسعة النطاق تشمل جميع السودانيين والسودانيات، لكنها إجابة قاسية جدًا ولا يمكن الحصول عليها طالما اختار الجنرلات خيار الحسم العسكري الذي قد يطول.