02-أغسطس-2023
البرهان وحميدتي

تسجيل موجز مدته سبع دقائق وبضع ثوان حوى معلومات خطيرة حول ما جرى في الخامس عشر من نيسان/أبريل أعاد الجدل الدائر ضمن سؤال من أشعل الحرب؟ وهو سياق أشمل يتجاوز نطاق سردية من أطلق الرصاصة الأولى ويدحض التطابق المزعوم بينهما وكأن من أطلق الرصاصة الأولى هو بالضرورة من أشعل الحرب!

التسجيل الموجز والمقتطع من سياق إفادة مطولة لعثمان ميرغني رئيس تحرير صحيفة التيار السودانية في إحدى غرف تطبيق "كلوب هاوس" على الإنترنت، أشار بوضوح إلى مشاركة بعض الجهات السياسية في المجلس المركزي -وليس المجلس المركزي كله- في الخطة التي أنتجت الحرب، موضحًا أن الانقلاب الذي تحول إلى حرب كان قوامه ضباط من الجيش ومن المتفق إعلانهم -حال نجاح تحركهم- الانحياز إلى خيار مدنية الدولة وكافة المطالب الثورية المضمنة في أدبيات ثورة ديسمبر 2019 والانتهاء إلى  تشكيل مجلس وزراء مدني كامل ومجلس سيادة مدني كامل، مبينًا أن سيناريو الانقلاب الذي أُعد بصورة محكمة أدى إلى إهمال السيناريو البديل المتمثل في الحرب بسبب وثوقهم في نجاحه بنسبة كبيرة. وأمسك عثمان الذي كان يتحدث بثقة عالية عن تفاصيل المعلومات التي أوحى باستقائها عن محمد حمدان دقلو قبل أسبوعين من اشتعال الحرب بحسبانها معلومات جنائية مقامها قاعات التقاضي العدلي.

هل كانت الحرب استباقًا على حدوث الانقلاب؟ وأيهما كان أسهل، قطع الطريق أمام انقلاب من داخل المؤسسة وتحييد داعميه أم استباقه بحرب؟

يمنح التسجيل تأويل مناقض للرواية التي قامت بتغذيتها الدوائر الإعلامية القريبة من مليشيا الدعم السريع والتي استطاعت أن تحصر مناقشة سؤال من أشعل الحرب ضمن الإجابة على من أطلق الرصاصة الأولى، وهي تستثني عن قصد مرحلة التراشق بالكلمات والتعبئة المتصاعدة ضد قيادة الجيش من قائد المليشيا وشقيقه، ثم مرحلة التحشيد واستجلاب العناصر المقاتلة من أصقاع السودان وما وراء حدوده، ثم واقعة محاصرة مطار مروي، والقفز على كل ذلك بافتراض خروج "مكون الإسلاميين داخل الجيش" على قيادته أو الضغط عليها وإشعال الحرب لقطع الطريق على استتمام الاتفاق الإطاري الذي يعني عودة الخصم السياسي للإسلاميين ومعه آليات محاصرتهم والتضييق عليهم.

ويمتد نقض رواية ميرغني لسردية قوات الدعم السريع التي أعلنتها على نحو مكثف عبر قياداتها ومستشاريهم، ويتجاوزها إلى نسف كل إفادات وبيانات الحرية والتغيير – المجلس المركزي المتمركزة حول افتراض أن “الكيزان" هم من أشعل الحرب من خلال "وجودهم داخل المؤسسة العسكرية" ونفوذهم وتأثيرهم على قيادتها! ورجح الدكتور أحمد الأبوابي العضو السابق في تجمع المهنيين في تسجيل متداول بأن من أشعل الحرب هم الإسلاميون داخل الجيش حتى يقطعوا الطريق أمام إنفاذ الاتفاق الإطاري والقضاء على أي احتمال لعودة قوى الحرية والتغيير إلى صدارة المشهد من جديد، مؤكدًا أن من أطلق الرصاصة الأولى هم الكيزان ولا أحد غيرهم.

ثمة ثقوب بائنة في رواية ميرغني عن الانقلاب المحكم الذي تحول إلى حرب، وأهمها أن الانقلاب لم يقم أصلًا، بيد أن ما قام ورآه الناس هو حرب مستعرة تصاعدت بوتائر متواترة ووقائع غير متوقعة اشتدت حدة واحتدامًا بين قوتين كانتا حتى وقت قريب تقاتلان جنبًا إلى جنب داخل السودان وخارجه؛ فهل كانت الحرب استباقًا على حدوث الانقلاب؟ وأيهما كان أسهل، قطع الطريق أمام انقلاب من داخل المؤسسة وتحييد داعميه أم استباقه بحرب؟ وقد يبدو أن ما حدث غير مسبوق في الخبرة السودانية لتغيير الحكم، إذ يحوي مزيجًا بين الحرب والانقلاب، أو بمعنى آخر، انقلاب من خارج مؤسسة الجيش وحرب على أماكنها في القيادة ومواقع السيادة، لكنها بالضرورة لا بد أن تكون خاطفة وسريعة، حتى لا تكون حربًا متطاولة تسقط البلاد في بحار من الفوضى والانقسام في بيئة موصومة بالاضطراب والهشاشة. 

وبالعودة إلى سياق الأحداث وتطورها، أوردت وكالة رويترز عن دبلوماسي لم تسمه أن البرهان وحميدتي تقابلا في مزرعة على مشارف الخرطوم في الثامن من نيسان/أبريل 2023، إذ طلب البرهان انسحاب قوات الدعم السريع من الفاشر ووقف استنفار القوات إلى داخل الخرطوم، بينما طالب حميدتي بسحب القوات المصرية من القاعدة الجوية في مروي، وهذا ما يفسر محاصرة القاعدة الجوية في شمال السودان. ولم ينقض أسبوع حتى رأى العالم انقضاض قوات الدعم السريع على مدينة مروي وإحكام محاصرتها، وبينما اتجهت الأنظار شمالًا صوب مروي، كان ليل الخرطوم المدلهم يخفي تحركات عسكرية حثيثة استعدادًا للأسوأ حتى استفاق الصباح على أصوات رصاص متواصل واشتعال المعركة من عمق المدينة الرياضية جوار السوق المركزي بالخرطوم. 

https://t.me/ultrasudan

ويرى مصدر عسكري فضل حجب اسمه أن الحرب اشتعلت حين خالفت قيادة الدعم السريع تعليمات القائد العام بالرجوع عن مروي، وصار الإجراء متروك للقيادة في مواجهة التمرد حسب التقديرات الميدانية، وأن ما حدث في المدينة الرياضية ابتدأته عناصر الدعم السريع باستفزازها الشديد لقوات الجيش وجرها إلى الاشتباكات، ورأى أن الدعم السريع كان يخطط لإشعال الحرب في يوم التاسع عشر من نيسان/أبريل إلا أن سير الأحداث تصاعد بوتيرة أسرع ما جعلهم يخوضون غمار المعارك قبل أربعة أيام من موعدها، مما أفقدها عنصر المباغتة ومكن الجيش من ضرب معسكراتها وأماكن تجمعاتها، فضلًا عن تحييد كثير من عناصرها في الولايات، وهو الذي حصر المعركة في الخرطوم بصورة أكبر، وفي بعض المناطق الملتهبة بإقليم غرب السودان. وأكد هذا المصدر أن الجيش كان مطلعًا على كل الخطط والسيناريوهات والبدائل، واستطاع أن يخمد مفعولها بأقل التكاليف الممكنة. وبمقارنة بسيطة بين عدد القوات "الغازية" وعدتها من التسليح وعتادها من التجهيزات والمعينات، فإن صمود الجيش وعدم انكساره أربك حسابات "الميليشيا" ومن هم وراءها في مشروع الوصول إلى الحكم عبر "معركة خاطفة" ذات أهداف محددة وناجزة في سياق تغيير معادلة السلطة.

في المقابل يرى لفيف من صناع الرأي على شبكات التواصل والتفاعل الافتراضي ممن يتفاوتون في تحيزاتهم واختياراتهم السياسية والأيديولوجية، أن الحرب تجاوزت سؤال من أشعلها إلى سؤال من يخوضها بشرف وعدالة ومن أجل تماسك الدولة ومواجهة مشروعات التفكك والتجزئة، وأن أيًا من أشعلها هي حرب ضرورية لإزالة التشوه الكامن في بنية الدولة، إذ يرى فصيل من الفاعلين الثوريين ممن يصطلح عليهم بالجذريين، أن الذي يقاتل "الكيزان" هم الجيش بوصفه مؤسسة اعتبارية لا تخلو من خلل وإشكاليات، وليس كما تزعم دعاية الدعم السريع المخدومة، لأنهم التفتوا أخيرًا إلى معالجة أسوأ تجليات ميراث النظام البائد في "التجنيب العسكري"، وخلق كيانات وقوى وتدابير خارج المؤسسات، والعبث بقضية الأمن القومي بصناعة ميليشيا قبلية موازية للجيش ومنحها من الامتيازات والاختصاصات والأدوار ما يفوق أي كيان آخر في الدولة، لدرجة باتت معها دولة داخل الدولة بصورة تفوق نموذج حزب الله الذي يفسر وجوده على الأقل مفاعيل مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، فضلًا عن سياق الصراع الطائفي في منطقة الشام.

لقد أصاب محمد جلال هاشم في مناقشته لبيان المؤتمر السوداني وهو يصف التناقض الغائر في بنية الدولة بوصفه "دعوة للحرب"، فمجرد وجود جيشين في دولة وطنية واحدة من شأنه أن يشعل الحرب بالضرورة بسبب تفجر التناقض الحتمي الذي يتعارض مع جوهر تعريف الدولة كمحتكر للعنف الشرعي، مؤكدًا أن الحرب المشتعلة والمستمرة لا يمكن أن تكون عبثية لأنها حرب ضرورة.

يبدو أن تضخيم دور مفترض للمكون الإسلامي داخل المؤسسة العسكرية في إشعال الحرب مرده إلى دفع الحرج عن قتال الجيش من قبل قوات الدعم السريع، والتي كانت حتى وقت قريب قوة ساندة له

يبدو أن تضخيم دور مفترض للمكون الإسلامي داخل المؤسسة العسكرية في إشعال الحرب مرده إلى دفع الحرج عن قتال الجيش من قبل قوات الدعم السريع، والتي كانت حتى وقت قريب قوة ساندة له، وهو ما يقف بالضد من المزاج الشعبي العام المؤيد لجيش بلاده سيما أنها لم تعرف كحركة مطلبية ثورية ذات عداء مباشر مع الجيش، وإنما أداة ناجزة في يده لإخماد الثورات في فضاء الهامش، وها هي لسخرية القدر ترفع شعارات رفع الضيم عنه وتستولد من العدم خطابًا عجولًا ومرتبكًا في آن يربط بين "الكيزان" ودولة 1956 وهيمنة "الشريط النيلي" على السلطة والثروة، ويمايز بين قيادة الجيش تارة وبين الجنود والضباط أو على الأحرى بين القادمين من الهامش ومن هم في عمق المركز المهيمن، وهو تمايز يتم عادةً على الهوية في أسوأ تبدياتها الإثنية والعرقية والجهوية.

ليس ثمة مراء أن الدعاية الحربية تعتبر جزءًا أصيلًا من معركة الخطاب وخطاب المعركة، حيث تبدأ من توصيف العدو وإنتاج حجج دامغة تخترق بنية الوعي وتنسف كل الافتراضات والسرديات المضادة بما فيها السرديات المتعلقة بنشوء المعركة ولحظة نشوبها وأهدافها ومراميها الخفية، وإن أدى ذلك أحيانًا إلى افتراض كيان شبحي ككيزان الجيش لا يمكن إدراكه أو إمساكه أو تعيين شخوصه وتحديد مواقفه بمنأى عن المؤسسة، فقط يلزمك أن تنسبه إلى أسماء دون دليل ثم تحشد الفضاء بأقاصيص منقوصة وحكايات محبوكة لتبرر الهجوم عليه واستهداف مظنونات خطوط إمداده البشري والمادي والمعنوي، أو كل من يقف الى جانبه ويرى الحق في صفه.

 

  •   المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"