18-نوفمبر-2019

لجان المقاومة بالخرطوم شرق في مليونية حل مؤسسات النظام البائد (Getty)

لا شكّ أنّ الوضع العام في السودان يتجه نحو تعقيد أكبر مما نتصور، خصوصًا في ظل الزخم الذي يعيشه الشارع السوداني، فغيوم كثيفة تلوح في الأفق؛ إن كان على المستوى السياسي، أو مستوى القاعدة الشعبية الّتي تندفع بسرعةٍ كبيرة نحو المطالبة بإنجاز مكتسبات الثورة وشعاراتها، وما ترتب عليها من دماء الشهداء، وغيرها من القضايا العاجلة. عشرة أشهر كاملة على انطلاق الثورة وما زالت هذه القوى الشعبية تقود الحراك الفعلي في الشارع، ما يعني أن هناك كتلة جماهيرية قد تشكّلتْ بالفعل، ليس على مستوى الخرطوم وحسب، إنما على مستوى أقاليم السودان بمدنها المختلفة، وإن تفاوتت درجات هذا التنظيم من منطقة إلى أخرى.

كان القبول الذي وجده تجمع المهنيين مرتبطًا بشرط رفض القوى السياسية القديمة، وهو ما أدركه التجمع سريعًا؛ الابتعاد عن القوى السياسية

لا يبدو أنّ الكتلة الجماهيرية هذه برزت بشكل عفوي، فالأحداث الّتي تقفُ من وراءها، سمحت لها أن تتخذ سمةً مميزة لها، وعنصرًا مهمًا في الحراك، وإن كانت راديكالية بعض الشيء، فهذا يعود إلى طبيعة العناصر التي تقود هذه الأجسام -تُسمى لجان المقاومة أو لجان الأحياء- فكل اللجان تقريبًا يغلبُ عليها العنصر الشاب، بالإضافة إلى آخر إحصائية اطّلعتُ عليها بصورةٍ شخصية، فاقَ تعداد هذه اللجان الألف، على مستوى الأقاليم وحسب.

اقرأ/ي أيضًا: أوراق في اللغة والحب والسياسة.. حريّة سلام وعدالة

المشاهد للخمسة أشهر الأولى من الثورة، لا يرى تأثيرًا سياسيًا كبيرًا لهذه القوى، أو تنظيمًا واضحًا لها، وذلك يعود إلى طبيعة المرحلة وأساليب المقاومة نفسها، لكن انعكس هذا الأمر بشكل سلبي عليها، بحيث أنّ الشارع لم يفرز قادته، بل تُرك لتجمع المهنيين الذي تحوّل الى أيقونة في ذاك الوقت قيادة الشارع حتى إسقاط النظام. اكتسب التجمع هذه الميزة جراء رفض الشارع للقوى السياسية القديمة، مما يعني أنّ القبول كان مرتبطًا بشرط رفض القوى السياسية القديمة، وهو ما أدركه سريعًا التجمع؛ الابتعاد عن القوى السياسية. الشرط الذي لم يستطع التجمع الوفاء به طويلًا، وبالتأكيد لا يمكن أن يُلام التجمع لأنه كان أيضًا مرتبطًا بضرورة وجوده، كمنصة تلتقي فيها الأحزاب السياسية، الأمر الذي قد ينكره الكثيرون، لكنه حقيقة واضحة منذ حادثة الخلاف التي جرت بين المؤتمر السوداني والحزب الشيوعي قُبيل التوقيع على الوثيقة الدستورية، والتي استطاع التجمّع أن يلملمها قبل أن تتفاقم إلى مشكلة كبيرة؛ لنشهد رغم ذلك، بعض المناوشات أثناء عملية التفاوض والاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية، التي تغيّرتْ بعدها طرق التعامل بين "لجان المقاومة" وتجمع المهنيين.

قبل مليونية 21 تشرين الأول/أكتوبر

ما حدث في الخمسة أشهر الماضية، أنه قد قلّتْ فعالية أداء تجمع المهنيين السودانيين لصالح القوى السياسية الأخرى، وفي غياب الشفافية عجّل هذا الأمر بصعود "لجان المقاومة"، كفاعل اجتماعي مختلف تمامًا في دوره عن الفترة التي سبقت تشكيل الحكومة الانتقالية، يظهر ذلك بشكل جلي في مليونية 30 حزيران/يونيو، التي أعادت الثقة للشارع قبل أن تكون بردًا وسلامًا على القوى السياسية، المليونية التي علمَ بعدها التجمع والقوى السياسية، أن هذه القوى أكبر من أن تُحتوى داخل هياكل قوى إعلان الحرية والتغيير، أو تُروّض بكافة السبل والأساليب السياسية.

اقرأ/ي أيضًا: الحزب الشيوعي السوداني في متاهته

تحملُ هذه القوى الحية واللامركزية، غُبنًا عظيمًا على العسكر باعتبارهم الجهة الوحيدة التي تصادمت معهما وجهًا لوجه، بالاضافة إلى مخلفات حادثة فض الاعتصام الذي كان بمثابة إنجاز تاريخي للآلة العسكرية والمليشيات التي ما تزال يطلق عليها "الجنجويد"، في تمسكٍ واضحٍ بتاريخ هذه القوات، وهذا ما يضعُ قوى إعلان الحرية والتغيير في ضغط أكبر، وخصوصًا بعد الدعوات التي انطلقت لمليونية (21) تشرين الأول/أكتوبر وتحققت بصورة ينظر لها البعض بأنها فاعلة، الدعوة التي في بادئ الأمر رفضها التجمع ومن ثم استجاب لها، ليخرج الشيوعي ويُخرج بيانًا يؤيد فيه المليونية، ويخرج عمر الدقير رئيس المؤتمر السوداني بتأكيد ضمني على المليونية.

هذه كلها مؤشرات واضحة على مدى مقدرة هذه اللجان على خلق موجة ثالثة، إن فشلت الحكومة في تحقيق الإنجازات المطلوبة والمحددة في ظلِّ أزمات تتفاقم يومًا بعد يوم، لتعطي الفرصة للفريق أول حميدتي ويقدم يد المساعدة للدولة، الأمر الذي يضع استفهامات عديدة حول مستقبل قواته، التي ظلَ الشارع يذوق منها ويلات القتل، وخصوصًا في الأقاليم الطرفية مثل دارفور وكردفان.

وتعود الدعوات التي انطلقت لتلك المليونة إلى ضرورة حل المؤتمر الوطني، لا حلًا فوقيًا وحسب إنما حلًا يتمدد إلى داخل مفاصل الدولة، فالصدامات التي حدثت بين اللجان وقوى المؤتمر الوطني القاعدية أدت إلى احتقان واضح في مناطق عديدة -مثل الحصاحيصا المدينة التي تقع في ولاية الجزيرة، والفاشر حاضرة ولاية شمال دارفور- والتي بها أكثر اللجان قوةً وتماسكًا، الأمر الّذي أّدى إلى خروجها علنًا بتوضيح مطالبها في إقالة الوالي والمدراء التنفيذيين للمحليات (البلديات)، وخصوصًا أن اللجان تعتبرهم دائرة فساد ومصالح مشتركة تجمع كل أفراد النظام داخل هذه البنى الإدارية للدولة، الأمر الذي يعتبر منطقيًا ومقبولًا، طالما أن الثورة خرجت لنزع الدولة من حكر المؤتمر الوطني وكل الأفراد المنضويين تحته.

اقرأ/ي أيضًا: من الذي يملك سلطة الإعفاء والتعيين في جهاز الشرطة؟

بعد المليونية

لا شكّ أنّ ما حدث بعد محاولة اختراق اللجان من قبل قائد قوات الدعم عبر استدراجه مجموعة من أعضاء لجان الخرطوم بواسطة ما يعرف بالمعمل المدني، والذي ظهر اسمه مؤخرًا وتردّد في العديد من صفحات لجان المقاومة، قد شحنَ الأجواء بين اللجان وحميدتي، الأمر الذي قابلته اللجان برفض واضح تبعته المقاطعة التامّة، ما يجعل قائد قوات الدعم السريع في نيران الشباب الثوري الذي يندرج تحت اللجان، وليس هذا فحسب، بل خروج الصراع بين الحزب الشيوعي السوداني والمؤتمر السوداني، إلى السطح بعد التصريحات التي أدلى بها الخطيب (سكرتير الحزب الشيوعي)، مُتهمًا قوى الحرية والتغيير بالعمالة، ولم تقف الاتهامات المتبادلة بين الطرفين عند هذا الحد، بل أعقبه القيادي بالمؤتمر السوداني خالد سلك في ندوة جامعة الخرطوم، التي استضيف فيها من قبل مؤتمر الطلاب المستقلين، بتوجيه اللوم إلى الحزب الشيوعي في العديد من التجاوزات. وأنا هنا لست بصدد تحليل موقف الحزبين، وإنما لأوضح أن هذا الصراع ما لبث أن انتقل إلى اللجان، حيث تراشقت القوى السياسية بطرقة توحي بعدم النضج الكافي وتبادلت اتهامات عبثية، اتهم فيها كل طرف الآخر بعمليات استقطاب داخل لجان المقاومة، مما جعل التجمع يعقدُ مؤتمرًا صحفيًا لتوضيح موقفه من اللجان في مقره قبل أيام قليلة.

لا شك أنّ تعقيدًا شائكًا يظهر هنا، فترك الأحزاب السياسية لمشاكل الفترة الانتقالية والعقبات التي تواجه الحكومة الانتقالية في تنفيذ الانتقال الديمقراطي، الذي يطمح اليه الشعب السوداني، هو نذير خطر على الفترة الانتقالية ونذير خطر على العملية السياسية برمتها. لا يبدو أن الأحزاب السياسية قد تعلمت الدرس السابق في تاريخ السودان السياسي، فكل الفترات الانتقالية السابقة، قد واجهت نفس العقبات والمشاكل، لكن تناحر القوى السياسية أدى إلى إجهاضها، ومن ثمّ انتقلت العملية إلى أنتاج ديمقراطية هشة خلفت وراها انقلابات عسكرية.

اقرأ/ي أيضًا: رفقاً بـ"حمدوك".. نُخب فاشلة أم بُناة دولة؟

إن المطلوب من القوى السياسية في هذه اللحظة، الانتباه قليلًا إلى بنيتها المؤسسية، ومحاولة إصلاح التجريف الذي حدث طوال (30) عامًا، كانت كفيلة بأن تفقر هذه القوى السياسية والعملية السياسية كذلك، خصوصًا أن الشروط متوافرة الآن لتحقيق هذا الإصلاح، فضعف القوى السياسية ليس من مصلحة أي طرف، سوى أنه سيؤدي إلى نزيف يعقبه انقلاب عسكري، في ظل هذا الضعف الذي يعانيه الاقتصاد والدولة، بالإضافة إلى وجود طرف عسكري قادر على هذا الفعل، وإن كان من المستحيل هذا التوقع.

لا سبيل إلا أن يهتمُ تجمع المهنيين -أيقونة الثورة الّذي يكاد أن يغيب بنقاباته- ببناء أطر تخرج هذه الأجسام النقابية بصورة ديمقراطية، تعبر عن مهنيي السودان وتعيد للحركة النقابية بريقها الآفل، وكذلك أن تهتم قوى الحرية والتغيير بمراجعة العملية السياسية ومؤسساتها الحزبية، وضمان ديمقراطية حقيقية داخلها، ومن ثم توفير إطار عمل سياسي للحكومة الانتقالية عبر المجلس التشريعي، الذي يترقب الكل توقيت إعلانه. وبحسب نص الاتفاق السياسي فإن ميعاده قد حان، فقد تبقى له أقل من ستين يومًا، وكذلك على حكومة حمدوك الإسراع في حل المؤتمر الوطني، وكنس بقاياه عبر آليات عادلة، يتحقق عبرها تواصل حقيقي ما بين الحكومة وقواعد اللجان؛ ليحدث التكامل الذي بكل تأكيد يوسّع من دائرة المشاركة الشعبية، وأن يعرف الشارع واللجان مشاكل الدولة التي يعلم  الجميع أن عصى موسى نفسها لن تحلها بين ليلة وضحاها.

إن سار هذا الحال على نهجه، فإنّ موجة أخرى للثورة قد تأتي، وهذه المرة ستقود إلى حالة أكثر تعقيدًا

إن سار هذا الحال على نهجه، فإنّ موجة أخرى للثورة قد تأتي، وهذه المرة ستقود إلى حالة أكثر تعقيدًا، وإلى مصادمات بين قوى إعلان الحرية والتغيير في المقام الأول، وحكومة حمدوك في المقام الثاني، وهذا ما تخشاه قوى الإعلان، لذلك ما من مخرج لهما سوى التعامل الجاد مع هذه اللجان، واستصحابها في العملية السياسية، وتقديم براهين على حسن النوايا، وإعادة الثقة التي ربما ستدفع قوى إعلان الحرية والتغيير الثمن غاليًا، إن لم تسارع في بناءها، ستدفع الحكومة الثمن أيضًا، إن وقفتْ موقف المتفرج على بقايا وفلول النظام تتصادم كل يوم مع اللجان وقواعد الثورة الواعية.

 

اقرأ/ي أيضًا

الحكومة الانتقالية وتحدي نظام الحكم اللامركزي

الحقّ في الفوضى