12-نوفمبر-2019

السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني محمد مختار الخطيب (الشرق الأوسط)

في السادس عشر من نيسان/ أبريل 2019 أصدر الحزب الشيوعي السوداني بيانًا نفى فيه مشاركته في أول لقاء جمع وفد قوى إعلان الحرية والتغيير بالمجلس العسكري إبان انعقاد اعتصام القيادة العامة. اتهم البيان العضوين، نائبة رئيس حزب الأمة، ورئيس حزب المؤتمر السوداني باختطاف منبر قوى الحرية والتغيير وبالتغريد خارج السرب! فور صدور البيان قاد الشيوعيون حملة إعلامية على مواقع التواصل اتسمت بالشراسة ضد حزب الأمة القومي والمؤتمر السوداني، واتهمهما بتعمد تغييب الحزب الشيوعي، مما أثار دهشة واستياء الجماهير الذين هم في شك من الأحزاب مريب أصلًا.

اتضح أن كل ما أثير حول تعمد تغييب الحزب الشيوعي كان يؤسس على سوء ظن الحزب بشركائه

 بعد بيان الحزب مباشرة، اعتلى قيادي شيوعي شاب إحدى المنصات الإعلامية في ساحة الاعتصام وقتها، وهاجم جزءًا من المعارضة وخوّنه، فما كان من جموع الحاضرين إلا أن انقضوا عليه وأسكتوه وأنزلوه لينجو من بطشهم بأعجوبة. وبعدها بأيام، نشرت صحيفة الميدان الناطقة بلسان الحزب الشيوعي مقابلة مع القيادي صديق يوسف، المفاوض باسم الحزب، قال فيه بوضوح أن غيابهم يعود إلى مشكلة في التواصل بين مكونات قوى الحرية والتغيير بسبب رداءة الاتصالات التلفونية حينها، وبسبب تناقض دعوات المجلس العسكري في تحديد مكان الاجتماع، واتضح أن كل ما أثير حول تعمد تغييب الحزب الشيوعي كان يؤسس على سوء ظن الحزب بشركائه.

منذ ذلك البيان، وحتى ما بعد تشكيل حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، أغرق الحزب الشيوعي الساحة بسيل من البيانات والتصريحات، ومع ذلك ظل موقفه غامضًا حيال شرعية الحكومة، ومن الاتفاق مع المجلس العسكري، ومن تحالف قوى الحرية والتغيير، وصار سؤال: "ما الذي يريده الشيوعيون" من أكثر الأسئلة التي طرحها المهتمون خلال الفترة الماضية.

اقرأ/ي أيضًا: أي إعلام يريد السودان بعد ثورته؟

 لا نريد شيئًا.. الشعب هو من يريد

نشر القيادي الشيوعي مسعود الحسن قبل يومين من فض الاعتصام على فيسبوك بوست عنوانه "من الجماهير وإليها نتعلم منها ونعلمها" ، يعرّض فيه بزعيم حزب الأمة القومي، الذي كان يعتبر دعوات التصعيد والإضراب العام التي روج لها الشيوعي– ولا زال- نوعًا من التعنت. يقول مسعود مخاطبًا زعيم حزب الأمة، "قلنا كذا وقلتم كذا، والجماهير قالت كذا"؛ فيكون ما قالته الجماهير -حسب زعمه- مطابقًا لما قاله الشيوعي، ومغايرًا إن لم يكن مناقضًا لما قاله حزب الأمة، فهو مثلًا قال: "لما قلنا نطلع الشارع.. قلتو دخان مرقة.. الجماهير انتفضت". ما قاله الحسن هو ما ظل الشيوعيون يرددونه طيلة فترة الاعتصام– وبعدها- كأنهم يضاهون فكرة "حاكمية الله" الإسلاموية بـ "حاكمية الشعب" التي يكون فيها الحزب وسيط شفاف يعبر عن الإرادة العليا المطلقة. ومن الطريف أن نذكر ببيان الحزب المشار إليه في صدر المقالة، الموجه إلى "جماهير شعبنا" يطلب منها مقاومة محاولات الانفراد بالقرار عدا ما يصدر من قيادة قوى الحرية والتغيير! في جزء آخر من بوست الحسن يقول "نحن ما بنفك درب الجماهير كان اتعنتت حا نتعنت... والعارف ليهو درب غير درب الجماهير الوااااضح دا اليمش عليهو طوالي". وأنا على ثقة أن الجماهير ودربها المزعوم لا يعني أكثر من مجرد عضوية الحزب الشيوعي وحلفاءه من الشباب المتهورين عديمي الخبرة بالسياسة في ساحة الاعتصام، وصفحات السوشيال ميديا، الذين كانوا، على قلتهم، يصدرون ضجيجًا مربكًا. اختتم هذه الفقرة بالإشارة إلى أن كليشيه الشعب الذي يرد في دعاية الحزب هو بدعة سودانية يستحيل توفيقها مع أفكار الحزب الأممية، الحزب الذي لا يفوت زعيمه مناسبة دون التأكيد على صلاحية النظرية بشقها السوفيتي، فمثل كليشيه الشعب هذا جدير أن يصدر عن حزب قومي أو فاشي، لا عن حزب أممي عمالي يعتبر الوطنية نزعة برجوازية زائفة، والجماهير في الشعار الشيوعي "من الجماهير وإليها" لا تعني أكثر من جماهير العمال و"الفلاحين" وليس كل "الشعب" الذي تتناقض مصالح طبقاته.

قيادي شيوعي: إصرار السكرتير العام للحزب على ذم الهبوط الناعم "محض مكابرة غير لائقة حول ألفاظ ليس إلا"

الهبوط الناعم.. ذلك المجهول

ترد كثيرًا في تصريحات وحوارات محمد مختار الخطيب زعيم الحزب، وبالتالي بيانات الحزب وكتابات عضويته عبارة "مخطط الهبوط الناعم" ويصر الخطيب أن هذه خطة أميركية لتسوية سياسية ولتحول سلمي ديمقراطي لتغيير النظام دون عنف، كان الحزب فكرة يطرح إسقاط النظام بالثورة الشعبية كمخرج وحيد، لكنه في ذات الوقت يقول أنه لا يرفض التسوية السياسية إذا جاءت مستجيبة لشروط المعارضة، يرى كمال الجزولي العضو المستقيل من لجنة الحزب المركزية ومكتبه السياسية أن الحل السياسي بشروط المعارضة والهبوط الناعم هما الأمر نفسه، وأن إصرار الخطيب على ذم الهبوط الناعم "محض مكابرة غير لائقة حول ألفاظ، ليس إلا". بينما اعتبر الحقوقي اليساري نبيل أديب مصطلح الهبوط الناعم من ألغاز السياسة السودانية. ظل الخطيب ومن وراءه الحزب يستخدم المصطلح حتى بعد سقوط نظام البشير الذي يصفه الحزب بالنظام الهالك، فنجد تصريحات للخطيب تبدأ بـ"هزم شعبنا مخطط الهبوط الناعم" ولكنه في ذات الوقت يصف الاتفاق بين "قحت" والمجلس العسكري بالهبوط الناعم! بل ويذهب إلى حد إتهام حلفاءه في "قحت" بالعمالة والارتزاق وتلقي رشاوي من محاور إقليمية لتزييف إرادة الشعب! الشعب الذي انتظر الاتفاق واحتفل به في الشوارع، الشعب الذي قال الخطيب أنه هزم مخطط الهبوط الناعم!

اقرأ/ي أيضًا: جدل الوصل والانقطاع في الثورة السودانية

الحرب على العالم

في خطاب لجماهير حزبه بأم درمان شن الخطيب هجومًا على أمريكا وأوروبا والسعودية والإمارات، وقال إنهم يريدون فرض مخطط الهبوط الناعم لخدمة مصالحهم الرأسمالية! ما أعاد للأذهان حماقات الأيام الأولى لانقلاب البشير عندما كان مناصروه يهتفون في شوارع الخرطوم "أمريكا روسيا قد دنا عذابها". الغريب أن الحزب جعل مخالفة الاتفاق لقرارات الاتحاد الأوروبي والإفريقي والكونغرس الأمريكي السبب الأول لرفضه! فمن جهة هذا الاتفاق هو هبوط ناعم يفرضه المجتمع الدولي بواسطة عملاءه، ومن الجهة الأخرى هو مرفوض لأنه ضد قرارات المجتمع الدولي. هذه الأيام يعتبر الحزب الشيوعي تسليم البشير للمحكمة الجنائية الدولية من أهداف الثورة التي لا تكتمل بدونها، وكان قد عارض تسليمه عند صدور مذكرة توقيفه في 2009 عندما كان صلاح قوش يتوعد من يؤيد تسليمه بالويل والثبور. المدهش أن الحزب قد أيد في 2007 تسليم مطلوبين اثنين للمحكمة لم يكونا من كبار رجال النظام.

اقرأ/ي أيضًا: قوى الحرية والتغيير.. أداء مخيب للآمال

ما الذي يريده الحزب الشيوعي؟

في تحليل ما، يمكن الإشارة إلى أن الحزب فقد أداة الضغط التي كان يوفرها له الاعتصام المنعقد في القيادة، إذ كانت استراتيجيته مبنية بالكامل على السيطرة على الكتلة العاطفية الكبيرة للمعتصمين عبر خطاب الثورة الجذرية، وربما المزايدة على بقية الأحزاب وإحراجها أمام الرأي العام. فقد أراد الحزب استخدام الكتلة البشرية للمعتصمين لتحقيق المكاسب نفسها التي حققها في الفترات الانتقالية السابقة، بالنقابات والاتحادات المهنية، حين حقق مكاسب تفوق حجمه الانتخابي بكثير كما يظهر كل مرة  في الانتخاب العامة التي تلي الفترات الانتقالية. وهناك الكثير من الشواهد التي تعزز هذا الافتراض، خاصة أيام الاعتصام، حين كان الحزب يصر على المطابقة بين موقفه وموقف الشعب، أو الجماهير، كما بينت في فقرة سابقة.

وصل هجوم الحزب الشيوعي على حلفائه ذروته بخطاب سكرتيره في ندوة ميدان الأهلية

وبالنتيجة، أربك فض الاعتصام حسابات الحزب الذي لم يتمكن بعد من توفيق خطه السياسي مع هذا المتغير. فظل الحزب بعد فض الاعتصام واستئناف التفاوض يهاجم حلفاءه في قوى الحرية والتغيير، ويسعى للسيطرة على تجمع المهنيين، ويحاول السيطرة على لجان الأحياء، فصارع قيادات تجمع المهنيين والأحزاب الأخرى التي تنشط وسط لجان الأحياء، وسعى بشكل محموم لإحراجهم أمام الرأي العام وضرب مصداقيتهم، تمهيدًا لإستبدالهم بعضويته والمتعاطفين معه. استراتيجية الحزب القائمة على السيطرة على التجمع ولجان الأحياء مبنية على افتراض أن من يسيطر عليها يسيطر على الشارع، وهذه رؤية غير واقعية. وصل هجوم الحزب الشيوعي على الأحزاب ذروته بخطاب سكرتيره في ندوة ميدان الأهلية، حيث اتهم حلفاءه بالعمالة وتلقي رشاوي من دول أجنبية تريد فرض الهبوط الناعم.

اقرأ/ي أيضًا: السودان.. تاريخ السلطة ومستقبل الديمقراطية

لعب الحزب الشيوعي دورًا كبيرًا للغاية في إسقاط النظام، باعتراف الجميع، نستطيع أن نقول أن الحزب قد أحرز الدرجة الكاملة في مرحلة النضال، لكنه رسب تمامًا في الامتحان السياسي، وأدخل نفسه في دوامة من المواقف المضطربة والمتناقضة التي أربكت حتى عضوية الحزب أنفسهم، فالحزب ضد الاتفاق الذي يؤسس العهد الانتقالي كله، وقال في الاتفاق ما لم يقله مالك في الخمر، وفي نفس الوقت هو ضد الانتخابات المبكرة ويعتبر الدعوة لها مؤامرة ضد الثورة، قرر الحزب مقاطعة الحكومة وقال مرة أنه سيكون في المعارضة، ثم عاد وأكد مشاركته في المستوى التشريعي والولائي، هاجم حلفاءه ولا زال عضوًا في التحالف، فما الذي يريده الحزب الشيوعي حقًا؟

 

اقرأ/ي أيضًا

 حتى لا يسرق شبح الطبقة الوسطى ثورتنا الجذرية

السودانيون وعبء الحرية الثقيل