09-نوفمبر-2019

الولايات السودانية (المعرفة)

ظلت قضية نظام الحكم في السودان منذ الاستقلال هي القضية الشائكة التي تؤرق مضاجع السودانيين كمشكله رئيسية أمام نهضة بلد يمتلك كل المقومات ليصبح دولة قوية، ولعل هذه القضية ترتبت عليها مختلف الإشكالات السياسية والاجتماعية والثقافية وقضيتي الحرب والسلام، ومؤخرًا انفصال جنوب السودان لدولة مستقلة، ويمكن إرجاع ذلك لعدم توافق السودانيين على عقد اجتماعي وصيغة دستورية دائمة تستوعب التعددية الثقافية والسياسية والاجتماعية. وبعد أكثر من نصف قرن على استقلال السودان في الأول من كانون الثاني/يناير ،1956 مازال السودان يُحكم بالدستور الانتقالي الذي تصوغه النُخب حسب مقتضيات مشاريعها الحزبية، ولم يتمكن السودانيين بعد من المشاركة في وضع دستور دائم للبلاد. كذلك لم تنتبه معظم النخب السودانية لقضية نظام الحكم مبكرًا، حيث ورثت هذه النخبة دولة مركزية من المستعمر الإنجليزي تحكم السودان من الخرطوم في الوسط، كطبيعة أي نظام استعماري يُمركز السلطة والمال في يد القِلة الحاكمة، ولعل تلك النخب لم تدرك طبيعة هذا البلد من ناحية الجغرافيا  والثقافة والاجتماع، فلم يكن لها آفاق ورؤيه تسع التنوع الذي يزخر به هذا البلد، فهي نخب كانت غريبة في ثقافتها وطريقة عيشها عن ثقافة المجتمع التقليدي الذي يقطن الأرياف والمدن البعيدة عن الخرطوم، وهو السواد الأعظم من السودانيين آنذاك. كما أن النخب التي صنعت الاستقلال ظنت أن السير على نهج المستعمر هو الطريق نحو الحضارة والمدنية، فكانت مركزية السلطة والمال واحدة من أقوى أسباب الحرب الأهلية التي شنتها الأطراف شرقًا وغربًا وجنوبًا ضد الحكومات المركزية المتعاقبة.

تواصل النقاش حول قضية الحكم في مؤتمر المائدة المستديرة في العام 1964، ومن ثم عاد الحكم العسكري عبر انقلاب جعفر النميري والذي تخبط بين مختلف صيغ الحكم

بدأت قضية الحكم تشغل حيزًا في نقاش النخبة المتعلمة في السودان منذ 1964 حين طلبت الحكومة العسكرية التي قادها الفريق إبراهيم عبود من مؤسسة جامعة الخرطوم، طلابًا ومدرسين المساهمة في إيجاد مخرج لمشكلة جنوب السودان، وقد ولدت تلك النقاشات ما عرف بثورة تشرين الأول/أكتوبر 1964 ضد سلطة الفريق عبود وأطاحت بالحكم العسكري، ثم تواصل النقاش حول قضية الحكم في مؤتمر المائدة المستديرة في العام 1964، ومن ثم عاد الحكم العسكري عبر انقلاب جعفر النميري والذي تخبط بين مختلف صيغ الحكم، ثم أعقب ذلك ما عرف بالديمقراطية الثالثة التي جاءت بعد انتفاضة الشعب السوداني في نيسان/أبريل من العام 1995، لكنها لم تستمر كثيرًا حتى حدث انقلاب البشير في يونيو 1989.

اقرأ/ي أيضًا: السلام الشامل.. بوابة الخروج من الدائرة الجهنمية

حاولت سلطة العقيد عمر البشير والتي عرفت بحكومة الإنقاذ الانعتاق من الصيغة المركزية الموروثة من المستعمر في حكم السودان، لكنها أبدلتها بتجربة لا مركزية ناقصة ومشوهة. فظل الحكم طوال ثلاثين عامًا بيد حزب واحد ذا تنظيم مركزي، ودولة ذات هياكل حكم لا مركزية تتكون من ثلاث مستويات هي المستوى الاتحادي والولائي والمحلي. ولعل ثنائية الحزب الواحد والحكومة اللا مركزية هي التي ذهبت بتجربة الحكم اللا مركزي إدراج الرياح، وانتهت إلى حرب في إقليم دارفور غربًا وحروب أخرى شرقًا وجنوبًا، إلى أن جاء انفصال جنوب السودان ليضع حدًا للحرب الأهلية التي استمرت أكثر من خمسين عامًا.

انتهت تجربة الإنقاذ التي كتبت فصلها الختامي ثورة كانون الأول/ديسمبر 2018، ونحن الآن في ظل سلطة انتقالية بشراكة بين مدنيين وعسكريين وحكومة يقودها رئيس للوزراء بسلطات واسعة.

برغم كل ذلك، تظل قضية الحكم اللامركزي هي التحدي الأكبر أمام النخبة الحاكمة، فالتجربة التاريخية تقول باستحالة حكم السودان مركزيًا. ومسألة الوعي بالسلطة لم تعد كالسابق والأصوات التي تنادي بالحكم الذاتي باتت مسموعة بعد تجربة ستين عامًا من الحكم المركزي، وتحكم الخرطوم ونُخبتها في القرار السياسي والموارد الاقتصادية للبلاد. هذا بالإضافة إلى تمركز خدمات التعليم والصحة ومختلف المشاريع التنموية، حتى تكاد الخرطوم تنفجر من كثافة السكان، هي نتيجة طبيعية لتمركز الخدمات في الوسط وتهميش الأقاليم والأرياف وإهمال القطاعات الزراعية والرعوية فيها، برغم أنها هي صاحبة العائد الأكبر والأول لخزينة الدولة. إلا أن الحكومات المتعاقبة تركتها نهبًا للفقر والجوع والأمراض الفتاكة، بالإضافة للحروب وتدني الخدمات المختلفة في أطراف البلاد.

ناقشت الوثيقة الدستورية الموقعة بين المدنيين والعسكريين، والتي تحكم بموجبها الحكومة الانتقالية الحالية، قضية نظام الحكم، فأبقت على نظام الولايات اللامركزي، مع إمكانية إعادة تقسيم السودان إلى سته أقاليم، وهو التقسيم الذي اعتمده الاستعمار الإنجليزي سابقًا، والذي ظل معمولًا به حتى استلام الإنقاذ للسلطة في حزيران/يونيو 1989.

اقرأ/ي أيضًا: مواعيد السودانيين!

ستظل قضية نظام الحكم وإدارة السودان ستكون هي القضية التي تحدد نجاح وفشل أي حكومة، بما في ذلك الحكومة الانتقالية الحالية، فالمعروف أن السودان يحوي تباينًا وتنوعًا إثنيًا لا يمكن إنكاره، يظهر هذا التباين في الولايات بصورة جلية حيث توجد ما يعرف بالإدارات الأهلية من عمد ومشايخ ونظار وشراتي، وهم السلطة الف علية خارج المدن الكبيرة، في مجتمع تقليدي ترتفع فيه نسبة الأُمية ويحرك شح الموارد وندرتها الصراع فيه على الأرض والمرعي والموارد المعدنية، مما يزيد النفوذ الاجتماعي والسياسي للإدارات الأهلية، حيث ينعكس ذلك على العملية السياسية بصور وأشكال مختلفة في كل منطقة. وهو ما يجب على الحكومة الانتقالية أن تنتبه في إدارتها له، وهي تعيد هندسة نظام حكم البلاد.

في الجانب الاقتصادي ظلت الإيرادات المالية للخزانة المركزية ونسب توزيعها، أحد أكبر المشكلات القائمة بين المركز والولايات، وهي قضية ذات ارتباط مباشر بقضايا التنمية والاستثمار

هنا تبرز قضية جوهرية ظلت باستمرار مثار شكوى الأقاليم من المركز وسلطته الهائلة، ففي الجانب الاقتصادي ظلت الإيرادات المالية للخزانة المركزية ونسب توزيعها، أحد أكبر المشكلات القائمة بين المركز والولايات، وهي قضية ذات ارتباط مباشر بقضايا التنمية والاستثمار العدالة الاجتماعية وتوزيع الفرص، ما يجعلها تنعكس بصورة رئيسة على ارتفاع نسب الفقر بين مجتمعات الأقاليم السودانية واريافها المترامية.

كذلك لابد من الإشارةِ إلى تحدي وجود الكوادر الإدارية ذات الكفاءة التي تتطلبها المرحلة الانتقالية. فمع ضعف قوى الحرية والتغيير الحاكمة في الولايات وتمدد النظام السابق في هياكل ومؤسسات الدولة والمجتمع، يصبح هذا الملف أهم أولويات السلطة القائمة في المركز الأقاليم، وهو يتطلب حلًا يجب أن يبتعد عن تكرار ممارسات النظام السابق الذي اعتمد سياسة الإحالة للصالح العام، وفي ذات الوقت ضمان إبعاد المفسدين من الخدمة المدنية.

إذًا تبقى قضية نظام الحكم هي الفيصل للعبور بالفترة الانتقالية إلى بر الأمان وقيام انتخابات تضع السودان في طريق الديمقراطية. وهو تحدي يتطلب أن تمضي السلطة الانتقالية في تفكيك المراكز التي تراكم السلطات في يديها، لإنهاء حقبة تحكم المركز في مصير السودانيين، والاتجاه نحو مشاركة شعبية واسعة تجعل من الولايات سلطة قائمة بذاتها لها مواردها الذاتية ونظمها وقوانينها بما يتناسب والمكونات الاجتماعية والثقافية فيها. مع ضمان تشكيل سلطات حقيقية في الولايات وتشجيع مشاركة الفئات الشابة والتي تمثل أكثر من67% حسب الإحصائيات الرسمية، وهي الفئة التي كانت وقودًا للثورة، وستكون العمود الفقري في التغيير الذي ينشده السودانيين.

 

اقرأ/ي أيضًا

الحقّ في الفوضى

السلام الشامل.. بوابة الخروج من الدائرة الجهنمية