حطت طائرة تقل رئيس بعثة "يونيتامس" فولكر بيرتس بمطار الجنينة صباح اليوم السبت في زيارة مفاجئة لممثل الأمين العام للأمم المتحدة إلى ولاية غرب دارفور لعقد اجتماع وصفه مراقبون بـ"فوق العادة" مع نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي".
يثير طول مكوث حميدتي غير المعتاد في الجنينة مخاوف من وجود خلافات بين العسكريين
وكان حميدتي قد غادر إلى مدينة الجنينة بغرب دارفور في 19 حزيران/ يونيو الجاري برفقة عضوي مجلس السيادة الطاهر حجر والهادي إدريس وهما يتوليان أيضًا رئاسة حركات موقعة على اتفاق جوبا للسلام.
وصرح حميدتي بأن وجوده في الجنينة مرتبط بالقضاء على الصراعات القبلية وقد يطول مكوثه في هذه الولاية التي تعاني من اضطرابات قبلية مسلحة.
ورغم أن حميدتي كثيرًا ما أعلن عن تصميمه على إنهاء الصراعات القبلية في إقليم دارفور إلا أن فترة مكوثه في مناطق الصراعات التي زارها في العامين الماضيين لم تتجاوز في أغلبها ساعات أو يومين على أقصى حد، لكن هذه المرة استغرقت زيارته إلى غرب دارفور أكثر من (12) يومًا خارج العاصمة الخرطوم.
ومع ارتباط مغادرة حميدتي إلى الجنينة بالملفات القبلية وإطفاء النزاعات المسلحة، فإنها تتعلق أيضًا –فيما يبدو- بالمحادثات غير مباشرة بين قوى الحرية والتغيير وقادة الجيش، ما دفعه إلى المغادرة احتجاجًا على التفاهمات المُحرزة بين الطرفين.
يثير طول مكوث حميدتي غير المعتاد في الجنينة مخاوف من وجود "خلافات بين العسكريين"، وهي ما حذّر منها متحدث الحرية والتغيير جعفر حسن في ندوة بالولايات المتحدة الأمريكية الأسبوع الماضي، وسبقه في التحذير رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك العام الماضي عندما قال إن الفترة الانتقالية تواجه تحديات كبيرة أبرزها الصراع العسكري العسكري، ووضع هذه القضية ضمن مبادرته التي وُئدت مبكّرًا.
وبالنظر إلى التحركات التي يُجريها المسهّلون الدوليون بدعمٍ أمريكي، فإن فولكر بيرتس اضطر إلى السفر إلى الجنينة لإحداث اختراق في العملية التفاوضية وإقرار توافق بين العسكريين أولًا قبل الانتقال إلى توافق بين المدنيين والعسكريين، بحسب تسريبات من البعثة.
وكان من المؤمل أن يزور فولكر بيرتس الجنينة الأسبوع الماضي، ولكن تظاهرات "مليونية 30 يونيو" أرجأت زيارته لبعض الوقت؛ فالرجل بات يقود ملف المحادثات بين المدنيين والعسكريين عقب قوة الدفع التي حصل عليها من الولايات المتحدة الأميركية التي تعاملت بفتور مع الحوار السوداني الذي تعثر قبيل انطلاقته في فندق السلام روتانا شرقي العاصمة الخرطوم، وحرّر اجتماعٌ بين قوى الحرية والتغيير والمكون العسكري بمنزل السفير السعودي وبحضور مساعدة وزير الخارجية الأمريكي "مولي في" في منتصف أيار/ مايو الماضي "شهادة وفاته"، وتلقى الحوار الضربة القاضية بـ"مليونية 30 يونيو" حيث وضع الشارع "خروج العسكريين من السلطة السياسية" هدفًا أساسيًا لثورته.
قد يسعى فولكر في "اجتماع الجنينة" مع نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي وقائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو للوصول إلى أرضية مشتركة بين الأطراف العسكرية والمدنية.
وكانت قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) قد فوّضت عضو المكتب التنفيذي للحرية والتغيير وعضو "لجنة التفكيك" المجمّدة بأمر قائد الجيش منذ انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي - للقاء مفوّض العسكريين الفريق ركن شمس الدين الكباشي. وقادت هذه العملية إلى شعور بعض الأطراف داخل المكون العسكري وحركات موقعة على اتفاق جوبا بأن ثمة إقصاءً لهم. وتأتي "اجتماعات الجنينة" لنزع فتيل هذه الأزمة مبكرًا عبر فولكر الذي يحظى بدعم الولايات المتحدة الأميركية للذهاب بعيدًا والوصول إلى اتفاق سياسي يُنهي الانقلاب العسكري ويعيد السلطة إلى المدنيين.
وكان مسؤولٌ في حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم قد حذّر من أن الاتفاق الثنائي بين العسكريين وقوى الحرية والتغيير قد يؤدي إلى اندلاع الحرب مجددًا، وأتى التصريح في إطار الاحتجاج على التفاهمات التي تمت بين العسكريين والحرية والتغيير.
تتعقد الأزمة في السودان بوجود صراع غير منظور بين العسكريين مع بعضهم؛ فإذا كان قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان قد رهن تسليم السلطة إلى المدنيين بالتوافق بين الأحزاب السياسية، فإنّ المدنيين ما فتئوا يذكّرونه في تصريحات متوالية بالالتفات إلى خلافات العسكريين قبل أن يرمي المدنيين بالشقاق والخلاف، باعتبار أن الخلافات بين المدنيين لا تنعكس على الأمن القومي أو استقرار البلاد.
التأثير الدولي خاصةً من الولايات المتحدة الأميركية قد يكون عاملًا في "الرمال المتحركة" تحت أقدام العسكريين لا سيما وأن واشنطن تتمسك بإنهاء الوجود الروسي في السودان، ويشمل الانزعاج الأمريكي شرقي البلاد على ساحل البحر الأحمر وتدعمها الرياض في هذا الاتجاه.
وفي تحرك أمريكي ضد الوجود الروسي في السودان، أبلغت مولي في مساعدة وزير الخارجية الأمريكي المسؤولين السودانيين علنًا بعدم رغبة بلادها في الوجود الروسي في السودان، واصفةً الملف بـ"الإستراتيجي" في نظر الولايات المتحدة.
وكي نضع الطلب الأمريكي في قلب المعادلة السياسية في السودان ينبغي أن نعود إلى تصريح "مولي في" نفسها خلال محادثة هاتفية مع قائد الجيش السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان لحثه على المضي قدمًا في العملية السياسية عشية "مليونية 30 يونيو". عملية سياسية لا تراها الولايات المتحدة الأميركية بمعزل عن الجيش، على عكس ما يعبر عنه المتظاهرون في الشارع مطالبين بخروج الجيش من السلطة السياسية والتنفيذية وانصرافه إلى مهامه العسكرية. غير أن واشنطن وقبلها رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك يعتقدون أنه "من الوَهْم إخراج الجيش من المعادلة السياسية" خاصةً وأن المجتمع الدولي يريد أن يثق في مؤسسة قوية تلبي شروطه وتضمن استمراريته.
لكن في الوقت نفسه، فإن مما يصب في صالح المدنيين أن الولايات المتحدة ترغب بشدة في وصول السودانيين إلى بناء جيش موحد، وهو طلبٌ قد يُهدّد الطموحات السياسية لقائد قوات الدعم السريع ونائب رئيس مجلس السيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو الذي لا يرى نفسه بمعزل عن هذه القوات إذا ما تعرض لضغوط للقبول بعمليات الدمج والتسريح وتكوين جيش موحّد.
لا ينظر المجتمع الدولي إلى الأزمة من منظور الثورة الشعبية ويُقدّم الاستقرار على الديمقراطية في السودان
بينما يرى المدنيون خاصةً داخل قوى الحرية والتغيير أن ملف الدعم السريع معقد وينبغي التعامل معه بالتدرج. وفي هذا الصدد، قال الوزير السابق بشؤون مجلس الوزراء والقيادي بالمؤتمر السوداني خالد عمر يوسف إن عدد جنود قوات الدعم السريع يُقدر بمائة ألف عنصر، محذّرًا من مغبة التطرف في التعامل مع هذه القضية. وأضاف في ندوة بالعاصمة الخرطوم قبل أسبوعين: "لا بد من التعامل مع هذه القضية بالتدرج عبر عملية سياسية وفنية تعتمد على عمليات التسريح والدمج، بدلًا عن المطالب الراديكالية التي قد تقود إلى حرب أهلية".
وقد لا ينظر المجتمع الدولي أو الأطراف الدولية المهتمة بالشأن السوداني إلى الأزمات التي تواجه هذه البلاد من منظور "الثورة الشعبية" في بلدٍ يُعاني من تعدد الجيوش والانقسامات، وهي قضايا قد تعصف بالاستقرار، والأخير في نظر الفاعلين الدوليين أكثر أهمية من الديمقراطية والحكم المدني.