* "من يأسه قال السلطان لنا: ما خلقتكم أنا
من يأسنا قلنا له: خلقتنا"1
"ليس بالإمكان أفضل مما كان"، كثيراً ما تخرج هذه العبارة أو مرادفاتها من أفواه بعض المحسوبين على "قوى الحرية والتغيير" السودانية عندما يوجه النقد أو الاتهام للاتفاق الذي تم بعد عملية التفاوض التي استمرت لأربعة أشهر مع المجلس العسكري. الاتفاق الذي نجح- ولأول مرة منذ اندلاع الثورة واصطفاف الجماهير خلف قيادتها المتمثلة في "تجمع المهنيين السودانيين" والقوى الموقعة على إعلان الحرية والتغيير - في تقسيم الكتلة الثورية إلى معسكرين متضادين وصلت درجة الخلاف بينهما حد التخوين. فمن جهة نجد المتشائمين (تٌقرأ الحالمين أيضاً) يرون أن الاتفاق، الذي منح المكون العسكري رئاسة ونصف عضوية المجلس السيادي بالإضافة إلى وزارتي الدفاع والداخلية، خيانة لأهداف الثورة ودماء الشهداء، خصوصاً بعد مجزرة القيادة العامة. نجد هؤلاء المتشائمين الحالمين يرددون عبارات "لم تسقط بعد" أو "لسنا ربيعاً لا نريد سوى الحديقة كلها" (في إشارة لثورات الربيع العربي) وهم يحلمون بتصحيح مسار الثورة وانفجار موجة ثالثة تطيح ببقايا النظام والمكون العسكري والخونة من قوى الحرية والتغيير، شاهرين سيوفهم ضد الكل في ملحمة مأساوية تشبه ملحمة أولئك الإسبارطيين الشجعان. في الجهة الأخرى نجد المتفائلين (تقرأ الواقعيين أيضاً) الذين يرون أن الاتفاق بصورة عامة مُرضٍ وأن الحكومة الانتقالية تستطيع العبور بالسودان إلى بر الأمان وتضميد جراحه من طعنات النظام السابق ورد الروح إليه. ورغم أن معظم هؤلاء الواقعيين يصنفون المكون العسكري كعدو إلا أنهم آثروا تأجيل المعركة معه إلى وقت آخر، رغم أن هذا التأجيل بدأ يتحول شيئاً فشيئاً إلى صمت وتجاهل تجاه جرائم المكون العسكري المستمرة حتى هذه اللحظة، الأمر الذي لم يجد المتشائمون الحالمون (المتربصون دومًا) من تسمية له سوى "التواطؤ".
اقرأ/ي أيضًا: السودانيون وعبء الحرية الثقيل
"ليس بالإمكان أفضل مما كان"، هذه العبارة رغم واقعيتها المفرطة إلا أنها لا تليق بثوري انخرط في النضال ضد ديكتاتورية عسكرية، ذات أيديولوجيا متجذرة في المجتمع، ومسيطرة على كل مفاصل الدولة، وانتصر رغماً عن ذلك. إن على الثوري أن يستبدل هذه العبارة المبتذلة بعبارة جيفارا الشاعرية "علينا أن نكون واقعيين، وننشد المستحيل"، العبارة التي يمكن أن تكون أدق تعريف للثورة. فالواقع في الحقيقة ليس سوى تجل النظام، ليس سوى الشروط التي وضعها والظروف التي حاكها لإقناع الناس بأنه الحقيقة المطلقة وما سواه جنون وهذيان. في المقابل فإن الثورة هي المستحيل، تقول روزا لوكسمبرغ "قبل قيامها تبدو الثورة مستحيلة، وبعد حصولها تبدو حتمية"، فالثورة هي الواقع، ولكنه واقع لم يخلق ولم يتجل بعد.
إذا اتفقنا أن المضمار الرئيسي للثورات هو المستحيل عينه فإن عبارة مثل "ليس بالإمكان أفضل مما كان" تفقد كل معنى لها وتصير محض تبرير وانهزامية
إذا اتفقنا أن المضمار الرئيسي للثورات هو المستحيل عينه فإن عبارة مثل "ليس بالإمكان أفضل مما كان" تفقد كل معنى لها وتصير محض تبرير وانهزامية. ولكن في المقابل علينا أن لا ننسى أن تحقيق المستحيل لن يتم بدون خلق تكتيك ثوري جديد أكثر نضجاً من ترديد عبارات مثل "لم تسقط بعد". إن ما يعاب على المتشائمين الحالمين هو نفاد صبرهم وقلة حيلتهم وتشتتهم وعدم قدرتهم على الانتظام. أي ببساطة لا جذريتهم. فالجذرية، في جوهرها، هي الالتزام بمشروع التغيير، الجذرية هي التقهقر المرحلي، ولكنه دائماً تقهقر من أجل الاصطفاف للمعركة القادمة .
اقرأ/ي أيضًا: السودان...الاتفاق السياسي وعودة خطاب الهامش
يرى تروتسكي أن الأزمة التاريخية التي تعاني منها الإنسانية تتلخص في أزمة القيادة الثورية. وهذا هو بالضبط ما حدث في ثورة ديسمبر 2018. إننا حين نتحدث عن القيادة الثورية فإننا لا نقصد قيادة الجماهير لإسقاط نظام ما، فالثورة كثيراً ما تقوم خارج الأطر الحزبية والتنظيمية، ولكننا نعنى القيادة الثورية التي تقود عملية التغيير بعد انتزاع السلطة. هذه القيادة لا يمكن إلا أن تتجسد في حزب ثوري قادر على تنظيم الجماهير لإنجاز التغيير الجذري الذي هو الهدف الضمني لكل ثورة؛ تحقيق الديمقراطية والاشتراكية. إن الحكومة الانتقالية غير قادرة على تنظيم الجماهير وتحريكها في هذا الاتجاه، فهي في نهاية المطاف حكومة خبراء هدفها الوحيد إسعاف الوضع الكارثي الذي خلفه النظام السابق.
وجود خطاب ثوري جديد، قادر على تحويل طاقات الناقمين والحالمين إلى فعل جاد وملتزم هو الخطوة الأولى لإنجاز"المستحيل الجديد"
أما الأحزاب المنضوية تحت "إعلان الحرية والتغيير" من أقصى يسارها حتى أقصى يمينها فقد سارعت بعد التوقيع على الاتفاقية بالعمل على حصد أصوات الناخبين المستقبليين، متجاهلة كل الأخطار والمهددات التي تقف أمام العملية الديمقراطية والمتمثلة بصورة رئيسية في وجود المكون العسكري في السلطة وتمدد أزرعه الاقتصادية وظهور معالم لمشروعه السياسي. بالنسبة لـ"تجمع المهنيين السودانيين" ممثل الشارع الرئيسي فقد انشغل بتنظيم بيته الداخلي استعداداً لمعركة النقابات التي ستهلكه وتفصله عن نبض الشارع أكثر فأكثر. في خضم كل ذلك تناضل "لجان المقاومة والتغيير" بالأحياء السكنية والقرى، لتعريف نفسها وتحديد مهامها المرحلية تتلاطمها أمواج الإستقطاب من جهة والتدجين عبر تحويلها إلى مجرد لجان خدمية مفرغة من حسها الثوري من جهة أخرى. إن وجود خطاب ثوري جديد، خطاب يستطيع أن يداعب الأشواق والرغبات المكبوتة تحت قناع الرضى بالواقع وفي نفس الوقت تحويل طاقات الناقمين والحالمين إلى فعل جاد وملتزم هو الخطوة الأولى لإنجاز اسميه هنا بـ"المستحيل الجديد".
1) الشاعر خالد حسن عثمان
اقرأ/ي أيضًا:
المجال العام للحراك السياسي في السودان.. مُقاربة نَقدِية